وراء
الفرح والانس الذي يصاحب قدوم شهر رمضان المبارك ، فان هذا الشهر الفضيل مناسبة
فريدة للتأمل ، وسبر اغوار الذات ، بحثا عن مقارنة بين المشاعر الدفينة في اعماق
النفس ، وبين ماتثيره اجواء الشهر واعماله من ذكريات ، عن الفضائل والمناقب ومكارم
الاخلاق ، التي يوشك تتابع الايام ان يذهب بمعانيها من ذاكرة الانسان .
انه فرصة التذكر والتفكر والمحاسبة ، التي
تستهدف اصطياد مايعلق بالنفس طوال العـام من معايب ، لاينبـغي للمسلم ان يتركها
تلتصق بنفسه ، لتصبح بالتدريج جزءا من شخصيته وسلوكه العفوي .
من
بين تلك المعايب ، بل من اخطرها اثرا ، ظلم الناس أو الترفع عليهم او احتقارهم ،
أو على الاقل ، عدم الايمان بالتساوي معهم في الخلقة أو في المكانة والحقوق ، هذا
العيب قد يمارسه الانسان متعمدا ، واعيا بانه يمارس السلوك الخاطيء ، وهي درجة
اظنها اهون اثرا ، لان صاحبها قد يستعيد توازنه في وقت من الاوقات ، او قد يعود الى ضميره، او يسمع كلمة طيبة من ناصح فيثوب
الى طريق الرشاد ، ويقلع عما سبق له من ظلم .
الظلم
العفوي
لكن
الجانب الابشع من المشاعر السيئة ، هو تحولها الى خلفية للسلوك العفوي ، الذي
يمارسه الانسان في ساعات حياته الاعتيادية ، دون ان يشعر بخطئه ، فيصبح مع التكرار
جزء من نسيج الاخلاقيات ، التي تتشكل في لاوعيه ، وتدير سلوكه العفوي ، ويمثل
السلوك العفوي لأي شخص ، مايزيد على تسعين بالمئة من تصرفاته ، وردود فعله على
المثيرات الخارجية .
ولايحتاج
الامر الى كبير عناء لمعرفة الكيفية ، التي يتحول من خلالها شعور خاطيء ، الى
خلفية توجه السلوك العفوي ، فالتكرار وعدم التذكر ونسيان محاسبة الذات ، تتكفل
بهذه المهمة ، أما اذا كتب للمرء ان يعيش في وسط اجتماعي اعتاد على الممارسات
السلوكية الخاطئة ، او هو ـ لاي سبب من الاسباب ـ يحبذها ويرتاح اليها ، فان
المهمة تصبح اكثر يسرا واسرع تحققا ، ولهذا السبب فان محاسبة النفس ومحاكمتها أو
طلب النصيحة من الناصحين ، تصبح طريقا وحيدا لصيانتها مما يعلق بها من عيوب ، خلال
دورة الحياة ، التي يلقي زحامها بغشاوته على عقل الانسان ، فلا يستبين له الصحيح
من الباطل الا بعد حين .
جذر
الظلم
وحسبما ارى فان شعور التميز او التفوق هو الجذر
الاولي للظلم ، فالانسان الذي يشعر بتمـــيزه على الغير ، يقرر لنفسه حقــوقا ،
يحولها ـ من ثم ـ الى مبرر لجملة من السلوكيات واساليب التعامل مع الاخرين،
يمارسها باعتبارها بديهيات ، معللة بمعاني التفوق التي يراها عنده دون غيره ، وهو
يشعر بالدهشة اذا لم يعترف الاخرون له بهذه الحقوق ، بل يرى في عدم اعترافهم نوعا
من العداوة او قلة اللياقة تستوجب العقاب ، الذي يترواح بين العقاب المادي في ارفع
حالاته ، او الوصم بالتخلف وقلة الادب في ادناها .
ويتبلور
الشعور بالتفوق في نفس الانسان لاسباب مختلفة ، اوسعها انتشارا هو تمتعه بقوة
المال او العلم ، واشدها خطرا تمتعه بوسائل القوة المادية او العقيدية ، ان القوة
ـ في اي معنى من معانيها السابقة ـ ليست حقيقة مطلقة ، بل نسبية ، فهناك في كل
الاحوال من هو اكثر مالا او علما او اقدر على استعمال وسائل السيطرة ، أو اشد
ايمانا ومعرفة لذات المعتقد ، وحقيق بصاحب هذا الشعور ان يعتبر جيدا بمعنى التناسب
بينه وبين من هو اعلى منه ، فكما يبرر لنفسه الاستعلاء على الغير ، فمن هو اعلى
منه احق بالاستعلاء عليه ، اذا كان تمتع انسان ما بتلك الاوصاف مبرر للعلو ، وهو
على اي حال مبرر غير مقبول ، من الاخرين عليه ، او منه على الغير .
بعض
الأمثلة
نحن
نرى في كل يوم كثيرا من الناس ، يمارسون هذه الانواع السيئة من السلوك ، في عرضهم
لافكارهم ، او في تعاملهم مع من هو ادنى منهم ، او في سائر تعاملاتهم ، واذا احتجت
الى احد منهم ، فلابد ان تتسلح بصبر ايوب ، لتحمل مايترتب على التعامل معه من مذلة
.
في
هذا الشهر بالذات نحن بحاجة الى تذكير الموظفين في دوائر الخدمة العامة ، بان وقت
دوامهم ليس ملكا لهم ، بل هو ملك للمواطنين الذين تعاقدوا على خدمتهم ، وجعلوا من
هذا العقد مصدرا لمعيشتهم ، في مثل هذا الوقت من العام الماضي احتجت الى مراجعة
احدى ادارات وزارة المعارف ، وانفقت مايقرب من نصف ساعة بحثا عن الموظف الذي تتعلق
به معاملتي ، قيل لي انه في مكتب آخر ، وذهبت ابحث عنه بين المكاتب ، فوجدت معظم
موظفيها اما منكبا على قراءة القرآن او غير موجود ، بينما كان بضعة مراجعين مثلي ،
يبحثون عن شخص ما ينجز لهم معاملاتهم فلا يجدون .
ان
شعور هذا الموظف بانه اعلى شأنا من المواطن الذي يراجعه ، هو الذي يجعله يترك
واجباته متعللا بالصوم او قراءة القرآن ، او لعله يشعر بان قيامه بهذه الممارسة
الدينية السامية ، تجعل له حق التحكم في وقت الناس ، باعتباره اكثر ايمانا منهم ،
أو لعله شعور بالتفوق ناتج عن قيامهم مقام الحاجة اليه ، وقيامه مقام الاستغناء
عنهم ، والقدرة على اظهار فوقيته عليهم .
وكتب
احدهم في صحيفة قبيل رمضان ، عن العمال الوافدين الى بلادنا، قائلا انهم حثالات
بشر ، القت بهم بلادهم ليأكلوا من خيرنا ... الى آخر ماكتب ، والذي اعلم انه ليس
في بني البشر حثالات وغير حثالات ، فالله الذي خلقنا جميعا يقول (ولقد كرمنا بني
آدم) ونحفظ من المأثور (الناس اثنان اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) لكن
صاحبنا ماكان ليصف اخوته في الانسانية بالحثالات ، لولا شعور الاستعلاء والتفوق ،
الذي يبرر له هذا القول ومايعقبه من سلوك ومعاملة .
ووجه
احدهم سؤالا الى احد العلماء ، يستفتيه عن جواز الشراء من دكان ، يملكه مسلم يتبع
مذهبا آخر غير مذهبه ، فأجابه هذا بجواز المقاطعة ، اذا كانت سببا الى هدايته او
دحر باطله ، مع اننا نعلم ان اخوة الاسلام ، لايقلل من شأنها ولايقطع اثرها اختلاف
المذهب او الاجتهاد ، فالمسلمون سواسية كأسنان المشط يقوم بذمتهم ادناهم ، ان سؤال
الرجل انما يوحي بخلفية التميز على الغير عنده ، ولو ان هذا الغير محدد بمن هم
خارج دائرة معينة ، كما ان جواب المجيب مؤسس على نفس الخلفية ونفس الشعور .
فرصة
ومسئولية
رمضان
المبارك اذن هو شهر التسامي الحقيقي ، لا المصطنع او المفروض بالقوة ، التسامي
الحقيقي الذي يجسده التحلي بالفضائل الاخلاقية ، التي يدعونا اليها كتاب الله ، ومن
بين اهمها اتقاء ظلم الناس او العلو عليهم ، ايا كانت مبرراته واسبابه ، كل منا
بحاجة الى الغوص في اعماق نفسه ، باحثا عما فيها من عيوب ، مقارنا لما يشعر به وما
يمارسه ، بالمثل الرفيعة التي نستطيع استذكارها مما علمنا اياه قرآننا ، ومما
نعرفه عن آداب نبينا ، ربما لاتتاح للانسان فرص
كثيرة للتأمل ومحاسبة النفس ، فلتكن مناسبة الشهر الفضيل هي الفرصة التي
نحرص عليها من ان تضيع .
نشر
في (اليوم) 6فبراير 1995
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق