23/06/2004

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

خطاب العنف هو ايديولوجيا قائمة بذاتها. وهو  - مثل سائر الايديولوجيات - يستثمر اللغة السائدة ورموزها ، ويعيد ‏انتاجها في قوالب جديدة تبرر اغراضه وتعلي قدره. الايديولوجيا نظام مفهومي - قيمي يميل بطبيعته الى تعميم ‏نفسه ، وادعاء القدرة على تفسير الانسان والاشياء والعالم ، باعتماد نموذج تحليلي صارم يطبق على الجميع .

في المقابل ، يميل التدين المدني المعتاد الى تفسير كل عنصر من عناصر الحياة بصورة موضوعية ، اي من خلال النظر اليه ‏كموضوع خاص له معاييره وادوات التفسير الخاصة به. ولهذا يقال بان الايديولوجيا حجاب الحقيقة . لانها ‏ببساطة تصور الواقع على نحو افتراضي يخالف حقيقته. ونجد ابرز تمثلات هذا في منظور دعاة العنف ‏لمواطنيهم ، فهؤلاء لا يظهرون في ادبيات المجموعات الايديولوجية كشركاء واخوة ، بل كعلمانيين ومتغربين ‏ومبتدعة.. الخ ، اي كأعداء. على رغم ان شراكة الوطن لا تسمح بغير علاقة الشراكة ، والا كان المصير هو انهيار ‏السلام الاهلي وطغيان العنف المتبادل.‏

تعيد الايديولوجيا بناء ذهنية الفرد الذي يقع تحت تاثيرها ، فتحوله من فرد مدني ، او – حسب تصوير الفلاسفة ‏‏- كائن مدني بطبعه الاولي ، الى فرد ايديولوجي يهتم بالحدود التي تفصله عن الغير ، اكثر من اهتمامه بالمشتركات ‏التي تجمعه واياهم. ذهنية الفرد هي منظومة القيم والمفاهيم التي على ضوئها يصف الفرد نفسه لنفسه، ‏ويحدد المسافة بينه وبين الغير. تتشكل هذه المنظومة بتاثير عوامل مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية. تاثير ‏الايديولوجيا على الذهنية يتحدد في اعادة ترصيف تلك المكونات وربطها بمعايير الايديولوجيا نفسها ، وعندئذ ‏فان الفرد يتناسى المعايير الموضوعية في تقييم علاقته مع الغير، اي يغفل كون هذا الغير حسن الخلق امينا ‏مهذبا متعلما ناجحا ، ويركز على موقفه من تلك الايديولوجيا الخاصة ، اي مع او ضد. ‏

خطورة خطاب العنف تكمن في قيامه على ايديولوجيا لبست رداء الدين. وأقول انها لبست رداء الدين لان ‏الناس لم يكونوا كفارا فاسلموا ، بل ان التدين اتخذ نموذجا خاصا ، يمكن تمييزه بوضوح عن التدين الاجتماعي ، ‏الذي كان متعارفا قبل اوائل الثمانينات الميلادية. في هذا النموذج يجد الانسان نفسه مسوقا الى تحديد هويته ‏، انطلاقا من معايير الايديولوجيا التي تركز على تعريف الاخر كعدو ، وهذا هو الفارق الجوهري بين فكرة الولاء ‏والبراء الايديولوجية ونظيرتها الدينية.‏

تفكيك خطاب العنف يبدأ بتفكيك الايديولوجيا التي توفر له المبررات ، وتحمله الى عقول الناس وقلوبهم . ‏تكشف تجارب العالم ان تفكيك الايديولوجيا لم يكن مهمة شاقة. سهولتها تكمن في اتكالها على صور افتراضية ‏عن الواقع ، ولهذا فان الخطوة الحاسمة لتفكيكها ، تتمثل في كشف الواقع امام الناس ، بمن فيهم اولئك الذين ‏يحتمل ان يقعوا تحت تاثيرها. ليست ايديولوجيا الارهاب التي نواجهها اليوم اكثر قوة وتماسكا من الايديولوجيا ‏الشيوعية في اوربا واسيا . لقد تفككت هذه الايديولوجيا خلال زمن قياسي ، حينما توفرت الفرصة للتعددية ‏الثقافية وحرية التعبير ، والغيت القوالب القسرية التي تقيد السلوك الاجتماعي للافراد. ينطوي المجتمع على ‏امكانات ثقافية هائلة ومتنوعة ، يمثل كل منها تحديا جديا لخطاب العنف . كما يمثل – من زاوية اخرى – احد ‏وجوه الواقع الذي تنكر ايديولجيا الارهاب وجوده . ‏

تحرير السلوك الاجتماعي من قيود التقاليد والايديولوجيا ، سوف يؤدي هو الاخر الى اشاعة الخطاب الذي يؤمن ‏بالحياة المدنية الطبيعية ، ويميل الى التساهل مع الذات والغير . وطبقا للدراسات المتوفرة عن تجارب التحول ‏الاجتماعي في بلدان مختلفة ، فان ازالة القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية ، قد ادت مباشرة الى تعاظم ‏الامل في المستقبل وازدياد الثقة في النظام الاجتماعي. وكلا العاملين ، الامل في المستقبل والثقة ، يلعبان دورا ‏معاكسا تماما لما تبشر به ايديولوجيا الارهاب ، فهما يعززان الميل الى التصالح والتساهل ويضعفان جانب ‏المنازعة في شخصية الفرد . واظن ان جانبا كبيرا من التوتر النفسي الذي يستثمره الارهابيون ، هو ثمرة لضيق ‏مساحة الحريات الاجتماعية. ولهذا فان اطلاقها سيكون الخطوة الاولى لاعادة غول العنف الى قمقمه.‏


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...