‏إظهار الرسائل ذات التسميات فريدريك فون هايك. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فريدريك فون هايك. إظهار كافة الرسائل

27/11/2025

سيرة الانسان العاقل

 

لفت انتباهي هذا الأسبوع حديث قصير بعنوان "العقل الذي يخدعنا .. هل نثق به" للأكاديمي المعروف الدكتور صالح زياد ، على قناته في يوتيوب. وهذه حلقة في سلسلة حول مفهوم العقل ، خصصها للمقارنة بين مفهوم قديم ، فحواه ان العقل جوهر مستقل عن الجسد والمحيط ، وان استقلاله يتيح له ان يكون حاكما محايدا على ما سواه ، مقابل مفهوم حديث يركز على حدوده ، ولا سيما التأثير العميق لتجربة الانسان الحياتية ، والمحيط العائلي والاجتماعي على ما نسميه "التفكير".

د. صالح زياد

وقد شرح الدكتور صالح الفكرة ، فجعلها سهلة المنال ، مع ما تنطوي عليه من تعقيد في الأصل. وودت ان اضيف شيئا الى تلك المقاربة ، مركزا - كما سيأتي - على التصور الحديث لمفهوم العقل ، وما يواجه من تحديات وقيود ، حيث يشكل الصراع بين إرادة الانسان لادارة حياته ، وبين تلك التحديات والتقييدات ، جوهر النشاط العقلي ، وهو أيضا الحقل الذي يشهد ولادة الأفكار الجديدة. 

السلوك الإنساني ، وهو عفوي في معظمه ، انعكاس لصورة العالم في ذهن الانسان. ان فهم الظواهر الاجتماعية ، أي نتائج السلوك البشري في النطاق الاجتماعي ، يبدأ بافتراض مسبق ، فحواه أن هذا السلوك يتحرك بين دافعين: الاهواء والنزعات الانفعالية ، التي نعرفها عموما باسم "العاطفة" ، والحس السليم ، الذي نعرفه عموما باسم "العقل". ليس من الانصاف ، الادعاء بان العقلاني هو فقط ما ينتجه الحس السليم ، وأن الاهواء والنزعات ينتجان على الدوام قرارات غير عقلانية.

نعلم ان العاطفة هي الهدف الذي تتجه اليه الدعاية بمختلف مقاصدها ، السياسية والتجارية والأيديولوجية وغيرها ، فالدعاية كما نعلم لا تركز على اقناع الناس بقضايا مثبتة علميا او منطقيا ، بل تحاول استثارة عواطفهم وغرائزهم كي يستجيبوا لما تريده منهم. ولهذا أيضا يميل كثيرون الى اعتبار الأهواء والنزعات العاطفية والغريزية ، أقوى أثرا في قرارات الانسان وحياته اليومية. لكن اطلاق هذا القول على عواهنه لا يخلو من مبالغة.

لا نريد هنا نفي التأثير الكبير للعاطفة. بل تأكيد حقيقة ان هيمنة الحس السليم/العقل عليها ، تظل – في الصورة الكبيرة – اقوى واعمق أثرا. إن اقوى دليل على ان الانسان اكثر استجابة لدواعي العقلانية في المعنى الثاني ، أي اتباع الحس السليم ودواعي الخير في نفسه ومحيطه ، هو التقدم الذي حققته البشرية خلال تاريخها الطويل ، التقدم على مستوى العلوم والفنون ونظم المجتمع ، وعلى وجه الخصوص الإقرار المتبادل بحقوق الآخرين ، حتى في حال العداء والحرب ، كما هو الحال في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة ، التي تشكل في مجموعها إطار عمل يسنده اتفاق بين جميع دول العالم ، على القواعد الضرورية للتخفيف من وحشية الحرب ، مثل ضمان سلامة الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال ، رغم وجودهم في الميدان (المدنيون والمسعفون وموظفو الإغاثة) وكذا الجنود العاجزون عن القتال بسبب الجروح أو الاسر او غيرها. ومثله أيضا التقدم الواسع في مجال التعاقدات والضمانات العرفية والقانونية للعقود ، فضلا عن الإقرار الاجتماعي بحقوق الافراد والجماعات. فهذه وتلك تبرهن على ان الحس السليم واعتماد التضامن والتكافل والانصاف بين البشر ، كان ولا يزال هو الغالب على حياتهم وتعاملاتهم ، اذا أخذنا بعين الاعتبار مسارا تاريخيا طويلا.

ليس مستبعدا إن يكون المسار التقدمي للبشرية عبر التاريخ ، نتاجا لتجربة الصراع بين العاطفة والعقل. وفقا للفيلسوف البريطاني فريدريك فون هايك ، فان السلوكيات التي ترمز للعقلانية ، مثل الوفاء بالعهود ، كانت ثمرة لاكتشاف الانسان مبكرا ، بأن التبادل مع الآخرين يسهل حياته وأن استمراره وتطويره ، يقتضي التزام كافة الأطراف بالواجبات التعاقدية. وفقا لهذه الرؤية فان الهيمنة النسبية للعقل على حياة الانسان اليومية ، مكنته من التكيف مع متطلبات الحياة وما يتولد في سياقها من تحديات ، وجعلت حاضره خيرا من ماضيه.

الخميس - 06 جمادى الآخرة 1447 هـ - 27 نوفمبر 2025     https://aawsat.com/node/5213279

مقالات ذات صلة  

اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟

سيرة الانسان العاقل

  لفت انتباهي هذا الأسبوع حديث قصير بعنوان "العقل الذي يخدعنا .. هل نثق به" للأكاديمي المعروف الدكتور صالح زياد ، على قناته في ...