تعرفت على الدكتور محمد الرميحي حوالي العام 1977 من خلال ترجمته لكتاب فريد هاليدي "المجتمع والسياسة في الجزيرة العربية". ثم في سنوات تالية قرأت العديد من كتبه ومقالاته. وبدا لي أنه أكثر علماء السياسة المعاصرين إحاطة بقضايا الخليج العربي. اني لا أعرف شخصا آخر تمحض لهذا العمل طوال نصف قرن ، وعالجه من زوايا مختلفة ، باخلاص وتمعن قل نظيره.
ينتمي د. الرميحي الى شريحة من الاكاديميين الذين حافظوا على التوازن الصعب بين الالتزام العلمي/الاكاديمي ومتطلبات الحديث في المنابر العامة ، لا سيما الصحافة اليومية. هذا ليس بالأمر اليسير في الظروف السياسية والاجتماعية التي نعرفها. فالذين ارادوا الالتزام بالمعايير العلمية للكتابة ، لم يحصلوا على مستمع او قاريء ، فنحن نعيش في زمن سريع جدا ، لا يرغب أهله في المطولات ولا يحتملون التركيز على نصوص عسيرة.لكن الكتابة "الأخف وزنا" تضعك امام مشكلتين
أخريين: رقابة الرقباء والتفريط في معايير العلم. والرقباء ليسوا واحدا ، فثمة
رقابة رسمية وثمة رقابة شعبية ، وثمة فيما بينهما رقابة المنافسين والناشطين في
المجتمع او في السياسة. هذه الرقابة قد تدفع الكاتب رغما عن انفه ، نحو كتابة لا
تشير الى أحد فلا تزعج احدا ، كتابة رمادية لا تقول شيئا وان ملأت الصفحات.
من السهل ان تعلق الثياب الممزقة على مشاجب الاخرين وتمشي
خفيفا. هكذا فعل العديد من الكتاب: رموا مشكلات بلدانهم على مشجب التدخل الأجنبي
او الظروف الدولية ، او حتى المؤامرات المتعددة الأطراف ، وارتاحوا. اما المفكرين
الذين على شاكلة الرميحي ، فقد وضعوا اصبعهم على الجرح من دون مداورة. في تقديمه
لكتاب "اولويات العرب.. قراءة في المعكوس" ، يقول ان: "الركود
السياسي في بلادنا يؤدي الى عدم الاستقرار الداخلي ، وتظهر آثاره في أعمال الارهاب
من جانب ، او الهجرة المتدفقة الى الغرب من جانب آخر". ومن علامات هذا الركود
، ان العرب اعتادوا تجنب النقاش في مشكلاتهم الواقعية ، مع انهم يناقشون مشكلات
العالم كله. يقول الرميحي ان البيئة السياسية العربية متأزمة. لكن بؤرة التأزم
ليست قضايا يمكن للمجتمع ان يشارك في حلها ، أو انها في الأساس ليست جوهرية. العرب
مشغولون بالجدل حول من يتولى رئاسة الولايات المتحدة الامريكية ، أكثر من اهتمامهم
بسيادة القانون في بلادهم ، على سبيل المثال ، وهم مشغولون بتحولات القضية
الفلسطينية ، اكثر من انشغالهم بالمساواة والتنمية في مجتمعاتهم. ولهذا فهم
متشبعون بالسياسة ، لكنهم بعيدون جدا عنها.
من الاسئلة التي شغلت جانبا كبيرا من اهتمام د. محمد
الرميحي ، سؤال النهضة والتخلف ، ولا سيما حصة المجتمع العربي من المسؤولية ، اي:
ما الذي يجعل المواطن العربي هامشيا ، لا دور له ولا فاعلية ولا تأثير في حركة
السياسة ، على المستوى المحلي والخارجي؟.
يعتقد الرميحي ان النظام السياسي يتحمل جانبا من اللوم.
لكن الثقافة الموروثة تتحمل الجانب الاعظم منه. عقولنا مثقلة بالأوهام حتى لا نكاد
نرى الواقع الذي أمامنا. كان الاجتياح العراقي للكويت من الصدمات البليغة. ويحز في
النفس ان الذين قاموا بالاجتياح والذين أيدوه كانوا من دعاة الوحدة العربية. فاذا
كنا عاجزين عن اقامة هدنة فيما بيننا ، اي وقف اطلاق النار ، فكيف نتحدث عن
الوحدة؟. لماذا لا نناقش الاسباب التي تجعلنا عاجزين عن التسالم ، ثم عن التعاون ،
حتى نصل الى مرحلة النقاش في الوحدة. لكن الرميحي يعتقد ، كما في كتابه المثير
"سقوط الأوهام .. العروبة بعد غز العراق للكويت" ان ثقافتنا هي مصدر
العجز ، أو هي احد المصادر المؤثرة ، على أقل التقادير "لدينا ذاكرة عربية
مثقلة بكل مرارات الماضي وثارات التاريخ ، محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات
والنزعات العرقية والدينية ، وكلما وقفنا على أبواب المستقبل ، ردتنا هذه الذاكرة
الى الخلف – سقوط الاوهام 254".
لو سألت الرميحي : ما الذي علينا ان نفعل؟
لأجابك بأن المهمات كثيرة ، لأن جوانب التقصير عديدة
متنوعة. لكن دعنا نبدأ من مسارين: مسار يؤسس واقعا كريما ، ومسار يؤسس مستقبلا
منيرا. أما الاول فيتجلى في ضمان الحريات العامة وتوسيع مشاركة الجمهور في الشأن
العام (مجلس التعاون العربي ص 46) وأما الثاني فمحوره تصحيح الثقافة ، من خلال
التعليم وبقية المنابر المؤثرة. ثقافتنا الراهنة مصابة بخلط مضر بين ثلاثة مفاهيم
، هي الهوية والمعرفة والثقافة. وثمة من يتوهم ان الانفتاح على معارف الانسان خارج
حدودنا ، سوف يجرح الهوية او يزاحمها. كما ان هناك من يعتقد انه قادر على تحجيم
التحولات الثقافية التي يعرفها عالم اليوم ، وحشرها في قوالب يتوهم انها حدود
الهوية. لكن الواقع ان ما يفعله مجرد انفصال عن عالم اليوم ، انفصال يتعاظم حتى
يصبح جزءا من التاريخ. نحن بحاجة الى تصحيح ثقافتنا ، كي نستطيع فهم العالم بصورة
صحيحة.
الجزيرة. الأحد 15 ديسمبر 2024 https://www.al-jazirah.com/2024/20241215/ca11.htm
مقالات ذات علاقة
اصلحوا
دنيانا ودعوا لنا الآخرة
التفكير
الامني في قضايا الوحدة الوطنية
في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء
مغامرات العقل
وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي