13/02/1995

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري


في جميع الاقطار الاسلامية ينظر الناس الى رمضان ، باعتباره شهر التكافل والمواساة وصلة الرحم ، ويقوم المسلمون ، معظمهم على الاقل ، باداء واجب التواصل مع الغير ، الاقارب والمعارف ، او الضعفاء في المجتمع الذين لايجدون الى كريم العيش حيلة .
  
 وثمة في الاثر النبوي كثير من الروايات ، التي تحث على التكافل والتراحم ، ثم تشدد على القيام بهما في رمضان بصورة خاصة ، وبينت في موارد اخرى ان حكمة تشريع الصوم ، هي تذكير المسلم بحال الضعفاء ، الذين لايجدون قوت يومهم ، او لايجدون مايكفيهم من قوت اليوم .
وفي مثل هذا الشهر الكريم من كل عام تنهض الجمعيات الخيرية بدعوة المسلمين الى الاحسان ، واظهار المعاضدة لها والعون في اداء مهماتها النبيلة ، كما يبادر المحسنون من جانبهم الى الجود بما تستطيعه ايديهم ، من ولائم لافطار المعوزين ، او مساعدة للارامل والمقلين ، ممن يعلم الناس بحالهم ، أو ممن التزموا جانب العفاف فستروا حالهم على بؤسه ، الا على الذين يجتهدون في البحث عن اصحاب الحاجات ، حتى ليحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف .

 وفي بلادنا وكثير من بلدان المسلمين الاخرى ، شواهد على تصاعد الاحساس بالضعفاء في هذا الشهر ، تستعصي لكثرتها وتعددها على الحصر ، وهي تتدرج من الاحسان على المستوى الفردي الى العون العام ، الى تنظيم العون العام عبر جمعيات ومؤسسات متخصصة ، مثل الجمعيات الخيرية وهيئات الاغاثة ومنظمات الدعوة وغيرها .

 التكافل في التعليم
 ثمة انواع من التكافل لم تطرق في بلادنا الا نادرا ، وأحسب ان من المفيد تسليط الضوء على بعضها ، في هذا الشهر الكريم خاصة ، لعل احدا من القادرين او المهتمين يأنس في نفسه القدرة على القيام بأمرها ، وقد اخترتها بالنظر للظرف العام الذي تمر فيه البلاد ، وتطوراته المتوقعة في المستقبل المنظور .
  
من انواع التكافل المعنية ، تلك التي تستهدف توفير التعليم العالي ، الجامعي وفوق الجامعي للمؤهلين الذين لايجدون الفرصة في الجامعات الرسمية ، فمن بين آلاف الطلبة الذين ينهون المرحلة الثانوية كل عام ، لايجد غير قليل منهم سبيلا لمواصلة التعليم الجامعي ، اما بسبب قلة الفرص المتاحة في الجامعات ، والتي نتجت بدورها عن الصعوبات الاقتصادية ، وارتفاع تكاليف التوسع المطلوب ، لاستيعاب العدد المتزايد من خريجي الثانويات كل عام ، واما بسبب الصعوبات المعيشية ، التي يواجهها بعض هؤلاء الخريجين ، الذين يدعوهم الاملاق الى التخلي عن حلم الدراسة الجامعية ، والاتجاه الى سوق العمل ، ولما يزالون في مقتبل اعمارهم ، حيث الاستعداد للتعلم والارتقاء بالكفاءات الذاتية في ذروته .
  
الجامعة الخيرية
 وفي مطلع العام الدراسي الجاري ، عرض بعض رجال الاعمال مشروعا لتاسيس جامعتين اهليتين ، ويبدو ان الفكرة قد لقيت اصداء طيبة ، على المستوى الشعبي كما على المستوى الرسمي ، نظرا لشعور الجميع بحاجة البلاد الى مشاريع كهذا .

  لكن يبدو ان هذا المشروع ـ كما يبدو من الصورة التي عرضت في وسائل الاعلام ، يستهدف الربح ، فهو مشروع تجاري بالدرجة الاولى ، او انه ـ مع ملاحظة التحفظ ـ مشروع يستهدف الربح من خلال الخدمة العامة .
  
واذا اعتبرنا مشروع الجامعة الاهلية ، مماثلا من حيث خط العمل وظروفه للمشاريع المشابهة له ، وهي على وجه التخصيص المدارس الاهلية ، التي انتشرت اخيرا في المدن الرئيسية من المملكة ، فسنجد انه لايحقق التكافل الاجتماعي بالمعنى الدقيق ، فالانتماء الى المدارس الاهلية حكر على القادرين ماليا ، من المقيمين في المدن الكبرى او حواليها ، وهؤلاء اقل الناس حاجة الى معاضدة الاخرين .

  انما يحتاج الى المعاضدة والعون الفقراء ، واصحاب الدخول المحدودة ، فهؤلاء هم الذين يضطرون لترك الدراسة الجامعية تحت ضغط المعيشة ، وهؤلاء هم الذين يعجزون عن الاستفادة من جميع فرص التعليم الجامعي المتاحة في مختلف المناطق .
  
ولهذا فان مشروع التعليم الجامعي الخيري ، هو التجسيد الواقعي لفكرة التكافل الاجتماعي ، وليس الجامعة التجارية .
  
الوقف الخيري
 ان اقامة جامعة ليس بالعمل الهين او القليل التكاليف ، يخبرنا ممثل مشروع الجامعة الاهلية ، ان التكاليف المتوقعة ستكون في حدود المئة مليون ريال لجامعتين ، اي مايعادل نصف هذا المبلغ لكل واحدة على وجه التقريب ، وهو على اي حال مبلغ كبير .
  
 وفي حال الجامعة الخيرية فان المشروع لايتضمن تحميل الطلبة جميع تكاليفهم الدراسية كما هو الحال في الجامعة الاهلية ، لذلك فان الاعتماد على التبرعات غير المنتظمة قد يكون غير مجد ، بل ان تذبذب الاحوال الاقتصادية قد تصيب من المشروع مقتلا ، فالمعروف ان حجم المساعدات الخيرية يتأثر سلبا وايجابا بحركة السوق صعودا او هبوطا ، وفي مشروع كهذا فان ترك الامر للظروف المتغيرة والخارجة عن سيطرة القائمين عليه ، يمثل مغامرة غير محمودة بمستقبل المئات من الطلبة الذين يعلقون على مستقبلهم اجمل الامال.

ان السبيل الوحيد في تقديري لضمان اقامة المشروع وضمان استمراره على النحو الامثل ، يكمن في جعله معتمدا على وقف خاص به ، بكلمة اخرى فان العمل المنتظم يحتاج الى موارد منتظمة ، واظهر مصاديق هذه الموارد هي المشروعات الاستثمارية او الاصول ذات القيمة القابلة للاستثمار .
  
لقد انعم الله على بلادنا بخير كثير وانعم عليها مرة ثانية بهداية بعض ابنائها الى سبل الخير ، والمساعدة على اعمال الخير ، فلو ان بعضهم خصص حصة من اعماله او اصوله المالية كوقف لهذا المشروع الخيري ، لتحقق المطلوب .
  
ولان كل عمل كبير يحتاج الى رجال بحجمه ، في همتهم وكفاءتهم وعزمهم على مواجهة الصعاب ، فان تحقيق مشروع الجامعة الخيرية بحاجة الى رجال يتحلون بهذه الصفات ، لدراسته واستبيان فرص نجاحه ، ثم اقناع القادرين بتخصيص الاوقاف اللازمة له ، حتى يقوم .

 ان مساعدة الضعفاء في الارتقاء بمؤهلاتهم حتى يصبحوا قادرين على كفاية انفسهم واهليهم ، هي ابرز واجلى مصاديق التكافل الاجتماعي ، وليس من وسيلة لارتقاء المؤهلات اسرع واكمل من الاستزادة في العلم ، ثم ان فوائد هذا المشروع لاتقتصر على المستفيد المباشر ، بل تنعكس على الوطن باكمله ، لاسيما واننا احوج مانكون الى الاكفاء والخبراء واهل العلم .

 بعض من ثمن التقدم
 استمعت هذا الاسبوع الى محاضرة ممتعة ، حول العلاقة بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي ، واثار بعض المعقبين مسألة العلاقة بين النمو الاقتصادي والتحولات الاجتماعية الموازية ، وقد وجدت في النقاش الذي دار ، مجموعة قيمة من الافكار ، اود اشراك القراء في بعضها ، طمعا في تعميم الفائدة .
  
يقول المتحدث ان كل مجتمع يمر بتحولات كبرى ، كالتي مر بها المجتمع العربي ، خلال العقدين الماضيين ، فلابد له من دفع ثمن باهظ ، خلال مرحلة الانتقال الى صورته الجديدة ، الثمن المقصود طبعا هو اضطرار الناس للتخلي عن افكار ، او اساليب حياة أو انماط من العلاقات، كانت فيما مضى محل توافق ورضى .
  
على المستوى المادي البحت ، فثمة من يخسر وثمة من يربح ، خلال الفترة الانتقالية ، لكن المحصلة العامة ـ كما ظهر من تجارب معظم المجتمعات العربية ـ تعتبر في صالح الاكثرية ، ان لم نقل الجميع .

 حركة متواصلة
 قال احد المعقبين ان المجتمع ليس تشكيلا ساكنا ، وان التحول فيه هو عملية يومية لاتتحدد بزمن ، بكلمة اخرى فانه لاينبغي انتظار نهاية للتحولات الاجتماعية ، لان المجتمع لايتوقف عن التحرك وبالتالي التحول ، الا اذا توقف عن الحياة ، وعليه فان التحول الذي نتحدث عنه لايعتبر استثنائيا ، وان انعكاساته هي نموذج معتاد ومتعارف عليه للحياة الاجتماعية في اطوراها المختلفة .

 ولا اظن احدا يخالف هذا الراي من جانبة النظري ، لكنه ليس كذلك في ميدان الواقع ، فتعريف التحول يتفاوت تبعا لحجم تاثيراته ، ونوعية القوى المحركة له ، واخيرا بحسب المدى الزمني ، الذي يستغرقه احلال نمط جديد بدلا عن نمط سائد .

والذي يمكن قوله بهذا الصدد ، ان المجتمع يعيش التحول كل يوم ، لكن تمر عليه فترات يتسارع فيها التحول ، بحيث يقطع المراحل التي تحتاج الى زمن طويل عادة في فترة يسيرة ، ولهذا فان انعكاسات هذا التحول ، تتكثف خلال فترة قصيرة ، بحيث تبدو اكبر من طاقة المجتمع على هضمها واستيعابها ، اي تحييدها .

 وتكمن اهمية الزمن هنا ، في صعوبة استيعاب المتغيرات ، وقد لاحظ عدد من الباحثين ، ان المدن العربية الكبرى تشهد تبلور حالات اغتراب ثقافي ونفسي ، هي السبب في عدد كبير من الانحرافات السلوكية ، ان الاغتراب في جوهره تعبير عن عجز الانسان عن التآلف والانسجام مع ظرفه الاجتماعي ، بقيمه وانماط حياته ، وحدود المقبول والمرفوض من السلوك فيه ، ويحدث هذا عندما يفاجأ الانسان بتبدل محيطه الاجتماعي ، وانماط الحياة من حوله وتخلخل نظام العلاقات الاجتماعية .

وبوسعنا التاكد من صحة هذا الاستنتاج ، بالتامل في معاناة الاباء وكبار السن عموما ، الذين يتحسرون على سالف الزمن ، وعلى القيم التي سادت فيه ، ونمط الحياة الذي كان متعارفا عليه ، ان شعورهم بالاسف واحيانا اعتزالهم للحياة العامة ، هو التعبير الواقعي عن الصعوبة التي يواجهونها ، في استيعاب الصورة الجديدة للحياة ، بعد ان اعتادوا على نمط مغاير طيلة حياتهم او في معظمها .

انعكاسات مقلقة
 يؤثر التسارع في الحراك الاجتماعي على جميع الناس ، وهم بدورهم ـ اغلبهم على الأقل ـ يبذلون ما استطاعوا من جهد لزيادة فاعليتهم ونشاطهم في الاستجابة لتحدي التغيير .

 وهذا السباق بين الحراك الاجتماعي ومحاولات التكيف الفردي مع نتائجه ، ينعكس على صورة قلق خفي يتفاقم داخل الفرد ، فيجعله نهبا لمشاعر متناقضة ، من الثقة المفرطة بالذات ، الى الخوف على المستقبل ، ومن اتساع افاق النجاح ، الى خوف ضياع الفرص .
  
يترافق هذا القلق مع تراخي النظام القديم للمجتمع وذهاب فاعليته ، ومنها قدرته على الضبط ، فينتج عن هذا وذاك ، تراخي اهمية الروابط المشتركة بين الفرد ومحيطه ، ومنها قيمة المصلحة العامة والنظام العام ، وهذه هي النقطة التي تبدأ عندها محاولات التحايل على القانون ، او الاستئثار بما هو مشترك مع الغير .
  
وتجابه الحكومات هذا التطور بالاكثار من القوانين والتعليمات التي تاتي ـ بسبب ظروف التسارع المشار اليها ـ مرتجلة ، لانها هي الاخرى تعبير عن قلق ، وليس اغلبها نتاج دراسة واقعية ، وبحث ميداني او تامل في انعكاساتها المتعددة الابعاد ، ولهذا السبب بالذات فانها لاتعالج من المشكلة الا بعض ظواهرها، دون ان تقضي عليها من الاساس ، هذا اذا لم تكن سببا في انتاج مشكلات جديدة .
  
ان الاكثار من القوانين والتعليمات قد يؤدي الى تشديد الضوابط ، لكنه يؤدي بموازاة ذلك الى توسيع البيرواقراطية وتعميق ازمة الادارة ، كما انه يفتح الباب لافساد الموظفين ، الذين ستصبح بيدهم قدرة اكبر على الترخيص والمنع ، اي التحكم في اتجاه وطبيعة حركة الناس  ، وفي هذه المرحلة ينضم الى المتحايلين على القانون قطاع جديد ، ينتمي افراده الى طبقة حراس القانون والقائمين عليه.

 ولاتعدم البيروقراطية وسيلة لتبرير مراكمة  القوانين ، فهم لايسمونها قوانين ضبط بل قوانين تخطيط ، لكنها لاتنتمي باي شكل الى التخطيط ، في مرحلة تشريعها ، فضلا عما ستكون عليه في مرحلة التطبيق .
  
نستطيع تلمس واقعية هذا الاستنتاج في ضيق الناس بالاجراءات الادارية ، بطولها وتعقيدها وارتفاع تكاليفها ، وفي الارتفاع المستمر لحوادث الجريمة والجنح على اختلاف انواعها ، ارتفاعا يفوق في معدله ، معدل النمو السنوي لعدد السكان ، وعلى مستوى الادارة نستطيع تلمسها في ازدياد معدل الجرائم الادارية ، الظاهرة كالرشوة ، والخفية مثل استغلال الوظيفة للاثراء غير المشروع.

لقد حيرت هذه الدائرة المتوالية من المشكلات ، الباب الباحثين في مشكلات التنمية وادراة التنمية ، وقل ان تخلو دراسة عن المجتمع في طور النمو ، من اشارة الى هذا الموضوع ، ولهذا فمن الصعب عرض اقتراحات قطعية ، او اعتبارها حلولا جذرية .
  
ما لايدرك كله
 لكن العجز عن ايجاد حلول نهائية ، لاينبغي ان يبعدنا عن التفكير في الجوانب القابلة للعلاج ، او العلاجات القادرة على تخفيف وطأة المشكلات ، سيما اذا نظرنا اليها كتعبيرات عن حاجة لتغيير فلسفة الادارة .
  
يصنف الاداريون دون المستوى السياسي باعتبارهم موظفين عموميين يقومون بالخدمة العامة للناس ، وانهم مدينون لكل مواطن ، باعتباره شريكا في المال الذي يقبضونه ، على صورة رواتب او مميزات وظيفية ، وفي البلاد الاوربية يسمى الموظفون في الدوائر الرسمية (خداما مدنيين Civil Servants) أما في البلاد العربية ، فيعتبر الموظفون والاداريون انفسهم (حكومة) اي جهة حكم ، وبالنظر لفوقية الحكومة على المجتمع ، فان كلا منهم يعتبر نفسه حاكما ، بدرجة من الدرجات .
  
ثمة راي يدعو الى توسيع نطاق المحاسبة للادارة ، وتعميمها بمنح الصحافة حرية النقد ، وتسمية الاشياء باسمائها ، وتمكين القضاء العادي من الادعاء على الاداريين ، والطعن في القوانين التي ليس لها طبيعة سيادية ، ربما ساعدت اجراءات كهذه ، على اقامة التوازن الضروري بين المجتمع والادارة .
  
والذي اظن ان هذه الاقتراحات ، تساهم بدرجة معينة في تخفيف المشكلات المذكورة ، لكنها ابعد ماتكون عن العلاج النهائي .

وتبقى القضية قائمة ، وهي فيما ارى تستحق الكثير من النقاش.

 نشر في (اليوم) 13فبراير1995

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...