28/03/1999

صناعة الشخصية الملتبسة




في ابريل 1977 استضافت مكة المكرمة المؤتمر العالمي الاول للتعليم الاسلامي ، الذي وجه الانظار بصورة خاصة إلى (ازدواجية التعليم) باعتبارها أحد العيوب الرئيسية في النظام التربوي لجميع الاقطار الاسلامية .

حسب معظم الباحثين الذين قدموا اوراقا للمؤتمر ، فان الازدواجية المذكورة ، هي ثمرة عجز النظام التعليمي القديم عن استيعاب التطورات الجديدة في العلوم ، مما اضطر المجدتمعات المسلمة إلى اقتباس النظام التعليمي الذي تبلور في الغرب ، بمناهجه وفلسفة عمله .

 ولأن العلوم الحديثة شديدة الالتصاق بحاجات الحياة المتغيرة وحركتها الدائبة ، فقد اصبح هذا النظام محور التنشئة الاجتماعية ، والإطار الرئيسي لتدوير الثقافة ، واعداد الاجيال الجديدة من المسلمين ، بينما اتجه النظام القديم إلى مزيد من التخصص ، فتحول من إطار تـثـقيفي وتربوي مفتوح لعامة الناس ، إلى نظام خاص يقصده راغبو التخصص في علوم الشريعة واللغة العربية دون غيرهم . بديهي ان أحدا لا يحول بين الناس والانتظام في النظام التعليمي القديم ، لكن هذا أصبح عاجزا عن ضمان فرص كافية لخريجيه ، وكان في الاصل عاجزا عن توفير الخبرات التي يحتاجها المجتمع في شؤون حياته المختلفة .

وجرى تحديد العيب الرئيسي للنظام التعليمي الحديث ، في تأسيس علومه على فلسفة مغايرة لفلسفة التوحيد ، وأنه لا يقيم اعتبارا خاصا لذلك النوع من الممارسات الاجتماعية ، التي تكرس جزئية الفرد في الجماعة وارتباطه المصيري بتطورات حياتها ، أو تساهم في تدوير الثقافة الاجتماعية بين الاجيال المختلفة ، ان التعليم الغربي ينظر للفرد كموجود مستقل له كيان قانوني محدد ، منفصل عن كيان الجماعة التي ينتمي اليها.

وفيما بعد ، حين يخرج الفرد إلى سوق العمل ، فان علاقته بالافراد الآخرين في الجماعة ، تحددها في المقام الاول مصلحته الخاصة ، وهي ـ لهذا السبب ـ علاقات مؤقتة ورسمية إلى حد كبير ، بينما اهتم التعليم التقليدي قبل تحوله الاخير ، بنقل الثقافة والقيم الناظمة للسلوك الاجتماعي إلى الفرد ، ولعب دورا في تعزيز الروابط التي تشد كل فرد إلى الآخرين من أبناء مجتمعه ، باعتباره وإياهم شركاء في السراء والضراء والمصير .

وقد حاول جميع الاقطار الإسلامية تقريبا تدارك هذا الخلل ، بادخال مواد التربية الدينية وعلوم اللغة في نظام التعليم الحديث ، لكنها بقيت منفصلة ، تلقن لطالب المدرسة باعتبارها علما من العلوم ، وليست فلسفة يقوم عليها كل علم ، كما ان القصور الذي اعترى إعداد المعلم في كل مستويات التعليم ، حدد مهمته بتلقين الطالب ما هو مكتوب في الكتب الدراسية التي اعتمدت كمنهج ، بهدف محدد ، هو إعداد الطالب للنجاح في الامتحان والحصول على شهادة (اكمال الدراسة) .

إن معظم المعلمين ـ ولا نقول كلهم خوف المبالغة ـ لا يعرف كيف يدرس الفيزياء على قاعدة التوحيد ، ولا يعرف كيف يدرس التاريخ على قاعدة التواصل الحضاري بين أجيال البشرية ، ولا يعرف كيف يغرس في عقل الطالب المقومات الثقافية لهويته ، باعتبارها مجال تواصل بين مختلف الأفهام ، وهو في الغالب عاجز عن مساعدة الطالب على تشكيل شخصيته وثقافته الخاصة ، المستقلة ولكن المتواصلة في آن واحد ، ان معظمهم لا يعرف كيف يقوم بهذه المهمة ، لأن أحدا لم يبذل كبير جهد في تعليمه طبيعة هذه المهمة ولا كيفية القيام بها .

لا يقتصر الخلاف بين النظامين على نوع المناهج المعتمدة في كل منهما ، ولا في طريقة التدريس أو مسمى المدارس ، بل في الناتج الأخير ، أي شخصية الفرد الذي تشكلت ثقافته عبر واحد من المسارين ، وفي ذلك المؤتمر حذر الباحثون من ان استمرار ازدواجية النظام التعليمي تنذر بتخريج شريحتين متعارضتين ، تعبر إحداهما عن اتجاه شديد التمسك بالدين وتعبيراته ، بينما تنظر الاخرى إلى التدين باعتباره شأنا جانبيا في الحياة .

 لكني أجد المشكلة أبعد من هذا التقدير ، فنحن اليوم نواجه شخصية واحدة ، لكنها ملتبسة ، يتجاور فيها البعد الديني والبعد العلمي ، لكنهما لا يتواصلان ، ويتجسد الالتباس في عجز الشخص عن منح أحد البعدين فرصته للاشتغال في مختلف أمور الحياة ، فهو تقليدي إلى أبعد حد في حياته الاجتماعية ، وهو عصري إلى أبعد حد في حياته المهنية .

بالنسبة لبعض الناس فان هذا الامر طريف ومسل ، وربما مثير للاعجاب ، لكن هذا هو بالتحديد فحوى المقولة الشهيرة (مالقيصر لقيصر وما لله لله) وهي على أي حال مقولة طريفة ومثيرة للاعجاب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...