يعتبر محمد اركون (1928-2010) واحدا من اكثر المفكرين
اثارة للجدل ، بل الغيظ في بعض الاحيان ،
فمنذ اطلالته الاولى على القاريء العربي ، لفت الانظار الى جملة من القضايا المسكوت عنها في تاريخ الفكر الاسلامي
، وعندما عالجها فقد انطلق من موقع الشك في الفوارق التي تقام عادة للتمييز بين
اهل التاريخ واهل الحاضر.
والحقيقة انه بدأ بالتشكيك فيما يعتبره هالة
من القداسة ، احيط بها عدد من الاسماء ، من سياسيين او فقهاء او مفكرين ، ممن
شاركوا بنشاط في الحياة الثقافية للعالم الاسلامي ، في مراحل صعوده الحضاري ، فبدأ
بنقد اعمالهم ، وانتهى الى التشكيك في سلامة مواقعهم ، ضمن التسلسل المتعارف عليه
لتاريخ الفكر .
لذلك فان عددا كبيرا من القراء سيصاب بالدهشة
، حينما يقرأ مطالعاته في التراث الثقافي الاسلامي ، ولابد ان بعض هؤلاء سيصاب
بالضيق ، للجرأة الشديدة التي تميز قلم اركون ومعالجاته .
اللامفكـر فيـــه
وينطلق محمد اركون في معالجاته القاسية تلك ،
من بديهية اقام عليها كثيرا من تنظيراته ، فحواها ان الفكر الذي ورثناه من اسلافنا
، قد كتب على يد فريق اجتماعي محدد ، لايمثل بالضرورة كامل شرائح المجتمع الاسلامي ، وبالتالي فانه
لايعكس الصورة الكاملة للحياة الثقافية والاجتماعية للمسلمين في عصورهم السابقة ،
بل ثمة جانب يعتبره شديد الاهمية من التراث الاسلامي بقي مغفلا وممنوعا من
الانتشار ، فلم يصلنا من بحره الا قطرات ، تكشف دراستها عن ملامح الوجه الآخر
للحياة والثقافة ، التي نطلق عليها عنوانا اجماليا ، هو التراث الاسلامي .
ولهذا السبب فانه يلح على الضرورة العاجلة
لدراسة مايسميه (اللامفكر فيه) في التراث الاسلامي ، ويعتبر نجاحه في تسليط
الاضواء على هذا الجانب ، وتشخيصه وتشجيع الاخرين على تناوله ، رهان حياته الفكرية
الرئيس .
ويعتمد اركون في مقارباته على اثارة الاسئلة ،
وفصل التفسيرات والشروح التي تشكلت حول النص الديني ، عن تدعيماتها النصية
الجانبية ، التي تمنحها ـ حسب رأيه ـ حالة التعالي والتجرد ، كما يوجه النقد الى
التاريخ الخطي للافكار ، باعتباره يعكس راي الطبقة المدنية من اصحاب الفكر وحسب .
منــهج غــربي
وقد تعرض منهجه في قراءة التاريخ والثقافة ،
لنقد شديد من جانب مفكرين ، شعروا بالقلق ، من ان محاولاته النقدية تستبطن رغبة في
تهميش ، بل تحطيم قواعد قام عليها التفكير الاسلامي ، استنادا الى موازين فلسفية
او منهجية ، تنتمي الى المجال المعرفي الغربي ، المادي التاسيس وغير المحايد فيما
يتعلق بالاسلام كعقيدة ومنظومة قيم ، والامة الاسلامية ككيان وتجربة تاريخية .
ولايخفي اركون في اي من كتاباته المنشورة في
اللغة العربية ، اعتقاده الراسخ بان الارث الثقافي للامة الاسلامية ، بحاجة الى
دراسة جديدة ، تتناول خصوصا اعادة تقييم ماوصل الينا ، وماجرى تصنيفه خلال الازمنة
الماضية ، من التاريخ الاسلامي ، في دائرة الثابت الفكري او الاعتقادي ، اوفي
دائرة المتغير العلمي والتطبيقي .
ويعتقد انه لانجاز هذه الدراسة ، فاننا بحاجة
الى استثمار مكثف للمنهجيات العلمية في نقد المعرفة ، التي تطورت في الغرب ،
باعتبارها مناهج بحث ذات صفة علمية انسانية محضة ، نافيا المضمون الايديولوجي الذي
يُـدّعَى انها تنطوي عليه .
استشراق جديد
ويقول ناقدو اركون انه منهجه ليس سوى تجديد لمدرسة الاستشراق ، التي درست الاسلام من منظورات غربية ، وخرجت بصور مشوهة عن
الحقائق الاسلامية .
وبدروه فان محمد اركون يعطي قيمة كبيرة على
المستوى الفكري لجهود عديد من الغربيين الذين درسوا الفكر الاسلامي ، ويظهر في
ثنايا ابحاثه ثناء متكرر على كشوفاتهم ، التي لم يستطعها نظراؤهم المسلمون ، لسبب
يتعلق بالمسار التاريخي ، الذي تشكل خلاله مايصفه بالعقل الكلاسيكي الاسلامي ،
الذي تأسس ضمن مركبات بعضها عقلاني اولي وبعضها متعال ، مقدس او غيبي .
لكنه من ناحية ثانية يوجه نقدا شديدا ، الى
طائفة من المستشرقين والدارسين الاجانب ، الذين رضوا باعتماد الفكر المتشكل بعد
تفسير النص ، باعتباره مصدرا اصليا لدراسة الاسلام ، وهو يرى ان هذا الفكر قد ادى
الى تشكيل خاص لمعاني النص ، وانعكاساته الفلسفية وتطبيقاته ، تكوّن مايمكن
اعتباره ايديولوجية مجتمعية مستقلة عن النص (الاصل) ، وهو يرى في هذا المنهج الذي
يدعي الامانة العلمية بالاعتماد على تلك المصادر ، ممارسة سطحية في البحث.
اسئلة تلد اسئلة
ويكاد القارىء المتامل لابحاث الاستاذ اركون ،
يشكك احيانا في قدرته على تقديم بديل معقول عن المنهجيات التي يتناولها بالنقد ،
ذلك ان المطبوع من ابحاثه يبدو كما لو كان تحويما لاينقطع ، حول عدد كبير من
القضايا الفكرية والمنهجية ، التي يتناول كلا منها بالنقد الشديد ، وهو يدعم بعض
نقده بتدليلات كافية ، ويترك البعض الاخر دون الحد الادنى الضروري من الاستدلال .
وربما ادى افراطه في حشد القضايا التي يطرحها
للمعالجة ، سواء تلك التي يستهدفها بصورة رئيسية ، او تلك التي يستشهد بها
استطرادا ، الى قصر قرائه على عدد قليل من المحترفين واهل الاختصاص ، وهؤلاء
بدورهم لايجدون لديه الا القليل من الكشوفات الجديدة ذات القيمة الرفيعة .
لكن الذي لايمكن انكاره ، ان محمد اركون واحد من
تلك الطبقة من الباحثين ، الذين يضطرون قارئهم الى التامل العميق في مايكتبون ،
فما يثيره من الاسئلة اكثر مما يجيب عنه ،
وتلك لعمري ميزة لايتمتع بها سوى قليل من الكتاب ، يشعر القاريء انه ـ وهو معهم ـ
رفيق للمعاناة والالم لحظة الشك ولحظة الكشف ، المعاناة التي يظن بها كل رفيق
للفكر أو محب .
اليوم 10 يناير 1995