اذا لم يستوعب الدعاة ان
العالم قد تغير في العقد المنصرم فهذه مصيبة ، واذا فهموا ورفضوا التعامل مع هذه
التغيير او البناء عليه في ارائهم وفتاواهم فهذه مصيبة اكبر من الاولى.
ناصر العمر |
العالم الاول : هو الكون
المادي الذي يتالف من حقائق واقعية. يعيش الناس في هذا العالم ويسعون الى فهمه
وتصويره على شكل نظريات واوصاف ، فيفلحون احيانا ويفشلون احيانا اخرى . حقائق هذا
العالم موجودة سواء احببتها او كرهتها ، فهمتها او عجزت عن ادراكها.
العالم الثاني : هو تصوراتنا
الشخصية وتجاربنا وتاملاتنا في ذواتنا او في الكون المادي المحيط . وهي تشكل في
مجموعها رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به وموقفنا من عناصره ومكوناته. هذا العالم هو
الذي تعمل فيه عقولنا حين نفكر في وجودنا وما يطرأ عليه من متغيرات. المعارف
الشخصية والتاملات والذاكرة الشخصية هي بعض تمثيلات هذا العالم . وهي جميعا قائمة
على ارضية الوعي الشخصي والرغبات والميول والهموم ومتفاعلة معها . هذه المعرفة قد
تكون مطابقة للواقع وقد تختلف عنه. لكن صاحبها يؤمن بها ويحبها لانها مرتبطة بشخصه
او ميوله.
العالم الثالث : هو مجموع
منتجات العقل الانساني المجردة ، اي القائمة بذاتها كموضوع منفصل عن شخص المنتج او
الاشخاص الاخرين. ونراها عادة في اطار
اعمال علمية او تطبيقات تقنية مثل الكتب ، الالات ، النظريات ، النماذج ، الحاسبات
، الشبكات .. الخ .
من المهم التمييز بين
العالمين الاول والثاني في مرحلة التفكير والتحليل. لان الاسراف في استعمال
المنظورات الشخصية والايديولوجية – حتى لو كانت صحيحة بذاتها – قد تعطي للمفكر
صورة ملتبسة عن الواقع. ويقال عادة ان اهم اخطاء الماركسية هي هذا الفهم
الايديولوجي للعالم. انها خطا جميع الذين ينظرون الى حركة التاريخ باعتباره سلسلة
من الحتميات المتعاقبة. واظن ان صاحب "فقه الواقع" قد وقع في هذا المطب
. التاريخ قد ينتهي الى نتيجة حتمية ، لكننا لا نعرف توقيتها ، ربما تكون نهاية
العالم او مرحلة متاخرة من تاريخه. لكن من الخطا اعتبار الحوادث التي تجري كل يوم
نوعا من الحتميات، سواء الحتميات التي نحبها او التي نخشى منها.
الجدالات الاخيرة التي
شهدتها البلاد تشير الى غفلة مريعة من جانب بعض الدعاة والناشطين في التيار الديني
عن التحولات الجارية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي – ومن بين هؤلاء كاتب رسالة
فقه الواقع نفسه-. وهي تحولات تنعكس ، شئنا ام ابينا ، على الثقافة العامة وانماط
التدين ومعايير العلاقة بين القوى الاجتماعية. تنتمي هذه التحولات الى العالم
الاول ، وهي تستوجب فهما وتفسيرا تبنى عليه المواقف والاراء (اي ما ينتمي الى
العالم الثاني). اهمال هذه الوقائع او رفضها لا يلغيها ولا يزيل مفاعيلها ، بل
يعزل الشخص المفكر عن عصره ويجعل الامور ملتبسة عليه ، فيقع في سلسلة اخطاء منهجية
ومعرفية وعملية قد تصحبه لزمن طويل.
فقه الواقع لا يعني – في
جوهره - قراءة الاخبار ومتابعة الحوادث والتعليق عليها وكتابة مقالات التنديد
والتاييد حولها ، بل استيعاب نسق التحولات ومحركاتها وفهم اتجاهاتها ومآلاتها ، ثم
اخذها بعين الاعتبار عند استنباط الموقف الديني والخطاب الديني. اذا اقحمنا
قناعاتنا الايديولوجية على تفكيرنا في الحوادث ، فسوف نعود الى ما كنا نعرفه سلفا
، ولن نستفيد معرفة جديدة ، وسوف نعيد انتاج صورة ذهنية عن واقع افتراضي نؤمن به ،
لكنه غير موجود خارج اذهاننا.
جريدة عكاظ 13 ديسمبر 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق