‏إظهار الرسائل ذات التسميات بنديكت اندرسون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بنديكت اندرسون. إظهار كافة الرسائل

20/06/2024

الثقافة كصنعة حكومية

الحكومات هي الجهة الاقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات اخرى قادرة على احداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا احد يباري الحكومة في قدرتها على انجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الامريكي بنديكت اندرسون ، التي أقامت أساسا متينا لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى اندرسون ان تكوين هوية الامة او الجماعة الوطنية ، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية ، وتحديد الفقرات التي ستشكل "التاريخ الرسمي للبلد" والذي سيكون – في نهاية المطاف – المرجع الرئيس للهوية الوطنية.

لو نظرنا الى واقع الحياة ، فسوف نرى ان غالبية الناس ، يعرفون انفسهم من خلال الأوصاف التي اخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلا معرفتك بآبائك وأجدادك ، كيف توصلت اليها.. اليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك او جيرانك. حسنا ، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة او مبتسرة او نصف حقيقية ، او هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف ، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟.

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية او قبلية او تجربة تاريخية من أي نوع ، فاعلم انها ليست سوى روايات الآخرين ، التي قد تكون دقيقة محققة ، وقد تكون مجرد "سوالف" ، هذا ما أسماه اندرسون "جماعة متخيلة" اي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والامم ، بلا استثناء ، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون ايضا عن دور الطباعة ، اي الكتب والصحافة المطبوعة ، التي انتجت ما يمكن وصفة بثقافة معيارية مشتركة ، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب ، اي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الاساس الأولي لما نسميه "العرف العام". لا ننسى أيضا دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية ، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية ، مستندة الى تاريخ انتقائي او فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك اذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها ، لأنها تملك كافة الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقا الى ان كافة الحكومات قد استثمرت هذه الامكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى اي حد ينبغي للحكومة ان تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة ان تتحول الى صانع لثقافة المجتمع ، ام تكتفي بارساء الارضية اللازمة للمصلحة العامة او النظام العام؟.

توصلت في دراسات سابقة إلى ان الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية ، ترغب اجمالا بتبني الحكومة لدور صانع الثقافة العامة ، بل وما هو أبعد من ذلك. اما في المجتمعات الصناعية ، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة الى تقليص دور الحكومة في هذا المجال ، واقتصاره على دعم الهيئات الاهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز الى الدور التحديثي للدولة ، وفق رؤية ماكس فيبر ، ابرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الادارة الحكومية دورا محوريا في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد ، وصولا الى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. اما في المجتمعات الصناعية فان مهمة التحديث منجزة فعليا ، وان الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي ، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها ، الحرية التي لا يريد الانسان الحديث ان تتقلص او تمسي عرضة للاختراق ، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة ان تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه ، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا ان المجتمع لن يفعل شيئا ما لم تبادر الحكومة اليه. وهذا امر محتمل جدا. لكني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة ، اي ان الحكومة تملك كل شيء فعليها ان تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة ، فربما يتغير الحال ، ولو بعد حين.

الشرق الاوسط الخميس - 14 ذو الحِجّة 1445 هـ - 20 يونيو 2024 م https://aawsat.com/node/5032468

 مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة

 

14/09/2022

كيف تشكلت الهوية الوطنية


حين نشر بنديكت اندرسون كتابه المسمى "مجتمعات متخيلة Imagined Communities" أثار موجا من الأسئلة ، التي تراوحت بين السخرية والتعبير عن الاعجاب والدهشة. ومنذ طبعته الأولى في 1983 واصل الكتاب انتشاره ، وترجم الى لغات عديدة ، بينها العربية ، وتحول الى واحد من أبرز المراجع المتعلقة بالقومية وفكرة الأمة.



اعانني هذا الكتاب على فهم نقاط غامضة في بحث الدولة القومية وبناء الأمة. كما أجاب على بعض الأسئلة المحيرة. أذكر مثلا سؤال المفكر المعروف د. محمد الرميحي عن سر تفاقم التعصب القبلي والديني ، رغم انتشار التعليم في مجتمعات الخليج. بينما كانت دراسات التنمية في المجتمعات التقليدية ، تتوقع تراجع الهويات الفرعية ، كلما تحسن مستوى المعيشة وانتشر التعليم والاعلام. وقد سمعت هذا السؤال نفسه من باحث امريكي ، بعدما لاحظ انتشار مواقع الانترنت والمنتديات الالكترونية الخاصة بالقبائل ، في أوائل القرن الجديد.

مسألة التعصب والتسامح لم تكن موضع اهتمام اندرسون. فالهدف المحوري لنظريته هو تفسير ظهور الأيديولوجيا القومية. إلا ان ملاحظاته العميقة القت ضوء كاشفا على العديد من الأسئلة المتصلة بالموضوع ، مثل دور الثقافة المكتوبة في توحيد الصورة الذهنية لتاريخ المجتمع (التاريخ الواقعي او المتخيل).

قدم اندرسون تفسيرا معقولا لظهور الهوية الوطنية في الدول الجديدة ، ومبررات تمايزها عن الشعوب/الدول التي تشاركها في الثقافة او التاريخ. أسئلة كهذه تعين على فهم المجتمعات العربية في الشرق الأوسط ، التي كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية ، ثم استقلت وبات كل منها أمة منفردة او شعبا قائما بذاته.

يعتقد اندرسون ان المجتمعات الحديثة قررت ، في وقت ما ، ان تتحول الى أمم. في الماضى كان الرابط بين الناس هو الدين او اللغة او الجغرافيا. اما اليوم فان الرابط الواقعي الوحيد ، هو اسم الدولة والحدود الإقليمية التي يعترف بها العالم. ربما ينتمي هؤلاء الذين داخل الحدود الى دين واحد او اديان متعددة  ، ربما يتحدثون لغة واحدة او لغات مختلفة. ما هو مهم هو رغبتهم في تكوين جماعة سياسية وقانونية واحدة ، أي ما نسميه اليوم بالشعب او الامة. في بعض الأحيان تبدأ العملية باتفاق بين غالبية الناس ، وفي أحيان أخرى تبدأ بقرار من النخبة الحاكمة.

الهوية الوطنية ليست موجودا أزليا ، بل كائن يصنعه أصحابه من خلال تطوير فهم مشترك للذات والتاريخ. هذا الشرح يجيب اذن على سؤال: حين نقول اننا شعب
او أمة.. فما الذي جعل هذا الجمع من الناس شعبا او أمة واحدة. بعبارة أخرى: كيف تصنع الأمة نفسها ، كيف تربط بين الاف الناس الذين لا يعرفون بعضهم ولا يربطهم نسب واحد ، فتحولهم الى شعب واحد او امة واحدة؟.

وفقا لاندرسون فان كل أمة تصنع "اسطورة تاريخية" أي لقطات منتقاة من التاريخ ، تعزز الاعتقاد باننا "كنا دائما على هذا النحو ، متفقين ومنتصرين". وهنا يأتي دور الثقافة الموحدة (التي تلقن لتلاميذ المدارس مثلا) والتي يجري انتاجها على ضوء تلك الفرضية ، ثم تنشر عبر البلاد ، كي تؤسس فهما مشتركا للذات والمستقبل ، إضافة الى الموقف من المجتمعات الأخرى الواقعة خارج الحدود.

من النقاط التي أثارت اهتماما كبيرا ، قول اندرسون بان ظهور الطباعة التجارية قد ساهم في "صناعة" فهم مشترك وذهنية متقاربة ، كما وحد لغة التعبير عن الذات المشتركة ، أي اوجد شيئا يشبه ما نسميه اليوم "لغة الخطاب الرسمي". هذا يشير الى أهمية وجود جهة تخطط وتعمل لبناء هوية وطنية مشتركة ، فان لم توجد فسوف تتولى القبائل والجماعات الدينية صناعة هوياتها الخاصة. اظن ان شيئا من التأمل في آراء بنديكت اندرسون ، سيوضح اننا كنا نسير في الطريق الذي وصفه.

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 صفر 1444 هـ - 14 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15996]

https://aawsat.com/node/3872366

07/09/2022

مسيرة الهويات القاتلة


التفكير في قضايا الهوية الفردية ونظيرتها الجمعية/الوطنية ليس جديدا. وقد وردت تعبيرات عن المسألة ، ومعالجات لبعض اشكالياتها في التراث القديم للعديد من الأمم ، ومنها الإسلام. لكن دراستها بشكل معمق ومتخصص ، ترجع الى النصف الثاني من القرن العشرين فحسب.

اريك اريكسون (1902-1994)
ومع كل حديث عن مسألة الهوية ، يقفز الى ذهني ثلاثة مفكرين ، اشعر انهم رسموا خريطة هذا الحقل.  سوف اتحدث اليوم عن اثنين ، واترك الثالث ، وهو بنديكت اندرسون ، لمقال آخر. أما الأول فهو إريك اريكسون ، الطبيب النفسي الذي اعتقد انه وضع الأساس العلمي لبحوث الهوية الفردية في الاطار السيكولوجي ، وحدد مسارات تشكلها والعوامل المؤثرة فيها. وقد اتخذ من حياته الشخصية ، بين المانيا والدانمرك والولايات المتحدة ، مادة لدراسة تحولات الهوية لدى شخص مختلف عن المحيط (يهودي بين البروتستانت/علماني بين متدينين). درس اريكسون الكيفية التي تتشكل فيها ذهنية الشخص ، ورؤيته للعالم ، من خلال تفاعله مع المحيط: كيف يتأثر بارادات الناس في محيطه وبطريقة تعبيرهم عنها ، وكيف يستجيب لهذه الإرادات ، التي لا يصرح بها أحد ، لكنها واضحة جدا في التعاملات اليومية.

اما الثاني فهو امين معلوف ، الاديب اللبناني الذي هاجر الى فرنسا فرارا من الحرب الأهلية ، فاستعاد في سلامها نفسه التي أرادت مصالحة المختلفين ، من خلال تخيل احوالهم وادراك معنى الحياة في عيونهم وعقولهم. اختار معلوف اسم "الهويات القاتلة" لكتابه المتعلق بمسألة الهوية ، وهو رسالة صغيرة الحجم عظيمة القيمة ، بل استطيع القول انها نادرة في بابها. وأظن ان أبرز العناصر التي أوضحت قدراته التحليلية الباهرة ، هو تفسيره لتحول الهويات العادية ، الى هويات صلبة ، ثم تحولها من مظاهر تنوع واختلاف عادي ، الى متراس لحماية الذات ومصارعة الآخرين. لم تكن الحرب الطائفية ممكنة – وفق تصوير معلوف – لولا نجاح امراء الطوائف في تحويل الفارق الطائفي الى حدود سياسية واجتماعية ، تشدد على خصوصية "الجماعة" وتبالغ في استذكار حقوقها ، والتشديد على اغتصاب هذه الحقوق من قبل الآخرين.

تصليب الهوية هذا يبدأ مساره بإعادة تعرف الفرد على نفسه ، من خلال انتمائه الأكثر عرضة للتهديد. لو كان الانتماء القبلي هو الذي يتعرض للتحدي ، فسوف يجري تصليب الانتماء الى القبيلة ، وتتحول الهوية القبلية الى مزاحم لكافة الهويات الأخرى. ولو كان التحدي متجها للانتماء الديني او المذهبي او القومي او العرقي ، فسوف تنطلق عملية تصليب لهذا الانتماء ، حتى يتحول الى هوية حاكمة.

تولد الهوية القاتلة – وفقا لهذا التصوير – حين يتحول التحدي الى خطر فعلي ، له آثار مادية ملموسة. ففيها يتحول الدفاع عن الهوية الى دفاع عن الوجود. وينطلق سياق جديد يركز على تضخيم الذات ، وتسقيط الطرف الآخر ونفي فضائله ، بحيث تتحول مواجهته بالعنف المادي او اللفظي ، الى عمل مشروع او مقبول أخلاقيا.

الواقع ان معظم الصراعات العنيفة ، يجري تبريرها بهذه الطريقة: تضخيم صورة الخطر الذي يتهدد الجماعة ، واستخدام الرموز الثقافية ، سواء كانت قومية او دينية او حتى أدبية وفولكلورية ، في اقناع افراد الجماعة بأن كلا منهم مستهدف في شخصه وفي عائلته ، وان الدفاع عن الانتماء الجمعي هو دفاع عن الذات الفردية. ولو رجعت الى الادبيات المستعملة في الصراع ، لوجدتها تركز على تضخيم الذات ، وتضخيم الخطر الخارجي ، وتحقير الطرف المقابل وتسويغ العدوان عليه. هذه ببساطة مسيرة الهويات القاتلة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 صفر 1444 هـ - 07 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15989]

https://aawsat.com/node/3859316

20/01/2021

في ان "الامة" مخلوق حديث

 أميل للظن بان كافة المجتمعات العربية ، قد شهدت في نصف القرن الأخير ، جدلا حول المسافة بين الدولة القومية (او القطرية كما يصفها القوميون العرب) وبين الامة العربية (او الإسلامية كما يرى الحركيون الإسلاميون). 

ويحب الإسلاميون الاستدلال بآيات القرآن التي تخبرنا أن "المسلمين أمة" وانهم خير الأمم. كما يؤكد القوميون العرب (ومعهم بعض رجال الدين التقليديين) على خصوصية العرب ضمن الأمة الإسلامية ، وان الله فضلهم على سائر الأقوام. ويستشهدون أحيانابروايات تنسب للنبي (ص) في تأكيد هذا المعنى.

ولايخفى ان مفهوم "الأمة" الذي نتداوله اليوم ، غير الذي عرفته الازمان السابقة. حين تذكر عبارة "الأمة العربية" يستذكر الانسان صورة الخريطة التي تبدأ بالعراق شرقا حتى موريتانيا في اقصى الغرب. وحين تذكر عبارة "الامة الإسلامية" فسوف تستذكر عبارة المرحوم مالك بن نبي "من طنجة الى جاكرتا". أي ان المعنى المتولد من كلمة "امة" هو جمع ضخم من البشر ، الذين يربطهم عامل مشترك ، كاللغة او الثقافة أو الدين او التاريخ الواحد.

وما هو مهم في هذا المعنى هو ان عوامل الاشتراك تلك ، تولد الزامات من نوع ما ، على كل فرد تجاه الآخرين. أي ان اشتراك الناس في عرق واحد او لغة واحدة (العرب مثلا) ينشيء بذاته قيمة جديدة ، تترتب عليها حقوق او واجبات. فمن ذلك مثلا قول الإسلاميين بأن ولاء الفرد لأمة الإسلام ، مقدم على ولائه لبلده ، وقول القوميين العرب بان كل عربي عليه واجب السعي للوحدة العربية ، او بعض تمثلاتها او تمهيداتها. بمعنى ان اكتشاف الفرد للعامل المشترك بينه وبين الاخرين ، يكشف في الوقت عينه عن واجبات او حقوق ، لم تكن قائمة قبل هذا الكشف.

 لكن تلك المعاني لم تكن معروفة في زمن النص. ولو تأملت في آيات القرآن ، لما رأيت أي دلالة على التطابق بين لفظة الامة وبين القيم المدعاة. وحتى النصوص التي تدعو للتكافل والتراحم ، من قبيل الحديث المشهور " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد.." فالقدر المتيقن من معناها ، متحقق في الإشارة للمجتمع الصغير المحيط بالإنسان ، مثل جيرانه واهل قريته ، وليس أناسا يبعدون عنه الاف الأميال. أما لفظ الأمة الوارد في القرآن ، فهو ينصرف الى تصنيفات عديدة ، لايجمع بينها غير اشارتها الى الجمع (قليلا او كثيرا) وليس ثمة إشارة الى رابط ثقافي او ديني او غيره. بل لقد عبر القرآن عن الحيوان بلفظ "أمم أمثالكم" مما يستبعد ضرورة الرابط الثقافي.

لقد "اكتشفنا" أمة الإسلام يوم قرأنا الجغرافيا ، واكتشفنا "امة العرب" بعد اختراع الراديو والطباعة. لقد ساعدت الطباعة التجارية -كما راى بنديكت اندرسون- في اكتشاف عناصر الاشتراك بين الشعوب ، ومن ثم تقريبها الى درجة التوحد. وبذلك تخلقت "أمة واحدة" هنا ، وامة أخرى هناك. انسان العصور الحديثة هو الذي خلق الامة: الامة العربية والأمة الإسلامية ، وكافة الأمم الأخرى.

اعود للتذكير مرة أخرى باننا نتحدث عن هذا الاطار البشري الكبير جدا ، الذي يفترض "الدعاة الامميون" ان مجرد وجوده ، ووجود عناصر التماثل بين أعضائه ، ينشيء قيما جديدة ، وتتولد على ضوئها او بسببها واجبات وحقوق جديدة.  اذكر بهذا كي أقول ان هذه الفرضية تنطوي على تكلف لا ضرورة له. التماثل في الدين او الثقافة او السمات او العرق ، يشير الى حالة ثقافية ، وربما يولد موضوعا للوصف والتفكير ، لكنه لا يصلح – بذاته – كأساس لتوليد الزامات على أعضائه او على غيرهم.

الشرق الأوسط الأربعاء - 7 جمادى الآخرة 1442 هـ - 20 يناير 2021 مـ رقم العدد [15394]

https://aawsat.com/node/2752431/

مقالات ذات صلة

ان تنتمي الى قوم بعينهم

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

التنوع في اطار الوحدة

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمراجعة مفهوم الامة/القومية/الوطنية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة الترابكتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

المساواة والعدالة ديفيد ميلر

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنةمقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

06/05/2015

بين هويتين



ليس من طبائع المجتمعات ان تتوحد "قلبا وقالبا" كما يقال في الادب. هذا خلاف سنن الحياة الطبيعية. في كل مجتمع ، صغيرا كان او كبيرا ، مصالح متفاوتة وتطلعات مختلفة واراء متباينة وتجارب متنوعة ، يمثل كل منها أرضية اختلاف. يتحدث الباحثون في علم الاجتماع عن "دوائر مصالح" متنوعة ، كل منها يمثل اطارا يجمع طائفة من الناس حول فكرة او عاطفة او مصلحة مادية.
بندكت اندرسون
تعبير "مصالح" المستعمل هنا تعريب مقرب للاصل الانكليزي interests. وقد حرصت على هذه الاشارة لأن لفظة "مصالح"  في العربية المتداولة تشير غالبا الى امور مادية ، بينما يشير التعبير الاجنبي الى نطاق أوسع ، يشمل مثلا كل موضوع يجتذب اهتمام الانسان أو يحركه. وهو في هذا التعريف الواسع يشمل مختلف العناصر التي تحرك مشاعر الناس او تدفعهم للاجتماع مع بعضهم او توحيد نشاطاتهم.
هذه اذن طبيعة المجتمعات وهكذا تعيش. ثمة من يجتمع حول نسب واحد فيشكلون عائلة او قبيلة. وثمة من يجتمع حول قضية واحدة فيشكلون شركة تجارية او نقابة او جمعية مهنية او حزبا سياسيا او جماعة دينية او ثقافية وهكذا. كل واحدة من هذه التجمعات هي دائرة مصالح ، اجتمعت فيها شريحة من الناس ، طمعا في ان تحقق بعض ما يريدون.
بنظرة عامة نستطيع القول ان دوائر المصالح هذه نوعان: اولها عمودي موروث ينضم اليه الانسان بالولادة لا بالاختيار. فالانسان لا يختار انتماءه الديني والمذهبي والعرقي والقبلي ، فهذا ينتقل بين الاجيال بالوراثة. اما النوع الثاني فهو الافقي الذي ينضم اليه الانسان اختيارا ، ويتركه اذا شاء ، وقد يطلق عليه التعاقدي. ينضم الانسان الى جمعية تجارية او حرفية او سياسية او خيرية اذا شاء ويتركها اذا شاء.
لاحظ دارسو علم الاجتماع ان النمط الاول هو السائد في المجتمعات التقليدية ، بينما تتسم المجتمعات الحديثة بانتشار النمط الثاني. احد الاسباب هو سيادة مفهوم الاختيار والتعاقد القائم على تقدير الفرد لنفسه ، و- بشكل عام – ارتفاع قيمة الفرد والمبادرة الفردية في المجتمعات المتقدمة ، بخلاف نظيرتها التقليدية التي لا تمنح الفرد سوى قيمة ثانوية.
لاحظ الباحثون ايضا ان النمط الاول هو الاطار الاكثر شيوعا للتعصب والصراعات الطويلة الامد. اذا جرى شحن الانتماء القبلي او الديني او المذهبي او العرقي بمضامين سياسية ، فانه سيشكل قاعدة لتنازع مزمن ، بخلاف النمط الثاني الذي لا يخلو – هو الاخر - من تعصب ولا يحول دون انفجار صراعات ، لكنها قصيرة الأمد وقابلة للتفكيك والمعالجة باجراءات غير مكلفة. هذا هو السبب الذي يجعلنا نقول بان منظمات المجتمع المدني توفر اداة فعالة لتفكيك البنية الثقافية – الاجتماعية للتعصب ، وتسويد لغة الحوار والتفاهم بين الشرائح الاجتماعية من جهة ، وبينها وبين الدولة من جهة اخرى.
يفسر التقسيم السابق ايضا اسباب تصاعد المشاعر القبلية والطائفية مع انتشار وسائل الاعلام واتساع التعليم ، مع ان المفترض هو العكس تماما. وهذه احدى المسائل الرئيسية التي عالجها بندكت اندرسون في كتابه المرجعي "مجتمعات متخيلة".
تشجيع الناس على صب تطلعاتهم في اطارات حديثة تعاقدية ، أي تحويل مفهوم المصلحة من الانتماءات الموروثة الى الانتماءات الحديثة ، سيؤدي تدريجيا الى تفريغ الانتماءات التقليدية من مضمونها السياسي واضعاف قابليتها للشحن السياسي. لهذا تهتم الانظمة السياسية الحديثة بتشجيع ودعم المجتمع المدني في مختلف تعبيراته وتمثلاته ، حتى لو اتخذ – في بعض الاحيان – مسارات غير متوافقة مع سياسات الدولة الرسمية.  الامر ببساطة اختيار بين من يعارض الدولة في مجال محدد وبين من يعتبرها كينونة غريبة بناء على تبرير ديني او أثني او قبلي.
الشرق الاوسط 6 مايو 2015
http://goo.gl/E0po9W

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...