‏إظهار الرسائل ذات التسميات تازم الهوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تازم الهوية. إظهار كافة الرسائل

17/11/2023

وقت النقاش ، حديث المطر


لقيت خلال حياتي المدرسية أساتذة من مشارب شتى. عرفني كل منهم بعالم غير العوالم التي عرفتها وألفتها. ولا زلت أذكر تلك النقاشات الساخنة التي أخذتنا بعيدا عن الكتاب والمنهج ، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية ، والتي حوت – دائما – ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعو اصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب ، لفتح عقولهم وقلوبهم لتلاميذهم ، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة ، في موضوع الدرس او غيره. 

انا انتمي لمجتمع لا يوفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح ، النقاش الذي يأخذ الانسان الى حدود الخيال ، دون رهبة الخطوط الحمراء والصفراء. وأظن هذا حال أكثر الناس من حولي. لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيويا ، في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة.

من بين الاساتذة الذين تركوا أثرا في نفسي ، أذكر اثنين ، لا يقول أحدهما شيئا ، الا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلا ان الاول اعتاد التشديد على ان الحكمة في الصمت ، وان سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالبا ما ذكر روايات وأشعارا تؤكد هذا المعنى.

وبعكسه تماما كان الاستاذ الثاني ، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية ، ويؤكد ان النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الانسان. وكان يقول مثلا ان الاثر المروي عن علي بن ابي طالب "تكلموا تعرفوا ، فان المرء مخبوء تحت لسانه" لا يعني مجرد النطق ، بل أراد التركيز على "الكلام" اي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق ، الذي يقيم وسطا معرفيا يتواصل عبره مختلف الناس ، نظير ما يسمى اليوم الميديا/الوسائط media التي يصل دورها الى تكوين الرأي العام او الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الاستاذ انظارنا الى بعض القواعد اللطيفة في الحديث ، سواء تعلقت بآداب النقاش او قواعد التفكير المنطقي والعقلاني ، وهي قواعد ، أظننا في أمس الحاجة الى أمثالها ، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم ـ بل كل يوم.

ويظهر لي ان ميول هذين الاستاذين ، تحاكي نمطا عاما. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في اي مسألة ، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماما ، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى ، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموحة.

ومما أذكره انني كنت أزور بين حين وآخر ، شخصا من علية القوم ، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكني لا اذكر ابدا ان النقاش قد تجاوز احوال الطقس ، وهل نزل المطر ام لا ، خفيفا كان ام ثقيلا ، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولا ، وماذا ترتب عليها.. الخ.

لقد ظننت – وربما اكون مخطئا – ان هذا النوع من النقاش ليس عفويا ، بل مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين. فهذا مثال على ذلك النوع من المجتمعات التي لا تحب النقاش في القضايا الحرجة او المثيرة للاختلاف.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة ، فهي لا تتعدى الاشارة الى "حساسية" من نوع ما. فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته ، وان هناك اشخاصا ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة ، فيرون فيها تحديا لقيمهم وقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الاشخاص الموثوق في اهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعا هي المتعلقة بتوقيت الكلام ، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا او هناك ، يقدمونها مبررا لتأجيل النقاش في هذا الموضوع او ذاك.

الشرق الأوسط الجمعة - 03 جمادي الأول 1445 هـ - 17 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4673406

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

مكافحة الفساد بدء من المدرسة

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

05/10/2023

أزمة هوية؟


كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر التقاليد الى عصر الحداثة.


وفقا لتعريف أريك اريكسون ، عالم النفس الأمريكي ، فان ازمة الهوية تعبير عن اخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، خصوصا في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة ، ثقافية واقتصادية ، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم ، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا ، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم ، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت – وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية وبلدة في انحاء المملكة.

وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقا لرؤية اريكسون ، فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.

رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.

اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

سجناء التاريخ

عن الهوية والمجتمع

فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

06/10/2021

من جيل الى جيل

لفت انتباهي هذا الأسبوع حديث د. نورة الصويان (سبق 03-اكتوبر-2021) ، حول انعكاس التحولات التي تمر بها المملكة ، على سلوكيات الشباب وأوضاعهم النفسية ، ومن ثم تحولات العلاقة داخل العائلة وبين الجيران. وتقول الدكتورة الصويان ، وهي أستاذة جامعية بارزة واستشارية في مشكلات العائلة والزواج ، ان تسارع التحولات في المجتمع تؤدي بالضرورة الى تحولات موازية في شعور الافراد بذواتهم وتصورهم للعلاقة مع الاخرين في محيطهم.


 لكن الأمر لا يجري على نحو سلس أو متوائم  في غالب الأحيان. من ذلك مثلا أن تغير المكانة الاقتصادية والقانونية للنساء خلال السنوات العشر الأخيرة ، قد اثمر حسبما لاحظت الدكتورة الصويان ، عن تراجع التأزمات النفسية عند المرأة ، لكنه ولد عناصر تأزم إضافية عند الأزواج والشباب المقبلين على الزواج.

في العادة ينسب  هذا النوع من التحولات الى تغير ميزان القوى بين الجنسين. المرأة التي كانت تصنف اجتماعيا وقانونيا ك "تابع" باتت اليوم مستقلة الى حد كبير. ومع انه لا زال امامها مسافة قبل المساواة الكاملة ، الا ان ما حصل حتى اليوم يعتبر تحولا جذريا  ، حتى بالقياس الى ما كان عليه الحال في 2018 فضلا عما قبلها.

اني أميل الى مراقبة هذا النوع من التحولات الاجتماعية والاقتصادية ، من خلال انعكاسها على ذهنية الفرد ، أي مجموع العناصر التي تسهم في تشكيل سلوكه العفوي ورؤيته لذاته والمحيط. هذه التحولات تعيد تشكيل الهوية الفردية ، على نحو يتناسب مع توجهات الفرد نفسه ، حتى لو جاء على خلاف ما تربى عليه ، او ما ورثه من ثقافة. في الحقيقة فان هذا هو الذي يحدث في أغلب الأحيان. ان ذهنية الفرد في مرحلة الطفولة (ومن ثم هويته) تتشكل بتأثير العائلة والمحيط الاجتماعي والمدرسة. لكن كثيرا من مكونات الهوية يعاد تشكيلها في مرحلة النضج ، ولا سيما بعد انضمامه الى سوق العمل ، تحت تاثير المحيط الأوسع.

ان الانفتاح على خارج المحيط الاجتماعي ، إضافة الى تغير نمط العيش او مصادره ، يشكلان العامل الأكثر تأثيرا في تشكيل هوية الفرد الجديدة. ولهذا السبب تحديدا ، فان علينا التأمل في النطاق الذي يتعامل معه الفرد ، في كل مرحلة من حياته. ان انفتاح الأطفال والمراهقين على العالم من خلال الانترنت ، يسمح بإعادة تشكيل ذهنيتهم وهويتهم في تلك المرحلة المبكرة. وبالتالي فان مفارقة الثقافة الموروثة ، وما فيها من تقاليد وأعراف وعلاقات ، ستبدأ في مرحلة مبكرة.

جوهر التغيير الذي يحصل في هذه المرحلة يتناول تقدير الفرد لنفسه ، حيث يشتد الميل الى مركزية الذات في مقابل الجماعة. ان رد الفعل العائلي والاجتماعي ، هو الذي يقرر ميل الفرد للانسجام او المنازعة او الانكفاء والخنوع. الافراد الذين يلقون تفهما وترحيبا من قبل العائلة والمدرسة ، سوف يحاولون التعبير عن ذواتهم المستقلة في إطار الجماعة. أما الذين يواجهون تثبيطا او مناكفة ، فهم على الأرجح سيركبون قطار التمرد ، اللين او الخشن.

مرحلة الانفتاح وامتداداتها هي التي تقرر الى حد بعيد ، مستقبل البلد ككل. اذا اردنا صناعة مستقبل مزدهر ، فعلينا ان نستوعب الشباب في لحظة انفتاحهم وما بعدها ، ان نتحمل نزوعهم القوي للاستقلال والتفرد ، وان خالف قناعاتنا المستقرة. اما اذا واجهناهم بالانكار ، فسوف ننتج جيلا فوضويا ، بعضه يحترف المناكفة وبعضه منكفيء على ذاته.

الأربعاء - 29 صفر 1443 هـ - 06 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15653]

https://aawsat.com/home/article/3229136/

 

مقالات ذات صلة

 استمعوا لصوت التغيير

تكون الهوية الفردية

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني   

  غلو .. ام بحث عن هوية

الفقر والإحباط والغضب

من المناكفة الى النهضة

النسوية والأقليات الثقافية

النسوية والأقليات الثقافية

03/04/2019

هكذا خرج العقل من حياتنا


ادهشني ان بعض الناشطين في التيار الديني ، لم يرض بالاطراء الذي نالته جاسيندرا ارديرن رئيسة الحكومة النيوزيلندية ، نظير موقفها التضامني مع مواطنيها المسلمين ، اثر فاجعة مسجد النور منتصف مارس الماضي. وقال بعض الناقدين ان موقف رئيسة الحكومة سياسي في المقام الاول. وقال آخرون ان عينها على الانتخابات ، او انه تعبير عن موقف ايديولوجي للتيار اليساري الذي تنتمي اليه ، في مقابل اليمين المتطرف الذي ينتمي اليه القاتل. وسمعت قولا طريفا لأحدهم فحواه انه كان الأولى دعوتها الى الدين الحنيف بدل امتداحها ، فلعل الله يشرح صدرها للاسلام. وأطرف منه من كتب ان السيدة الجليلة لاتستحق المدح ، لأنها "كافرة سافرة ، قبلت ولاية لاتسوغ لجنسها".
 
ورايي ان تلك الاقوال باطلة جملة وتفصيلا. في ذاتها وفي ارضيتها الفلسفية. لكن موضع اهتماهي ليس هنا. بل لأنها ذكرتني بجدل قديم اشتهر باسم "مسألة الحسن والقبح العقليين". وقد اثيرت في الاطار الاسلامي خلال القرن الثامن الميلادي ، مع انها ترجع الى ازمان ابعد بكثير. وكانت تدور حول قابلية العقل لادراك الحقيقة وتمييزها عن الوهم. 
ركز الجدل الاسلامي على سؤال: هل في الافعال معنى وقيمة ذاتية ، يمكن للعقل اكتشافها وتحديدها ، ام ان تحديد معنى الفعل وقيمته ، متروك للشارع ، ان شاء اعتبره حسنا وان شاء اعتبره قبيحا. كانت الغلبة يومذاك للراي القائل بعجز  العقل عن تحديد الوجه الشرعي للحسن والقبح. ومعنى هذا انه يمكن لعقلك اكتشاف ان العدل حسن وان الظلم قبيح ، لكنه لايستطيع القول بان هذا القبح او ذلك الحسن له قيمة ، او يمكن ان يكون اساسا لامر شرعي. هذه الفكرة هي اساس نفي العقل واستبعاده ، ليس عن دائرة التشريع فحسب ، بل عن حياة المسلمين ككل.
ان السبب الذي يدعوني للتذكير بهذا الجدل اليوم ، هو اعتقادي بأن عدم ثقة المسلمين بالعقل وقدرته ودوره ، هو الذي قاد الى الانفصال المشهود بين الدين والحياة ، بين الدين والاخلاق ، بين الدين والقانون ، وهو الذي جعل المسلمين مضطرين للعيش حياة مزدوجة: عقلانية تماما في محيط العمل ، حيث يستعملون منتجات العقلاء واجهزتهم وانظمتهم ، وخرافية كليا او جزئيا حين يعودون الى حياتهم العادية ، او يعملون في اطار تقاليدهم الثقافية وارثهم القيمي.
منذ ان اصبح العقل هامشيا في حياتنا ، فقد بات ممكنا ان يأتينا شخص ليقول: أن عقولكم لاتستطيع اكتشاف الحقائق ، أو لاتستطيع تحديد معناها وقيمتها. وحتى لو  كنتم اذكياء بما يكفي لفهم حقيقة الاشياء ، فان ذكاءكم واجتهادكم لاقيمة له عند الشارع. الشارع هو الذي يحدد قيمة الافعال ، اما انتم فدوركم مقصور على السمع والطاعة دون تفكير او مناقشة.
اني اعجب ، لان فينا من لازال يقول بان دين الله لايدرك بالعقول ، فاذا جادلته ، اعاد عليك الحجة التي عمرها مئات السنين ، والقائلة بانه لو كان الدين بالعقل فما الاساس العقلي للمسح على ظاهر القدم دون باطنه ، وما الاساس العقلي لجعل هذه الصلاة ركعتين وتلك ثلاث ركعات ، وامثال ذلك من الحجج الباردة.
إني آمل ان يشاركني القراء الاعزاء في اظهار الاسف لتعطيل العقل باسم الدين. مع علمنا جميعا بانه لولا العقل لما كان ثمة حياة ولا دين ولاتكليف ولا ثواب ولاعقاب ولا جنة ولا نار. ولعلنا نعود الى الموضوع في قادم الايام.

الأربعاء - 27 رجب 1440 هـ - 03 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14736]
https://aawsat.com/node/1662191
  مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه


ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...