30/11/2023

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

 مضى نحو 40 عاما على نشر  كتاب "تربية اليسر وتخلف التنمية" للدكتور عبد العزيز الجلال. وهو واحد من الدراسات المبكرة التي عالجت بشكل صريح اشكاليات التنمية الاقتصادية في مجتمع الخليج.

صدر الكتاب في اطار النقاشات التي ادارها "منتدى التنمية" ، وهو تجمع سنوي للمفكرين المهتمين بالشأن العام في المنطقة ، تأسس في ديسمبر 1979 ، وتركز نقاشاته على الاسئلة التي تثيرها سياسات التنمية ، وما يتحقق في إطارها.  لقد مضىى على نشر الكتاب اربعة عقود. وبهذا فان البيانات التي اعتمدها في دراسته لواقع القطاع التعليمي ، باتت قديمة. ولا شك ان الحال قد تغير كثيرا  منذ ذلك الوقت. لكن العديد من المستخلصات التي توصل اليها ، وتبناها المنتدى أيضا ، ما تزال صحيحة وهي تستحق المزيد من الاهتمام.

د. علي خليفة الكواري مؤسس منتدى التنمية

لقد قرأت الكتاب منذ وقت طويل ، لكني اشعر بالأنس حين أعود اليه بين حين وآخر. وللمناسبة فهناك عدد قليل من الكتاب الذين يرتاح الانسان إذ يعود اليهم حينا بعد حين ، ولا يمل من تكرار قراءتهم. وأقول – من باب الاستطراد – ان العلامة د. محمد شحرور واستاذنا ابراهيم البليهي من هذا النوع ، بغض النظر عن مقدار ما تتفق معه او تختلف. المهم - في حقيقة الأمر - هو تلك الومضات التي تنقدح في الذهن ، حين تقرأ هذين الرجلين أو حين تقرأ كتاب د. عبد العزيز الجلال.

اني اعود الى هذا الكتاب في اطار دراسة ، قادتني ايضا الى عمل شبيه له من نواح كثيرة ، لكنه يفوقه من حيث سعة الموضوع وعدد الكتاب ومستوى المقاربة ، اعني به كتاب "التحدي امام الجنوب: تقرير لجنة الجنوب" الذي صدرت ترجمته العربية في 1990. وكما يتضح من اسمه ، فالكتاب الذي شارك فيه 25 كاتبا يمثل الرؤية العامة لفكرة الجنوب ، وهو عنوان أريد له ان يصف الاقتصاد السياسي لمجموعة البلدان النامية ، في مقابل "الشمال" الذي يضم الدول الصناعية.

تأسست لجنة الجنوب بجهود مشتركة ، قاد مرحلتها الاخيرة مهاتير محمد ، رئيس حكومة ماليزيا السابق ، واستهدفت وضع رؤية تنموية مشتركة للاولويات التنموية لبلدان الجنوب ، اضافة الى وضع ارضية للتعاون فيما بينها. ونعلم ان هذه اللجنة كانت رد فعل على "لجنة برانت" التي اقيمت في 1980 من اجل وضع منظور مشترك لاقتصاديات الدول الصناعية ، وترأسها مستشار المانيا الغربية يومذاك "ويلي برانت".

قدم تقرير "لجنة الجنوب" تصورا موسعا حول مفهوم التنمية الشاملة ، الواجب تبنيه من قبل دول العالم الثالث ، وأولوياته وطرق تنفيذه ومتابعته وتجديده. والذي يهمنا في هذا الخصوص هو المساحة الواسعة نسبيا ، التي خصصها لشرح مشكلات التعليم وتطوير المعرفة والتقنية. وأذكر في هذا الصدد نقطة مركزية مشتركة بين مقاربة د. الجلال وتقرير لجنة الجنوب ، اعني تركيزهما على مجتمع المعرفة ، اي البيئة الاجتماعية الحاضنة للتعليم والاقتصاد. ويؤكد الاثنان على الحاجة لنشر المعرفة والعلم في الوسط الاجتماعي العام ، حتى يتحدث الناس جميعا بلغة العلم ، ويستذكرون قواعد العلم واسماء العلماء. اذا حصل هذا فان عامة الناس سيفكرون في امورهم الحياتية العادية ، بطريقة منطقية او علمية.

ليس المقصود ان يتحدث الناس باللغة الفصحى ، ولا المقصود ان يناقشوا نظريات الفيزياء على العشاء او في المقهى ، بل ان يتفكروا فيما يسمعون او يقرأون ، فان وصلهم خبر عن مسألة علمية ، فهموه وتفاعلوا معه ، وان وصلهم خبر او فكرة غير معقولة رفضوه وانكروه.

في هذه الحالة سيكون المحيط الاجتماعي مساعدا ودافعا للباحث والمبدع ، كما يكون البحر الصافي بالنسبة للسمك. بديهي انه لا يمكن التحول الى مجتمع صناعي ، مادامت الخرافة هي الحاكمة على الثقافة العامة وكان منطق العلم هو الغريب. هذا – ببساطة – الغرض الجوهري للتعليم العام الذي دعا اليه الدكتور الجلال ولجنة الجنوب ، قبل ثلاثة عقود من الزمن ، واظننا لانزال بحاجة الى استذكاره.

الشرق الأوسط الخميس - 16 جمادي الأول 1445 هـ - 30 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4698826

 مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

23/11/2023

انتقدوا مواقفكم وإرث اسلافكم أو تخشبوا


الفصل بين الحقائق والقيم ، واحد من التقاليد المستقرة في مجامع البحث العلمي. والمقصود به ان يتخفف الباحث او الناقد من انحيازاته الشخصية والاجتماعية لحظة البحث ، فلا يجعلها معيارا في اختيار موضوع البحث او منهجه ، او في الحكم على نتائجه.

والحق ان الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية ، من أصعب الأمور ، بل ادعى بعضهم انه مستحيل. ولا أراه كذلك ، لكني اعرف صعوبته. واعلم أنه اشد عسرا في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والاقليمية ، سيما تلك التي تدور حول قضايا الهوية ، او التي تكون الهوية عاملا في تأجيجها ، أو سلاحا في يد أطرافها.

ان حرص الباحث على مسايرة ميوله الخاصة او ميول مجتمعه ، لن يساعد في انتاج العلم ، بل لن يؤدي - على الأرجح - الى أكثر من "تطييب الخواطر" ، اي الوصول الى نتائج مريحة لنفس الباحث أو "جماعته" ، لأنها – ببساطة – تؤكد ما كانوا يقولونه دائما وما يرغبون في قوله ، في ثوب جديد او لغة مختلفة.

وقرأت في الأيام الماضية كتابا يعالج العلاقة بين الدين والاسطورة ، خصص كاتبه مساحة واسعة نسبيا ، لشرح رؤية علماء اوروبيين للمسافة بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل الى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين الاسلام والاسطورة ، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدثوا في الموضوع ، اشتغل محرك الهوية عند الكاتب فيما يظهر ، فأغفل مناقشة آراء اولئك المفكرين وأدلتهم ، كي يركز على ماقال انه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في اوربا. وبناء عليه اعتبرها بعيدة عن المجال الاسلامي ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.

وأميل الى الظن بان الكاتب لم يشرع في بحثه ذاك ، قاصدا انتاج معرفة جديدة. ذلك ان منهج السجال الديني يبدو واضحا في أكثر من موضع. ومن يتخذ منهج المساجلة ، فانه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين ، التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. ان همه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه ، بغض النظر عن كونه صحيحا او خطأ في الواقع. انه – بعبارة اخرى – لا يسائل موقفه ومعتقداته ، لأنه مشغول في محاكمة الآخرين.

ربما يكون هذا الموقف ناتجا عن الميول الايديولوجية للكاتب ، او عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي واراداته. ولا شك عندي ان مسايرة الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مرارا ان المفكر او صانع الرأي ، ليس مطالبا بمصارعة المجتمع والسير عكس التيار ، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو – مثل غيره – حر في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا فليس من الانصاف ان نطالبه أو نطالب غيره بتحمل اعباء اجتماعية ، تزيد عما التزم به سائر الناس واصحاب الحرف الأخرى.

أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظا ، وغايتي انصاف تلك الشريحة من اهل الفكر الذين اضطروا للسكوت كليا ، او اضطروا لاغفال قناعاتهم أو مسايرة التيار العام ، طمعا في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار بعدما اختبروا ضغط المجتمع ، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوما ان "يحملوا السلم بالعرض" كما يقال.

بموازاة هذا ، فاني اعلم ان المجتمعات لا تتقدم ، ان ذوت فيها روح النقد. بل استطيع القول ان انتاج العلم وتطويره مستحيل ، اذا كان نقد الافكار المعتادة والقناعات السائدة ، ممنوعا او عسيرا. ليس هناك وقت مناسب للنقد ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف ووقت غير مناسب. التعبير الحر عن الرأي يجب ان يكون متاحا في كل وقت وفي كل ظرف ، حتى لو كنا في أسوأ الظروف. أيا كان الأذى الذي ربما يخشاه الناس من النقد في ظرف الازمة ، فانه – بالتأكيد - لن يؤدي لضرر مادي. بل على العكس ، فالضرر الاعظم الذي وقع سابقا ولا زال يتكرر في عالم العرب ، هو هيمنة الرأي الواحد والاكتفاء به ، والتضييق على الآراء المخالفة والخيارات التي تشير الى طريق غير الذي ألفناه بعدما ورثناه عن الأسلاف.

الشرق الاوسط الخميس - 09 جمادي الأول 1445 هـ - 23 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4684841

مقالات ذات صلة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الصنم الخامس

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

كيف تولد الجماعة

ما رأيك في ماء زمزم؟

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

نسبية المعرفة الدينية

  

17/11/2023

وقت النقاش ، حديث المطر


لقيت خلال حياتي المدرسية أساتذة من مشارب شتى. عرفني كل منهم بعالم غير العوالم التي عرفتها وألفتها. ولا زلت أذكر تلك النقاشات الساخنة التي أخذتنا بعيدا عن الكتاب والمنهج ، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية ، والتي حوت – دائما – ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعو اصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب ، لفتح عقولهم وقلوبهم لتلاميذهم ، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة ، في موضوع الدرس او غيره. 

انا انتمي لمجتمع لا يوفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح ، النقاش الذي يأخذ الانسان الى حدود الخيال ، دون رهبة الخطوط الحمراء والصفراء. وأظن هذا حال أكثر الناس من حولي. لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيويا ، في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة.

من بين الاساتذة الذين تركوا أثرا في نفسي ، أذكر اثنين ، لا يقول أحدهما شيئا ، الا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلا ان الاول اعتاد التشديد على ان الحكمة في الصمت ، وان سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالبا ما ذكر روايات وأشعارا تؤكد هذا المعنى.

وبعكسه تماما كان الاستاذ الثاني ، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية ، ويؤكد ان النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الانسان. وكان يقول مثلا ان الاثر المروي عن علي بن ابي طالب "تكلموا تعرفوا ، فان المرء مخبوء تحت لسانه" لا يعني مجرد النطق ، بل أراد التركيز على "الكلام" اي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق ، الذي يقيم وسطا معرفيا يتواصل عبره مختلف الناس ، نظير ما يسمى اليوم الميديا/الوسائط media التي يصل دورها الى تكوين الرأي العام او الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الاستاذ انظارنا الى بعض القواعد اللطيفة في الحديث ، سواء تعلقت بآداب النقاش او قواعد التفكير المنطقي والعقلاني ، وهي قواعد ، أظننا في أمس الحاجة الى أمثالها ، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم ـ بل كل يوم.

ويظهر لي ان ميول هذين الاستاذين ، تحاكي نمطا عاما. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في اي مسألة ، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماما ، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى ، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموحة.

ومما أذكره انني كنت أزور بين حين وآخر ، شخصا من علية القوم ، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكني لا اذكر ابدا ان النقاش قد تجاوز احوال الطقس ، وهل نزل المطر ام لا ، خفيفا كان ام ثقيلا ، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولا ، وماذا ترتب عليها.. الخ.

لقد ظننت – وربما اكون مخطئا – ان هذا النوع من النقاش ليس عفويا ، بل مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين. فهذا مثال على ذلك النوع من المجتمعات التي لا تحب النقاش في القضايا الحرجة او المثيرة للاختلاف.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة ، فهي لا تتعدى الاشارة الى "حساسية" من نوع ما. فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته ، وان هناك اشخاصا ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة ، فيرون فيها تحديا لقيمهم وقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الاشخاص الموثوق في اهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعا هي المتعلقة بتوقيت الكلام ، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا او هناك ، يقدمونها مبررا لتأجيل النقاش في هذا الموضوع او ذاك.

الشرق الأوسط الجمعة - 03 جمادي الأول 1445 هـ - 17 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4673406

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

مكافحة الفساد بدء من المدرسة

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

09/11/2023

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة

 

يقال ان الأزمات الكبرى هي ام الافكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم ان كثيرا من الاختراقات المؤثرة في حياة الانسان ، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلا الطيران التجاري ، الذي أثمرت عنه ابحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة ، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها انظمة الاتصالات اللاسلكية ، وشبكة الانترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الاغذية والادوية ومواد البناء والنظافة والالكترونيات والمصنوعات الهندسية ، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد ، اعتمادا على تقنيات الاتصال الحديثة ، في ظروف الحصار التي فرضها وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطا ، فقد انتج اقتصادا جديدا وانماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثرا لزمن طويل في المستقبل.

حسنا ، ماذا عن الافكار التي لا تتعلق مباشرة بالتقنية وادوات العيش؟. اعني الافكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم الدين والاجتماع.. الخ. هل تخضع لنفس القاعدة ، اعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟.

أظن ان الازمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القاريء ، اعني بها الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وسكانه. خلال الاسابيع الاربعة الأخيرة ، حاولت التعرف على رأي عدد من البارعين في التحليل السياسي ، فوجدت آراء قيمة ، قد تعارضها او توافقها ، لكنها – بشكل عام – جديرة بالمناقشة والتفكير ، لأنها تحاول الاجابة على أسئلة هامة ، مثل سؤال: ما هي نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب ، في الموقف السياسي والشعبي.

وجدت أيضا قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب على نظام الامن الاقليمي ، ومواقف الاطراف الاسرائيلية والفلسطينية من المشروع المسمى "حل الدولتين" ، وامكانية نيله الدعم الاقليمي والدولي في الاشهر القادمة.

ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم اهميتها ، مثل التحولات المتوقعة داخل حركة حماس ، واحتمالات الانشقاق في حركة فتح ، نتيجة التناقض الشديد بين القناعات المؤسسة والموقف الرسمي الحالي. ومنها ايضا انعكاس الحرب على ميول الاقليات المسلمة في الغرب ، للاندماج في المجتمعات المضيفة او البقاء على الهامش. وكذا تاثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر ، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط الخ. وجدت أيضا كتابات مفيدة عن اقتصاديات الحصار ، وطب الطواريء ، تحاول الاجابة عن سؤال: ماذا يمكن لشعب محاصر ان يفعل في ظل الحرب ، وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات واغلاق الحدود.

وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة 2020-2021 حول سلاسل الامداد والتموين وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا ، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد ، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية ، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية والوطنية.

لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلا او ستضيع ، وسط الركام الهائل من الردود والمجادلات السطحية ، التي تتنوع بين مدائح فارغة وشتائم قبيحة ، لشخص الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي او السياسي الذي يعتقد المجادلون انه ينتمي اليه.

يغريني التشاؤم بالقول ان المجتمع العربي عاجز عن النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول ان التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة ، وان التراجع المتوقع للازمة سيسمح بنقاش مستأنف. على اي حال يهمني ان أدعو القاري وكل من يتصل به ، الى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش المنفتح قد يقود الى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية ، فليس وراءها سوى ايذاء الذات واثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء ، وخصوصا الآن ، فلطالما كانت الأزمات اما للأفكار العظيمة.

الشرق الاوسط الخميس - 25 ربيع الثاني 1445 هـ - 9 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4657046

مقالات ذات صلة

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

العولمة فرصة ام فخ ؟

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

استمعوا لصوت التغيير

 

02/11/2023

رأيك الذي لا يقبل النقض او الجدل


أردت في مقال الاسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلا إذ زعمت ان ما تراه العين وما تسمعه الاذن ، كلاهما من نوع الظنون ، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة ، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلا لا يقبل الشك.

اعمق الردود على تلك الفكرة ، هي قول احد الزملاء ، بأن مضمون المقال يساوي انكار اي وجود للحقيقة في العالم. ، فكأن مراده ان الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم ، او – على احسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

ستيف جوبز (1955-2011)

لكني ما قصدت هذا بطبيعة الحال ، بل اردت تشجيع القاريء على مجادلة قناعاته ، لا سيما الراسخة والعميقة منها ، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت ان طرح المسألة في صورتها الاكثر تطرفا ، أدعى لتحقيق المراد ، وهو إثارة الأذهان. ان التفكير والتأمل هو الطريق الوحيد في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها ، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح ، واحترام الرأي المضاد ، مهما بدا غريبا عما ألفناه أو ارتحنا اليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان ، ليس الحقائق الصريحة ، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة او  التي يدعي اصحابها انها تطابق الحقيقة. ان اطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه ، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي ، الا اذا وافقه الناس جميعا ، او غالبية معتبرة منهم ، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي ، مثل وصف "آيفون" الذي اخترعه ستيف جوبز ، فكان مجرد فكرة شخصية ، لكنه تحول لاحقا الى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل ياترى يمكن اطلاق نفس الوصف على الآراء التي احملها انا وأنت أو سائر الناس ، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا او حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الذي قسم موضوعات المعرفة الى ثلاثة اطارات او عوالم ، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه ، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها ، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفا وتفسيرا لما تعرفوا عليه.

اما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا ، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الاشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الاطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة اخرى فان مجموع تأملات البشر في انفسهم وفي الاخرين ، هي المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الافعال التي يقوم بها البشر ، حين يتعاملون مع بعضهم. 

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الانساني ، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الاشخاص الآخرين ، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه ، الذي – على الارجح – ليس معروفا عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله ايضا الآلات والشبكات والبرامج والاعمال الفنية والكتب والادوية والاغذية ، وكل شيء مطروح امام البشر كمنتج نهائي ، لا يرتبط استمرار وجوده بارادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الاول يوفر موضوعات عمل الثاني ، حيث يتحول التأمل الى فكرة جديدة ، يتحول بعضها الى منتج معياري ، يحفظ في العالم الثالث. رغم انها مترابطة ومتفاعلة ، الا ان هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر ، كما لا تقبل السكون والثبات ، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار ، كما في حالة العالم الاول ، او في التفسير وطرق الانتاج ، كما في الثاني ، او في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى ، الذي نسميه "الاحدث" كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: الى اي من هذه العوالم ينتمي ، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك او الجدل؟.

الشرق الاوسط الخميس - 17 ربيع الثاني 1445 هـ - 2 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4642841

 


مقالات ذات صلة

التجربة ليست برهانا

زمن ثقافي جديد

العقل المؤقت

الفكــرة وزمن الفكـرة

مأزق الأسئلة الضبابية

مغامرات العقل وتحرر الانسان 

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي  

نافذة على فلسفة كارل بوبر

لماذا تركنا مقامات الحريري؟

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا خرج العقل من حياتنا

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...