سوريا ، السودان ، ليبيا ، واليمن ، اربع دول عربية تعيش مخاض الدولة المطلقة.
بيان
ذلك: ان أي بلد لا يستطيع العيش في أمان واستقرار ، من دون حكومة قوية ، سواء كانت
عادلة او جائرة. صحيح ان العدل هو مطلب الناس وغايتهم ، لكنه لا يتحقق الا بوجود
حكومة قوية مستقرة. من هنا قال علماء السياسة بأن الخطوة الأولى لاستقرار السياسة
العادلة ، هو وجود دولة قوية مطاعة. فاذا وجدت ، حان وقت الانتقال للمرحلة الثانية
، أي تنظيم إدارة الدولة على أساس المشاركة العامة للمجتمع في الحقوق والتكاليف.
يبدو لي ان معظم الدول النامية ، وقعت أسيرة الخلط بين المرحلتين ، فبعضها تجمد عند الأولى ، وبعضها انخرط في جدل مبكر حول المرحلة الثانية ، بحيث بدا للمواطنين واطراف المشهد السياسي ، ان الاتفاق على الخطوة الأولى ، مشروط باتفاق مسبق على تفاصيل الثانية. دعنا نأخذ مثلا من ليبيا ، حيث اتفقت القوى السياسية مرات عديدة ، على عقد انتخابات عامة لاختيار رئيس الدولة ، مع انهم لم يقيموا الحكومة الواحدة التي تبسط سلطانها على أرض البلاد أقصاها وأدناها.
ربما
ظن الوسطاء الذين سعوا لحل الازمة
الليبية ، ان انتخاب الرئيس سيوفر فرصة للاجماع على التمثيل السياسي للبلد. وهو
ظن في غير محله. ولو حصل فسوف يكون الرئيس مجرد وسيط وطني ، يضاف الى الوسطاء
الدوليين ، ولن يكون حاكما بالمعنى الذي نعرفه عن رئيس الدولة. السبب ببساطة هو ان
مصادر قوة الدولة ، ولا سيما الأموال والقوات المسلحة ، في يد اطراف سياسية
متنازعة ، لان الدولة المركزية غير موجودة في الأصل. على أي حال فحتى هذه الخطوة
الرمزية لم يكتب لها النجاح ، فلم تعقد الانتخابات ولا انتخب الرئيس. وبقيت البلاد
، كما كانت منذ 2014 ، مقسومة بين حكومتين ، تسيطر احداهما على بعض الشرق ،
والأخرى على بعض الغرب.
قيام
الدولة الواحدة القوية ضروري للتطور السياسي. ومن دونه ستعود البلاد الى فوضى ما
قبل الدولة ، كالذي نشهده اليوم في البلدان المذكورة.
حسنا.
لماذا لا تبادر الأطراف السياسية للاتفاق على معالم المرحلة الثانية ، وتضعها
كمسودة اعلان دستوري ، ثم تتفق على إقامة
السلطة الواحدة القوية؟.
الجواب
معلوم: كل طرف لا يطمئن للآخر ، بل يخاف ان يقع في قبضته فيخسر حقوقه ، او يخسر
فرصته في أن يكون حاكما او شريكا في الحكم.
لعلكم
الان تقولون: ان هذه هي أيضا مشكلة السودان واليمن وسوريا. لماذا انفصل جنوب السودان
عن شماله في 2011؟. لأن الرئيس السابق عمر
البشير أبى ان ينتقل بالنظام السياسي من حكم الفرد الى المشاركة السياسية
الفاعلة ، فضحى بوحدة البلد ، كي لا يخسر سلطانه. وحدث الامر نفسه في اليمن
عام 1994 ، وحدث شيء قريب من هذا في سوريا خلال السنوات العشر الماضية ، حين
ابى الرئيس السابق ان يشرك معارضيه في السلطة ، فقاد البلد الى ازمتها الحالية ،
وكان في وسعه ان يبرز كمصلح تاريخي ، كما تأمل كثير من الناس.
في
ظني أن جذر المشكلة ، في كل هذه البلدان ، هو ان الذين بيدهم مصادر القوة ، وخاصة أصحاب
السلطة والسلاح ، لا يؤمنون بأن كافة المواطنين شركاء في سياسة بلدهم ، شراكة جذرها
امتلاكهم
لتراب الوطن ، وان هذه الشراكة مصدر لحق المواطنين في شراكة مماثلة في الشأن
العام. بعبارة أخرى فهم لا يؤمنون بتساوي كافة أهل البلد في الحقوق والواجبات ،
بناء على كونهم ملاكا لوطنهم ، وانهم – لهذا السبب أيضا – مكلفون بحمايته وتنميته
وتطوير إنجازاته. وفي السياق نفسه فان الغالبية الساحقة من المواطنين ، لا يرون
أنفسهم معنيين بالشأن العام ، أو ما يسمى في الثقافة العربية الدارجة "التدخل
في السياسة".
الشراكة
المتساوية بين المواطنين ، هي القاعدة الأولى لما يعرف في علم السياسة بالاجماع الوطني.
والايمان بها هو الأساس لكل مجتمع سياسي حديث. ولنا عودة الى الموضوع في قادم
الأيام.
الخميس - 05 شوّال
1446 هـ - 3 أبريل 2025 م https://aawsat.news/vbvnp