تكملة لمقال "رأي الفقيه ليس حكم الله"
الفقهاء يفتون بآراء مختلفة في المسألة الواحدة، مثل دعوى الاختلاط بين
الرجال والنساء في أماكن العمل، المثارة حاليا. ولا بد أن القراء اطلعوا على آراء
من يجيز الاختلاط ومن يحرمه ومن يضع شروطا للتجويز. فهذا مثال حي على الاختلاف في
مسألة واحدة في ظرف واحد. بديهي أن حكم الله في المسألة واحد ولا يمكن أن يكون
متعددا. لكن لا يستطيع أحد، فقيها كان أو غيره، أن يدعي دون تحفظ أن رأيه هو حكم
الله بلا زيادة ولا نقصان. لأنه لو ادعى ذلك فكأنه قال إن علمه هو علم الله أو مساو لعلم الله. وهذا مستحيل ولا يقول به أحد.
تنبه الفقهاء إلى هذه الإشكالية منذ القدم، فميزوا بين نوعين من العلم هما: العلم بالواقع والعلم بالظاهر. وحصروا العلم الواقعي في الله سبحانه. أما علم
البشر فهو جميعه علم بالظاهر ، وهو قد يطابق الواقع وقد يجانبه. والفقه هو واحد من
هذه العلوم، لذلك عرفه بعضهم بالظن الغالب.
والحق ان جميع العلوم هي ظنون غالبة، او احتمالات، بعضها يستند الى أدلة
أقوى، وبعضها يجمع بين الدليل العلمي والإمكان العملي. وطور الأصوليون مجموعة
أدوات منهجية لحصر تلك الإشكالية وتحديد ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من
الأدلة. بديهي أن جميع الأدلة مؤقتة، بمعنى أنها مرتبطة بحيثياتها الظاهرة للفقيه
في وقت البحث. وقد تظهر له أو لغيره أدلة أخرى في وقت مختلف أو ظرف مختلف فيعدل عن
الرأي الأول إلى غيره، وهذا من الأمور الجارية والمتعارفة بين جميع دارسي الشريعة.
هذا من جهة.
لكن من الجهة الثانية، فإن الناس بحاجة إلى العلم حتى لو كان ناقصا.
ويقضي العقل الطبيعي بالعودة إلى صاحب العلم المتخصص، مثلما نعود الى المهندس حين
نبني بيتنا وإلى الطبيب حين نحتاج للعلاج. الفقيه في هذا المقام مصدر للعلم. وحين
يعطيك العالم علمه فأنت تأخذ به، حتى لو علمت باحتمال تغير رأيه بعد زمن. لأن
الناس لو انتظروا كمال العلم لما وصلوا الى شيء أبدا، فالعلم بطبعه ناقص وهو
يتكامل بالتدريج، لكنه يبقى الى الأبد ناقصا، وهذا هو السر في كفاح الإنسان من
أجله.
في مثال الطب، يخبرنا الطبيب بأن بعض علاجات اليوم ستلغى في المستقبل
لوجود أخرى تحت التطوير والبحث. لكننا مع ذلك نأخذ بالأولى لأننا نحتاجها اليوم،
مع علمنا بنقصانها. من هنا قال الأصوليون بأن الأخذ برأي الفقيه وتطبيقه مبرئ لذمة
المكلف لأنه يسد حاجة قائمة ولو كان ناقصا. ولا يجب على المكلف دراسة جميع الأراء
ولا تقييم أدلتها. واعتبروا ذلك من أنواع التيسير الذي يأمر به الشرع.
المكلف اذن، يأخذ برأي الفقيه لأنه علم، تقوم الحجة بوجوده، وتبرأ الذمة
بتطبيقه. فاذا أخذ المكلف بذلك الرأي، تغيرت صفته من نظرية علمية الى حكم ديني.
بعبارة أخرى فإن التزام المكلف برأي الفقيه يسبغ على هذا الرأي قيمة دينية، فيصبح
(حكم الله) بالنسبة لذلك المكلف على وجه الخصوص. مع أنه يبقى رأيا علميا عاديا
بالنسبة لبقية المكلفين الذين لم يقبلوه أو لم يلتزموا به.
ومثل ذلك رأي القاضي الذي يتحول إلى حكم واجب التنفيذ على أطراف القضية
التي نظرها، دون بقية الناس. فهو بالنسبة لأولئك قانون ملزم وهو بالنسبة للآخرين
مجرد رأي علمي. ومن هنا نفهم أن القيمة الدينية لرأي الفقيه ليست منبعثة من داخله،
بل من مصدر خارجي هو تبعية المكلف له، أي قرار هذا المكلف بالرجوع الى ذلك الفقيه.
وكذلك الأمر بالنسبة لحكم القاضي الذي يستمد قيمته من القانون العام للبلد الذي
فرض على المتخاصمين الالتزام بحكم القاضي الذي نظر دعواهم.
خلاصة الكلام اذن:
1ـ ان رأي الفقيه هو في الأصل نظرية علمية محترمة لكنه ليس حكم الله ولا
ينطوي على الزام.
2ـ بالنسبة للمكلفين الذين يطمئنون الى رأي فقيه معين، فان أخذهم برأيه،
يضفي عليه قيمة الحكم الديني، حتى لو بقي رأيا عاديا بالنسبة لغير هؤلاء.
عكاظ
7 مايو 2008
https://www.okaz.com.sa/article/182937
https://www.okaz.com.sa/article/182937