في
جميع الاقطار الاسلامية ينظر الناس الى رمضان ، باعتباره شهر التكافل والمواساة
وصلة الرحم ، ويقوم المسلمون ، معظمهم على الاقل ، باداء واجب التواصل مع الغير ،
الاقارب والمعارف ، او الضعفاء في المجتمع الذين لايجدون الى كريم العيش حيلة .
وثمة في الاثر النبوي كثير من الروايات ، التي
تحث على التكافل والتراحم ، ثم تشدد على القيام بهما في رمضان بصورة خاصة ، وبينت
في موارد اخرى ان حكمة تشريع الصوم ، هي تذكير المسلم بحال الضعفاء ، الذين
لايجدون قوت يومهم ، او لايجدون مايكفيهم من قوت اليوم .
وفي
مثل هذا الشهر الكريم من كل عام تنهض الجمعيات الخيرية بدعوة المسلمين الى الاحسان
، واظهار المعاضدة لها والعون في اداء مهماتها النبيلة ، كما يبادر المحسنون من
جانبهم الى الجود بما تستطيعه ايديهم ، من ولائم لافطار المعوزين ، او مساعدة
للارامل والمقلين ، ممن يعلم الناس بحالهم ، أو ممن التزموا جانب العفاف فستروا
حالهم على بؤسه ، الا على الذين يجتهدون في البحث عن اصحاب الحاجات ، حتى ليحسبهم
الجاهل اغنياء من التعفف .
وفي
بلادنا وكثير من بلدان المسلمين الاخرى ، شواهد على تصاعد الاحساس بالضعفاء في هذا
الشهر ، تستعصي لكثرتها وتعددها على الحصر ، وهي تتدرج من الاحسان على المستوى
الفردي الى العون العام ، الى تنظيم العون العام عبر جمعيات ومؤسسات متخصصة ، مثل
الجمعيات الخيرية وهيئات الاغاثة ومنظمات الدعوة وغيرها .
التكافل
في التعليم
ثمة
انواع من التكافل لم تطرق في بلادنا الا نادرا ، وأحسب ان من المفيد تسليط الضوء
على بعضها ، في هذا الشهر الكريم خاصة ، لعل احدا من القادرين او المهتمين يأنس في
نفسه القدرة على القيام بأمرها ، وقد اخترتها بالنظر للظرف العام الذي تمر فيه
البلاد ، وتطوراته المتوقعة في المستقبل المنظور .
من
انواع التكافل المعنية ، تلك التي تستهدف توفير التعليم العالي ، الجامعي وفوق
الجامعي للمؤهلين الذين لايجدون الفرصة في الجامعات الرسمية ، فمن بين آلاف الطلبة
الذين ينهون المرحلة الثانوية كل عام ، لايجد غير قليل منهم سبيلا لمواصلة التعليم
الجامعي ، اما بسبب قلة الفرص المتاحة في الجامعات ، والتي نتجت بدورها عن
الصعوبات الاقتصادية ، وارتفاع تكاليف التوسع المطلوب ، لاستيعاب العدد المتزايد
من خريجي الثانويات كل عام ، واما بسبب الصعوبات المعيشية ، التي يواجهها بعض
هؤلاء الخريجين ، الذين يدعوهم الاملاق الى التخلي عن حلم الدراسة الجامعية ،
والاتجاه الى سوق العمل ، ولما يزالون في مقتبل اعمارهم ، حيث الاستعداد للتعلم
والارتقاء بالكفاءات الذاتية في ذروته .
الجامعة
الخيرية
وفي
مطلع العام الدراسي الجاري ، عرض بعض رجال الاعمال مشروعا لتاسيس جامعتين اهليتين
، ويبدو ان الفكرة قد لقيت اصداء طيبة ، على المستوى الشعبي كما على المستوى
الرسمي ، نظرا لشعور الجميع بحاجة البلاد الى مشاريع كهذا .
لكن يبدو ان هذا المشروع ـ كما يبدو من الصورة
التي عرضت في وسائل الاعلام ، يستهدف الربح ، فهو مشروع تجاري بالدرجة الاولى ، او
انه ـ مع ملاحظة التحفظ ـ مشروع يستهدف الربح من خلال الخدمة العامة .
واذا
اعتبرنا مشروع الجامعة الاهلية ، مماثلا من حيث خط العمل وظروفه للمشاريع المشابهة
له ، وهي على وجه التخصيص المدارس الاهلية ، التي انتشرت اخيرا في المدن الرئيسية
من المملكة ، فسنجد انه لايحقق التكافل الاجتماعي بالمعنى الدقيق ، فالانتماء الى
المدارس الاهلية حكر على القادرين ماليا ، من المقيمين في المدن الكبرى او حواليها
، وهؤلاء اقل الناس حاجة الى معاضدة الاخرين .
انما يحتاج الى المعاضدة والعون الفقراء ،
واصحاب الدخول المحدودة ، فهؤلاء هم الذين يضطرون لترك الدراسة الجامعية تحت ضغط
المعيشة ، وهؤلاء هم الذين يعجزون عن الاستفادة من جميع فرص التعليم الجامعي
المتاحة في مختلف المناطق .
ولهذا
فان مشروع التعليم الجامعي الخيري ، هو التجسيد الواقعي لفكرة التكافل الاجتماعي ،
وليس الجامعة التجارية .
الوقف
الخيري
ان
اقامة جامعة ليس بالعمل الهين او القليل التكاليف ، يخبرنا ممثل مشروع الجامعة
الاهلية ، ان التكاليف المتوقعة ستكون في حدود المئة مليون ريال لجامعتين ، اي
مايعادل نصف هذا المبلغ لكل واحدة على وجه التقريب ، وهو على اي حال مبلغ كبير .
وفي حال الجامعة الخيرية فان المشروع لايتضمن
تحميل الطلبة جميع تكاليفهم الدراسية كما هو الحال في الجامعة الاهلية ، لذلك فان
الاعتماد على التبرعات غير المنتظمة قد يكون غير مجد ، بل ان تذبذب الاحوال
الاقتصادية قد تصيب من المشروع مقتلا ، فالمعروف ان حجم المساعدات الخيرية يتأثر
سلبا وايجابا بحركة السوق صعودا او هبوطا ، وفي مشروع كهذا فان ترك الامر للظروف
المتغيرة والخارجة عن سيطرة القائمين عليه ، يمثل مغامرة غير محمودة بمستقبل
المئات من الطلبة الذين يعلقون على مستقبلهم اجمل الامال.
ان
السبيل الوحيد في تقديري لضمان اقامة المشروع وضمان استمراره على النحو الامثل ،
يكمن في جعله معتمدا على وقف خاص به ، بكلمة اخرى فان العمل المنتظم يحتاج الى
موارد منتظمة ، واظهر مصاديق هذه الموارد هي المشروعات الاستثمارية او الاصول ذات
القيمة القابلة للاستثمار .
لقد
انعم الله على بلادنا بخير كثير وانعم عليها مرة ثانية بهداية بعض ابنائها الى سبل
الخير ، والمساعدة على اعمال الخير ، فلو ان بعضهم خصص حصة من اعماله او اصوله
المالية كوقف لهذا المشروع الخيري ، لتحقق المطلوب .
ولان
كل عمل كبير يحتاج الى رجال بحجمه ، في همتهم وكفاءتهم وعزمهم على مواجهة الصعاب ،
فان تحقيق مشروع الجامعة الخيرية بحاجة الى رجال يتحلون بهذه الصفات ، لدراسته
واستبيان فرص نجاحه ، ثم اقناع القادرين بتخصيص الاوقاف اللازمة له ، حتى يقوم .
ان
مساعدة الضعفاء في الارتقاء بمؤهلاتهم حتى يصبحوا قادرين على كفاية انفسهم واهليهم
، هي ابرز واجلى مصاديق التكافل الاجتماعي ، وليس من وسيلة لارتقاء المؤهلات اسرع
واكمل من الاستزادة في العلم ، ثم ان فوائد هذا المشروع لاتقتصر على المستفيد
المباشر ، بل تنعكس على الوطن باكمله ، لاسيما واننا احوج مانكون الى الاكفاء
والخبراء واهل العلم .
بعض من ثمن التقدم
استمعت
هذا الاسبوع الى محاضرة ممتعة ، حول العلاقة بين العدالة الاجتماعية والنمو
الاقتصادي ، واثار بعض المعقبين مسألة العلاقة بين النمو الاقتصادي والتحولات
الاجتماعية الموازية ، وقد وجدت في النقاش الذي دار ، مجموعة قيمة من الافكار ،
اود اشراك القراء في بعضها ، طمعا في تعميم الفائدة .
يقول
المتحدث ان كل مجتمع يمر بتحولات كبرى ، كالتي مر بها المجتمع العربي ، خلال
العقدين الماضيين ، فلابد له من دفع ثمن باهظ ، خلال مرحلة الانتقال الى صورته
الجديدة ، الثمن المقصود طبعا هو اضطرار الناس للتخلي عن افكار ، او اساليب حياة
أو انماط من العلاقات، كانت فيما مضى محل توافق ورضى .
على
المستوى المادي البحت ، فثمة من يخسر وثمة من يربح ، خلال الفترة الانتقالية ، لكن
المحصلة العامة ـ كما ظهر من تجارب معظم المجتمعات العربية ـ تعتبر في صالح الاكثرية
، ان لم نقل الجميع .
حركة
متواصلة
قال
احد المعقبين ان المجتمع ليس تشكيلا ساكنا ، وان التحول فيه هو عملية يومية
لاتتحدد بزمن ، بكلمة اخرى فانه لاينبغي انتظار نهاية للتحولات الاجتماعية ، لان
المجتمع لايتوقف عن التحرك وبالتالي التحول ، الا اذا توقف عن الحياة ، وعليه فان
التحول الذي نتحدث عنه لايعتبر استثنائيا ، وان انعكاساته هي نموذج معتاد ومتعارف
عليه للحياة الاجتماعية في اطوراها المختلفة .
ولا
اظن احدا يخالف هذا الراي من جانبة النظري ، لكنه ليس كذلك في ميدان الواقع ،
فتعريف التحول يتفاوت تبعا لحجم تاثيراته ، ونوعية القوى المحركة له ، واخيرا بحسب
المدى الزمني ، الذي يستغرقه احلال نمط جديد بدلا عن نمط سائد .
والذي
يمكن قوله بهذا الصدد ، ان المجتمع يعيش التحول كل يوم ، لكن تمر عليه فترات
يتسارع فيها التحول ، بحيث يقطع المراحل التي تحتاج الى زمن طويل عادة في فترة
يسيرة ، ولهذا فان انعكاسات هذا التحول ، تتكثف خلال فترة قصيرة ، بحيث تبدو اكبر
من طاقة المجتمع على هضمها واستيعابها ، اي تحييدها .
وتكمن
اهمية الزمن هنا ، في صعوبة استيعاب المتغيرات ، وقد لاحظ عدد من الباحثين ، ان
المدن العربية الكبرى تشهد تبلور حالات اغتراب ثقافي ونفسي ، هي السبب في عدد كبير
من الانحرافات السلوكية ، ان الاغتراب في جوهره تعبير عن عجز الانسان عن التآلف
والانسجام مع ظرفه الاجتماعي ، بقيمه وانماط حياته ، وحدود المقبول والمرفوض من
السلوك فيه ، ويحدث هذا عندما يفاجأ الانسان بتبدل محيطه الاجتماعي ، وانماط
الحياة من حوله وتخلخل نظام العلاقات الاجتماعية .
وبوسعنا
التاكد من صحة هذا الاستنتاج ، بالتامل في معاناة الاباء وكبار السن عموما ، الذين
يتحسرون على سالف الزمن ، وعلى القيم التي سادت فيه ، ونمط الحياة الذي كان
متعارفا عليه ، ان شعورهم بالاسف واحيانا اعتزالهم للحياة العامة ، هو التعبير
الواقعي عن الصعوبة التي يواجهونها ، في استيعاب الصورة الجديدة للحياة ، بعد ان
اعتادوا على نمط مغاير طيلة حياتهم او في معظمها .
انعكاسات
مقلقة
يؤثر
التسارع في الحراك الاجتماعي على جميع الناس ، وهم بدورهم ـ اغلبهم على الأقل ـ
يبذلون ما استطاعوا من جهد لزيادة فاعليتهم ونشاطهم في الاستجابة لتحدي التغيير .
وهذا
السباق بين الحراك الاجتماعي ومحاولات التكيف الفردي مع نتائجه ، ينعكس على صورة
قلق خفي يتفاقم داخل الفرد ، فيجعله نهبا لمشاعر متناقضة ، من الثقة المفرطة
بالذات ، الى الخوف على المستقبل ، ومن اتساع افاق النجاح ، الى خوف ضياع الفرص .
يترافق
هذا القلق مع تراخي النظام القديم للمجتمع وذهاب فاعليته ، ومنها قدرته على الضبط
، فينتج عن هذا وذاك ، تراخي اهمية الروابط المشتركة بين الفرد ومحيطه ، ومنها
قيمة المصلحة العامة والنظام العام ، وهذه هي النقطة التي تبدأ عندها محاولات
التحايل على القانون ، او الاستئثار بما هو مشترك مع الغير .
وتجابه
الحكومات هذا التطور بالاكثار من القوانين والتعليمات التي تاتي ـ بسبب ظروف
التسارع المشار اليها ـ مرتجلة ، لانها هي الاخرى تعبير عن قلق ، وليس اغلبها نتاج
دراسة واقعية ، وبحث ميداني او تامل في انعكاساتها المتعددة الابعاد ، ولهذا السبب
بالذات فانها لاتعالج من المشكلة الا بعض ظواهرها، دون ان تقضي عليها من الاساس ، هذا اذا لم تكن سببا في انتاج مشكلات
جديدة .
ان
الاكثار من القوانين والتعليمات قد يؤدي الى تشديد الضوابط ، لكنه يؤدي بموازاة
ذلك الى توسيع البيرواقراطية وتعميق ازمة الادارة ، كما انه يفتح الباب لافساد
الموظفين ، الذين ستصبح بيدهم قدرة اكبر على الترخيص والمنع ، اي التحكم في اتجاه
وطبيعة حركة الناس ، وفي هذه المرحلة ينضم
الى المتحايلين على القانون قطاع جديد ، ينتمي افراده الى طبقة حراس القانون
والقائمين عليه.
ولاتعدم
البيروقراطية وسيلة لتبرير مراكمة
القوانين ، فهم لايسمونها قوانين ضبط بل قوانين تخطيط ، لكنها لاتنتمي باي
شكل الى التخطيط ، في مرحلة تشريعها ، فضلا عما ستكون عليه في مرحلة التطبيق .
نستطيع
تلمس واقعية هذا الاستنتاج في ضيق الناس بالاجراءات الادارية ، بطولها وتعقيدها
وارتفاع تكاليفها ، وفي الارتفاع المستمر لحوادث الجريمة والجنح على اختلاف
انواعها ، ارتفاعا يفوق في معدله ، معدل النمو السنوي لعدد السكان ، وعلى مستوى
الادارة نستطيع تلمسها في ازدياد معدل الجرائم الادارية ، الظاهرة كالرشوة ،
والخفية مثل استغلال الوظيفة للاثراء غير المشروع.
لقد
حيرت هذه الدائرة المتوالية من المشكلات ، الباب الباحثين في مشكلات التنمية
وادراة التنمية ، وقل ان تخلو دراسة عن المجتمع في طور النمو ، من اشارة الى هذا
الموضوع ، ولهذا فمن الصعب عرض اقتراحات قطعية ، او اعتبارها حلولا جذرية .
ما
لايدرك كله
لكن
العجز عن ايجاد حلول نهائية ، لاينبغي ان يبعدنا عن التفكير في الجوانب القابلة
للعلاج ، او العلاجات القادرة على تخفيف وطأة المشكلات ، سيما اذا نظرنا اليها
كتعبيرات عن حاجة لتغيير فلسفة الادارة .
يصنف
الاداريون دون المستوى السياسي باعتبارهم موظفين عموميين يقومون بالخدمة العامة
للناس ، وانهم مدينون لكل مواطن ، باعتباره شريكا في المال الذي يقبضونه ، على
صورة رواتب او مميزات وظيفية ، وفي البلاد الاوربية يسمى الموظفون في الدوائر
الرسمية (خداما مدنيين Civil Servants) أما في البلاد
العربية ، فيعتبر الموظفون والاداريون انفسهم (حكومة) اي جهة حكم ، وبالنظر لفوقية
الحكومة على المجتمع ، فان كلا منهم يعتبر نفسه حاكما ، بدرجة من الدرجات .
ثمة
راي يدعو الى توسيع نطاق المحاسبة للادارة ، وتعميمها بمنح الصحافة حرية النقد ،
وتسمية الاشياء باسمائها ، وتمكين القضاء العادي من الادعاء على الاداريين ،
والطعن في القوانين التي ليس لها طبيعة سيادية ، ربما ساعدت اجراءات كهذه ، على
اقامة التوازن الضروري بين المجتمع والادارة .
والذي
اظن ان هذه الاقتراحات ، تساهم بدرجة معينة في تخفيف المشكلات المذكورة ، لكنها
ابعد ماتكون عن العلاج النهائي .
وتبقى
القضية قائمة ، وهي فيما ارى تستحق الكثير من النقاش.
نشر في (اليوم) 13فبراير1995
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق