نتحدث عادة عن دور (تربوي)
للمدرسة ، إضافة إلى دورها التعليمي المعروف ، وكان قد لفت انتباهي ملاحظة لأحد
المدرسين ، قال فيها ان التربية مهمة الوالدين ، أما المدرسة فمهمتها التعليم ،
حيث لا يتسع الوقت لأداء المهمتين في آن واحد .
المبررات التي عرضها الاستاذ
تبدو منطقية لا يصعب تفهمها وقبولها ، رغم صعوبة القبول بالمحصلة النهائية ، فهو
يقول مثلا ان معظم الاساتذة يجدون المنهج الدراسي طويلا ، بالقياس إلى عدد الحصص
والوقت المخصص له خلال العام ، كما ان عدد الطلبة في معظم الصفوف يتجاوز الحد
المناسب ، مما يضطر المعلم إلى انفاق كامل الوقت المخصص في شرح المنهج ، سيما وانه
سيكون مدار تقييم الطالب في الامتحانات الشهرية أو النهائية .
وعلى رغم منطقية التبرير ،
فلا زلت مترددا في قبول محصلته ، وهو اذا صح في بعض المدارس ، فلا ينبغي ان يكون
صورة عن الوضع الاعتيادي في جميعها .
ثمة مهمات تربوية لا يمكن
للبيت ان يؤديها ، بل لا ينبغي التعويل عليه فيها ، الا اذا كنا واثقين من تفهم
الوالدين لها ، وهو أمر لا يمكن ضمانه في اغلب الاحوال .
من ذلك مثلا اخلاقيات
التعامل مع الغير ، فقد ورثنا قيما وسلوكيات تحتاج الان إلى شطب أو تحتاج إلى
تهذيب ، ولا نتوقع ان يكون الآباء الذين اعتادوا على هذه القيم ، وربما آمنوا بها
، قادرين على نقضها وتعليم خلافها لابنائهم ، قيم من النوع الذي يلخصه القول
المشهور (كن ذئبا والا اكلتك الذئاب) وقيم من النوع الذي يلخصه القول الآخر ( ما
حك جلدك غير ظفرك) و (الذي يأخذ أمي اقول له عمي ) فهذه الامثال التي تشير الى
قاعدة ثقافية لخط كامل من السلوك الاجتماعي ، انما تؤسس في الحقيقة لشخصية الانسان
المتفرد ، الذي لا يؤمن بفضيلة التعاون مع الغير ولا الاندماج في الجماعة ، الا
اذا ضمن عودة الفائدة عليه شخصيا ، حيث تكون مصلحته الذاتية معيار التفاضل ، دون
مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها أو جزء منها ، تلك القيم ، وان امكن رؤية وجه
ايجابي لها ، الا انها تنتهي في المحصلة ، إلى تبرير الافراط في عبادة الذات ،
ورؤية الاخرين باعتبارهم موضوعا للاستثمار ، لا شركاء في الكفاح من أجل ارتقاء
الحياة وعمران الارض
.
خلال السنوات القليلة
الماضية تحدثت الصحف كثيرا عن مسألة التطرف ، وأشار بعضها إلى دور للمدرسة في
بلورة أو تثبيط الاتجاه المتطرف ، ونحن نعلم ـ من قراءة تاريخنا الاجتماعي ـ ان
المجتمع مؤهل لاعادة انتاج السلوكيات والافكار المتطرفة ، وان كثيرا من الآباء قد
تبلورت شخصيتهم وثقافتهم في وسط يؤمن بهذا
النوع من التفكير ويمجد أصحابه ، قبل ان تظهر الثمار المرة للتطرف في السنوات
الأخيرة .
وفي حالة كهذه فاننا لا نستطيع الاعتماد على التربية المنزلية في انتاج
شخصية الجيل الجديد ، الذي نتمنى ان نراه متواضعا ، متوازنا ، متعاونا ، قادرا على
استقبال آراء الاخرين والتعامل معها بعقل مفتوح ، قادرا على التعامل مع الآخرين
باعتبارهم أحد اثنين ـ كما يقول الامام علي بن ابي طالب ـ (اما اخ لك في الدين أو
نظير لك في الخلق) . تحتاج بلادنا في مرحلتها الحاضرة وفي مستقبلها ، اشخاصا
قادرين على الملاينة والتكيف ، قادرين على نسيان مسبقاتهم الذهنية والنفسية حين
يعملون وحين يتعاملون
.
ومن ذلك أيضا السلوكيات
الفردية ، التي وان لم تتضمن إضرارا مباشرا بالغير ، الا انها تعبر عن شخصية عابثة
، لا أبالية ، لو نظرت مثلا إلى المعارك العظيمة التي يخوضها الناس في الشوارع من
أجل اللحاق بالاشارة الخضراء ، أو تجاوز سيارة بطيئة ، المعارك التي تكلفنا في كل
عام من الضحايا والاصابات وتلف الممتلكات ، ما يشبه نتائج الحروب ، فالواضح ان
طالب المدرسة يتعلم هذه الاشياء من ابيه أو من اقرانه أو من الاخرين الذين يراهم
في الشوارع ، ولعله يجد الامر ممتعا قبل ان يصبح ضحية . الذين يمارسون هذا النوع
من السلوك ليسوا جميعا من الصبيان ، معظمهم من الكبار الذين لهم ابناء في المدارس .
انظر إلى مثال آخر على مستوى
التهذيب الشخصي ، الاب الذي يفتح نافذة السيارة ليلقي بعلبة المرطبات ، أو بقايا
المأكولات ، أو المناديل الورقية في الشارع
، انما يعلم اولاده الجالسين معه في السيارة ، كيف يفعلون حين يصبحون كبارا
، انه لا يؤذي شخصا بعينه في هذه الحالة ، بل يؤذي مجموع الناس الذين يرغبون في
رؤية بلادهم نظيفة ، وهو يزيد في أعباء المساكين ، الذين قضت عليهم اقدارهم بان يعملوا
جامعين لقمامة الشوارع ، في صيف بلادنا الحارق ، الولد لا يتعلم هنا كيف يرمي
الاوساخ ، بل يتعلم كيف يكون عابثا ، قليل الاهتمام بما لا يخصه مباشرة .
لننتقل إلى جانب آخر يتعلق
بصورة المستقبل في عيون الطالب ، ففي السنوات الماضية اعتاد الناس على اعتبار الوظيفة
الحكومية الضمان الوحيد للمستقبل ، وكانوا يعتبرون هذه الوظيفة شيئا مؤكدا اذا
أنهوا دراستهم ، بغض النظر عن طبيعة الاختصاص ومستوى الاداء الدراسي ، ربما لهذا
السبب لم يكن كثير من الطلبة يجهدون انفسهم في الدراسة ، ولا في اختيار التخصص
المناسب ، همهم ان يتخرجوا بأسهل الطرق ، لكي يضمنوا كرسيا في دائرة وراتبا في آخر
الشهر ، عن دوام لا يتجاوز الثلاثين ساعة في الاسبوع ، اذا بالغوا في الاخلاص .
لقد انقضى ذلك الزمان ،
واصبح الحصول على وظيفة من هذا النوع مثل جوائز المسابقات ، لا ينالها غير
المحظوظين ، اصبحنا اليوم نسمع عن مئات من الناس ، من خريجي المدارس والجامعات ،
يبحثون عن وظيفة فلا يجدون ، ليس لانعدام الفرص كما أظن ، بل لقلة الكفاءة أو
لصعوبة الشروط ، وهذه هي الحال الطبيعية التي كنا سنصل اليها على أي حال ، رغم ان العادة قد جرت على اعتبار ظروف
السنوات الماضية هي الحالة الطبيعية ، مع انها في حقيقة الامر حالة استثنائية
محدودة بموضوعها وزمنها ، طالب اليوم بحاجة إلى تفكير جديد في مستقبله ، وبحاجة
إلى مؤهلات جديدة لمواجهة تحديات هذا المستقبل . الاب الذي اعتاد على ما مضى ، لا
يزال يظن بان الحصول على وظيفة حكومية ، ممكن دائما ، وان ما ينقصه هو (الواسطة)
وهل يمكن ايجاد واسطة لعشرات الالاف الذين ينهون دراستهم كل عام ؟ .
ترى هل يمكن
الاعتماد على الوالدين في توجيه ابنهم إلى الوجهة الاخرى ، وكيف لهما ان يعرفا
طبيعة هذه الوجهة وحاجاتها ، هذه الوجهة الجديدة وليدة ظرف جديد ، لم يسبق لهما
التعرف عليه ، ولا معرفة حاجاته ولا مواجهة تحدياته ، فمن أي كيس سيستخرج الاب ما
يعطيه للولد ، وهل سمعتم باناء ينضح ما ليس فيه ؟ .
لكل ما سبق اعود إلى القول
بأن (التربية) هي مهمة المدرسة ، فهي التي يفترض فيها العلم بالوجهة التي ينبغي ان
يقاد الطالب اليها ، وهي التي ينبغي ان تعرف صورة الشخصية القويمة ، التي سيجتهد
الطالب في اكتسابها ، وهي الجديرة بتوجيه الجيل الجديد إلى مكارم الاخلاق والفضائل .
قد تعيق ظروف خاصة هذه
المدرسة أو تلك عن القيام بدورها التربوي ، فتنصرف إلى حشو أدمغة طلابها
بالمعلومات بدل تربية نفوسهم ، لكن لا ينبغي ان تتحول هذه الحالة إلى قاعدة عامة
مقبولة ، والا فاننا نغامر بأثمن ما لدينا ، اعني رأس مالنا البشري والانساني ،
الذي لا قيمة لأي شيء إذا فقدناه أو فقدنا ما هو ضروري فيه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق