‏إظهار الرسائل ذات التسميات العصبية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العصبية. إظهار كافة الرسائل

23/01/2025

"أيها الألماني اللعين"!

 هذه قصة نقلها د. عبد الله الغذامي ، المفكر السعودي المعروف ، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل ، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها ، لكنه مع ذلك واجه دائما من يذكره بأنه ليس ألمانيا حقيقيا ، "بيسري" وليس اصيلا ، حسب تعبير اشقائنا الكويتيين. وكان هذا يشعره بضيق شديد. لكنه سافر مرة الى سويسرا ، فشتمه نادل المقهى ووصفه ب "الألماني اللعين". تلك كانت اول مرة يشعر فيها بأنه الماني حقيقي. يعلق الغذامي على هذا قائلا ان تلك الشتيمة كانت صانعة لهوية الشاب التائه بين أصله وفصله ، بين ماضيه وحاضره.

ذكرني هذا بالدراسة القيمة التي وضعها أريك اريكسون ، عن المحددات السلبية للهوية. في ألمانيا ، عومل اريكسون كيهودي بغيض ، فهاجر الى أمريكا. لكن يهودها قاطعوه ، لأنه علماني ولأن زوجته مسيحية. من خلال معاناته الخاصة طور اريكسون سياقا بحثيا في علم النفس ، يدور حول "أزمة الهوية". وركز خصوصا على دور المحيط الاجتماعي في تصليب الهوية الطبيعية للفرد (الدين ، العرق ، اللون ، الجنس) ولا سيما في الاتجاه السلبي ، أي تحويلها الى خط انكسار في علاقة الفرد مع محيطه.

عالج هذه المسألة أيضا المفكر الفرنسي- اللبناني أمين معلوف ، في كتابه القيم "الهويات القاتلة". ولا بد ان الزملاء الذين قرأوا هذا الكتاب ، يستذكرون قوله الموجع: "غالبا ما نتعرف الى انفسنا في الانتماء الاكثر عرضة للتهجم". اخبرنا معلوف أن الهوية الفردية تتشكل في سياق تجاذب ، بين الترحيب من جهة والاقصاء من جهة أخرى. يسهم الترحيب في تنسيج هوية الفرد ضمن الهوية الاوسع ، بينما يؤدي الاقصاء الى تضخيم حدود الهوية الخاصة وابرازها على نحو متنافر مع الهوية العامة.

حسنا ، ما الذي يجعلنا نتذكر هذه القصة اليوم؟

الداعي لاستذكار مسألة الهوية ، هو الجدل الدائر في سوريا اليوم ، حول هوية البلد ، وبالتالي موقع الأقليات الدينية والعرقية في النظام السياسي الجديد. وقرأت تعليقا لشخص بارز في احدى الجماعات الدينية ، يعلن تبرمه بالأقليات التي حصلت على مكاسب في النظام السابق ، ومع ذلك فهي تطالب بمثلها في النظام الجديد. كما أشار خصوصا الى الجماعات الكردية التي تطالب بنوع من الحكم الذاتي ، شبيه بذلك القائم في العراق. وقال العديد من الناس مثل هذا. ولاحظت خصوصا ان الذين يصنفون انفسهم ضمن تيار الإسلام السياسي ، يتحدثون عن السلطة السياسية ، كما لو أنها "غنيمة" على النحو الذي شرحته في الأسبوع الماضي ، رغم انهم لا يقولون هذا صراحة ، بل يتحدثون عن "حق" الأكثرية في الحكم و "واجب" الأقلية في التسليم والطاعة. ونعلم ان ذلك الحق وهذا الواجب ، لا وجود له - على النحو الذي يذكرونه - في أي تشريع او فلسفة او منظور ديني او سياسي.

أمامنا أمثلة صريحة الدلالة عن أنظمة سياسية قامت على اقصاء المختلفين ، وأخرى استوعبتهم. جربت تركيا اقصاء الاكراد مدة تزيد عن 40 عاما ، وتسبب هذا في مواجهات كلفت البلاد عشرات الآلاف من القتلى وهجرت عشرات القرى ، دون ثمرة ، حتى اعترفت الدولة بالمشكلة ، وتبنت مشروعا يستهدف استيعاب الأقلية الكردية ضمن النظام السياسي القائم. فهل يريد السوريون إعادة اختراع العجلة؟.

الاكراد يمثلون مشكلة داهمة ، لأنهم القوة الأكثر جاهزية للصراع ، ولأنهم يسيطرون فعليا على مساحة واسعة نسبيا. لكن يهمني التأكيد على التعامل المنهجي وليس التكتيكي مع مشكلة الهوية. سيكون على السوريين استيعاب الأقليات الدينية والقومية العديدة ، فسوريا ليست ملكا لحكامها الحاليين او السابقين ، بل لكل سكانها ، أيا كانت اصولهم العرقية أو اديانهم او مذاهبهم. لا يمكن للحكومة ان تفرض دينها ولا مذهبها ولا توجهها السياسي على مخالفيها. كما لا يصح للأكثرية (في المعنى السياسي) ان تفرض رأيها على الأقلية. ينبغي القول بوضوح ان خطابا سياسيا يستوعب الجميع ، هو الذي يؤسس للهوية الوطنية الجامعة. وان الخطابات الانكماشية والاقصائية تفتح الباب للانهيارات القادمة.  

الخميس - 23 رَجب 1446 هـ - 23 يناير 2025 م     https://aawsat.com/nide/5104200

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

حكومة اليوم وحكومة الأمس

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الواعظ السياسي

 

 

16/01/2025

حكومة اليوم وحكومة الأمس

 

سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على اهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة "تنظير" وعبارة "غير مفيد". ان شياع مفهوم كهذا ، يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة ، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.

بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري ، مسألة العصبية ، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش ، او في القبيلة او الطائفة او الحزب الحاكم أو المجموعة القومية التي ينتمي اليها الحاكمون.

هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرف العرب عليها منذ ان كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة او حلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون ، فوضع تصويرا نظريا لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئا ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة او القاعدة الاجتماعية ، حين قرر ان بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فاذا ضعفت ، تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول الى الأفول.

ببساطة ، رأى ابن خلدون ان استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة ، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة او طائفة او حزبا سياسيا او أيديولوجيا او مجموعة عرقية ، او شيئا مماثلا. ثم يقرر ابن خلدون ان هذا النوع من التنظيم السياسي ، قصير العمر ، بحسب منطق الأمور. وأن أفول الدولة راجع الى انتقالها من جيل الى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء ، الحريصين على صناعة القوة وإعادة انتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب ، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ ، بل تأخذ السلطة من دون جهد ، فتفرط في سلطانها بسبب قلة الفهم او قلة التدبير او الرغبة في السلامة.

تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطا من الثقافة السياسية ، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح ان هذا الفهم شائع في العالم كله ، في الماضي والحاضر. لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها اوروبا منذ القرن التاسع عشر ، أثمرت عن تغيير هذا التصور ، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلا للمواطنين ، وليس ممثلا للطبقة او الحزب او الجماعة التي ينتمي اليها أهل الحكم. السر وراء هذا التحول ، ثقافي في المقام الأول ، حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه ، بلا فرق بين صغير وكبير او غني وفقير. وتبعا لهذا التحول ، قيل ان الذي يمسك زمام الأمور ، هو الشخص الذي يمثل المواطنين ويدير مصالحهم باختيارهم ، فهو يعمل لهم وليس سيدا فوقهم أو جبارا يتحكم في مصائرهم.

هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية ، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم "الدولة الحديثة" عن "الدولة القديمة" سواء كانت امارة قبلية او امبراطورية.

في الدول القديمة ، لم يكن الحاكم مسؤولا امام أحد. وليس من واجباته ان يخبر الناس عما يفعل او يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم ، تقديم "كشف حساب" للجهات الرقابية او التشريعية او للمجتمع.  وبهذا لم تعد السلطة مطلقة ، بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص ، فضلا عن الهيئات الرقابية والتشريعية.

ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة ، التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة ، ام دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم ، بغض النظر عن اصولهم الدينية والعرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟. سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم ، وبالتالي شركاء في إدارة أمره ، ام سياسة تعتبر نفسها ممثلا لـ "أهل الحق" أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي اليها وتمثل مصالحها ، دون بقية أهل البلد؟. هذا موضوع اختبار جدي للعهد الجديد.

الخميس - 16 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م     https://aawsat.com/node/5101794

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 

 

"أيها الألماني اللعين"!

  هذه قصة نقلها د. عبد الله الغذامي ، المفكر السعودي المعروف ، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل ، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها ، لكنه مع ذلك و...