كان انفجارالمعمل النووي في تشرنوبيل
باوكرانيا عام 1986 اوضح اشارة لما يمكن ان تفعله التكنولوجيا بالبيئة ، والذي حدث
في تشرنوبل كان عبارة عن تشققات صغيرة ، ادت الى انهيار في جدران المفاعل ، واطلقت
كمية هائلة من الاشعاعات الضارة ، ادت الى
القضاء على امكانات الحياة في مناطق شاسعة حول المعمل ، لسنوات طويلة في
المستقبل ، قدرت بثلاثة قرون في المنطقة المتاثرة مباشرة بالاشعاع ، اما التاثيرات
غير المباشرة ، فقد وصلت الى اراضي السويد في شمال اوربا .
وفي حادث اخر ادى تسرب النفط الخام ، من ناقلة
تابعة لشركة اكسون الامريكية عام 1989 الى تلويث بحيرة في الاسكا ، وسبب اضرارا
على البيئة الطبيعية ، قدرتها المحكمة بما لايقل عن بليون دولار ، ويشير كلا
الحادثين وغيرهما من حوادث التلوث ، الى حقيقة ان التكنولوجيا التي يستمتع البشر
بنتاجها ، ليست بلا ثمن ، بل لم يكن ثمنها سهلا ، وتلك طبيعة الحياة ، اذ ليس
بالامكان ان يحصل الانسان على كل مايريد ، دون ان يدفع الثمن الذي سيكون في معظم
الاحيان باهضا .
التنوع
البيـئي
يؤدي تلوث البيئة الى تدمير تدريجي لما يسميه
الخبراء بالتنوع البيئي ، فحياة البشر والحيوان والنبات والكائنات الصغيرة الاخرى
، هي حلقات في سلسلة متصلة ببعضها ، تتكامل مع المكونات الاخرى للطبيعة ، كالماء
والهواء والتراب ، وما يحتوي عليه كل منها من
عناصر ، ان القضاء على اي جزء من هذه السلسلة يجعل الحياة صعبة ، او مكلفة
، وفي بعض الاحيان مستحيلة في الحلقات الاخرى .
وقد ادى الخوف من التاثيرات السلبية
للتكنولوجيا ببعض الناس ، الى محاولة اثبات فوائد العيش على الطبيعة ، وتجنب
استعمال المواد والاجهزة التي يحتمل ان تخلف اثارا ضارة على البيئة .
لكن
لايبدو ان مثل هذا الاتجاه قابل للنمو ، او التحول الى تيار واسع في العالم ،
فالجماعات المعارضة لانشار التكنولوجيا النووية ، حتى في الاغراض السلمية ، ينتمون
جميعا الى الدول المتقدمة ، بينما لايتوقع ان يشهد العالم الثالث حركة معارضة
للانتشار النووي ، بل ان ابناء الاقطار النامية سيرحبون على الارجح ، بتنامي الاستفادة من الكنولوجيا النووية في
بلادهم ، بغض النظر عن المخاطر التي قد تنجم عنها ، فالعالم الثالث يفتقر الى الحد
الادنى من مقومات الحياة المتقدمة ، بخلاف الدول الصناعية التي يتمتع ابناؤها بكل
ماتوصل اليه العلم من وسائل ، ومن ضمنها امكانية الاستغناء عن نوع معين من
التكنولوجيا بانواع اخرى تقوم مقامها ، مثل استبدال مصادر الطاقة المسببة للتلوث
بمصادر اخرى نظيفة ، وهو مالا يتوفرفي البلاد الفقيرة او التي لازالت في طور النمو
، مما يجعل اي نوع من التكنولوجيا ، موضع
ترحيب ، بغض النظرعن اضراره .
الضرورات والترف
ويبدو
ان هذا ايضا هو تقدير الدول الصناعية ،
ففي مؤتمر للبنك الدولي شكا ممثل تايلند ، من
ان المصانع التي تبيعها اليابان الى بلاده ، تنتمي جميعها الى الاجيال
القديمة تقنيا ، والتي لاتتوفر فيها
تجهيزات للسيطرة على النواتج الملوثة ،
فاجابه مندوب اليابان بان سعي الاقطار النامية لتكنولوجيا نظيفة ، هو نوع من الترف
غير مقبول .
على ان قلة الاهتمام بالبيئة في الدول النامية
، قد تؤسس لمشكلات كبرى لاتظهر بجلاء في الوقت الراهن ، لكنها ستكون شديدة الوقع
في المستقبل ، واذا كانت بعض الاقطار قد بدأت بوضع قوانين للسيطرة على حجم
التلوث ، من المتوقع ان يكون لها اثار
طيبة على مستوى نظافة البيئة ، فاننا بحاجة الى اهتمام اوسع ، ياخذ بعين الاعتبار
مجموع العناصر التي يتشكل منها موضوع المحافظة على البيئة ، اهتمام رسمي ووعي شعبي
، يستهدف بالدرجة الاولى المحافظة على
الجزء الجوهري من الموضوع ، وهو التنوع البيئي .
اختلاف العناوين
ان غياب سياسة واضحة تدعمها اجراءات تنفيذية ،
وغياب الحديث عن قضايا البيئة في وسائل
الاعلام ، قد ادى الى تطبيع القضاء على التنوع البيئي ، في الوقت الذي تنفق اموال
طائلة ، لاستعادة مايجري القضاء عليه باستمرار ، ان اختلاف العناوين والمسميات ، يلعب هنا دورا فعالا في
اقامة تسلسل متعارض ، طابعه العام غياب المنطق ، من ذلك مثلا القضاء على الريف ، ثم الانفاق على اقامة الحدائق ،
والقضاء على التكوين الطبيعي للشواطيء ،
ثم اقامة شواطيء اصطناعية للنزهة .
وبالنسبة لبلادنا فان ما يواجهها من مشكلات
بيئية ، لايزال في حده الادنى ، وتلك نعمة
من الله تعالى تستحق الشكر ، لكن لاينبغي التهوين
من الاحتمالات السيئة في المستقبل ، اذ ان قلة الاهتمام ، او تهوين المخاطر
قد يكون هو بالذات ، المدخل الى تضخيمها وتعميقها .
نظرة الى المستقبل
فلنأخذ مثلا تاثير الاسكان على البيئة ، فقد ادى
النمو الاقتصادي الى تمدد معظم المدن والقرى ، وجاء هذا التمدد في كثيرمن الحالات
على حساب الاراضي الزراعية المحيطة ، وفي المناطق الساحلية جرى تمدد للمناطق
السكنية في البحر ، مما قد يقضي على الحياة الطبيعية في الشواطيء ، ويبدو ان تناقص
الثروة السمكية في المنطقة ، على رغم تطور وسائل الصيد في العقدين الاخيرين
، يرجع الى هذا السبب بالذات ، او ان هذا احد اسبابه الرئيسية .
ومن
المتوقع ان يكون لهذا التناقص في المصادر
الطبيعية تاثيرات اقتصادية وبيئية غير
مريحة ، ربما لانلتفت اليها اليوم لانشغالنا بسواها ، او لعدم ظهورها في صورتها
الكاملة ، لكن لاينبغي التهوين مما قد يأتي في مستقبل الايام .
والذي ارى انه ينبغي الاهتمام بقضية البيئة ،
لا من الزاوية المتعارفة اي مسالة التلوث فحسب ، بل من مختلف جوانبها ، اخذا بعين
الاعتبار الجزء الجوهري من ال موضوع وهو الحفاظ على التنوع البيئي الضروري لحياة
البشر ، وفي هذا المجال فان الجامعات ومراكز البحث العلمي ، ووسائل الاعلام ،
اضافة الى الاجهزة الرسمية ذات العلاقة تتحمل مسئولية رئيسية .
نشر في اليوم 10
ابريل 1995