13/08/2021

النسوية والأقليات الثقافية

 

الفصل السادس من كتاب "الفلسفة السياسية.. تمهيد موجز جدا"[1]

تاليف البروفسور ديفيد ميلر

ترجمة توفيق السيف


للاطلاع على الكتاب الكامل انقر هنا

المرأة والأقليات الثقافية ، وضعها القانوني ومكانتها في المجتمع السياسي ، تشكل واحدا من أوسع مسارات النقاش في الديمقراطيات الغربية اليوم. يدعي أنصار النسوية Feminists والتعددية الثقافية Multiculturalists ان الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع ، نظير اسئلة الهوية الشخصية ، خطوط التمايز بين المجالين الخاص والعام ، احترام الفروق الثقافية ، قد حلت محل الأسئلة القديمة المتعلقة بالمجتمع السياسي ، الأسئلة التي ناقشناها في الفصول السابقة ، من قبيل الحرية ، العدالة ، الديمقراطية ، الخ.

هذا يعني – وفقا لانصار التيار الجديد - ان طبيعة السياسة نفسها قد تغيرت ، وان بروز قضايا الهوية وانعكاساتها السياسية ، كان له تأثير مهم في هذا التحول. وهم يقولون ان السياسة في هذه الأيام ، ليست ما يجري من جدالات ومناورات في المباني الضخمة للمؤسسات الحكومية ، بل هي تتعلق في المقام الأول بما يجري من تفاعلات يومية بين الأفراد: الرجال والنساء ، البيض والسود ، المسيحيون والمسلمون ، الخ.

لقد تغير موضوع الفعل السياسي وميدانه. الأمر الذي يقتضي إعادة تدوين الفلسفة السياسية ، باتجاه التركيز على الموضوعات الجديدة لعلم السياسة والفعل السياسي.

اعتقد ان هذه المزاعم تنطوي على مبالغة. صحيح أن القضايا التي أثارتها الحركة النسوية ، ونظيرتها التي تدعو للتعددية الثقافية ، مهمة للغاية ، وهي تستدعي – بالتأكيد – تغييرا في تفكيرنا السياسي. لكن الادعاء القائل بان الأسئلة القديمة قد انتقلت الى الهامش او فقدت أهميتها ، يفتقر الى الدقة. على العكس من ذلك فان تلك الأسئلة ستبقى ملحة كما كانت على الدوام. بل أستطيع القول ان بروز قضايا النسوية والتعدد الثقافي ، قد أضافت بعدا جديدا للأسئلة السابقة.

لا شك ان بروز التيار النسوي والتعددي ، قد ساهم في تغيير المشهد السياسي وما يدور فيه وحوله من أفكار. ولذا فان هدفي هنا هو استكشاف مدى التغيير ، الذي ينبغي إدخاله على تفكيرنا ، في السلطة السياسية والديمقراطية والحرية والعدالة ، كنتيجة لتفاعلنا مع الحجج التي يطرحها التيار الجديد.[2]

دعنا نوسع مجال الرؤية كي نرى الخيوط التي تربط أجزاء الصورة. ولنبدأ بسؤال: ماهي الظروف التي شهدت انتقال النسوية والتعددية الثقافية إلى قلب النقاش السياسي؟.

لفهم مغزى السؤال ، دعنا نعرضه مقلوبا: لماذا تم تجاهل العلاقة بين الرجال والنساء ، وموقف الأقليات الثقافية ، بشكل متكرر ، في أطروحات الفكر السياسي ، قرونا عديدة؟.

من المغري النظر إلى هذا كنوع من الغفلة العامة ، أو حتى القول بأن القوى المهيمنة على مقادير المجتمعات ، أبقت تلك القضايا المهمة بعيدا عن مجال الاهتمام.

هذا صحيح تماما. لو أخذنا حالة النسوية كمثال ، فانه يصح القول ان الفلسفة السياسية في مختلف العصور السابقة ، كتبت على يد رجال. في تلك الأوقات كان من المسلمات الدارجة ، القول بان خضوع المرأة للرجل يعكس حقيقة طبيعية ، وأنه ليس متوقعا ان يكون للنساء دور مؤثر في الحياة السياسية ، وما إلى ذلك.

بطبيعة الحال ، كان ثمة استثناءات ، لكنها قليلة وعرضية ، كان جون ستيوارت ميل (1806-1873) واحدا من هذه الحالات الاستثنائية[3]. اما الاعم الاغلب فقد اعتبروا هامشية الدور السياسي للمرأة ، أمرا مفروغا منه ، ولم يكن أحد ليجادل في الاتجاه المقابل.

بوسعنا ان نكرس جهدنا لتفصيل اللوم والنقد ، لما قد نعتبره شوفينية عند الماضين. الحقيقة ان العديد من الكتب قد كرس لهذه الغاية ، لكني أجد فائدة أكبر في طريق مختلف ، أكثر صراحة أيضا ، يتمثل في مساءلة مجتمعنا ذاته: ما الذي تغير حتى صرنا نحمل حجج التيارين النسوي والتعددي على محمل الجد ، كيف استطعنا أن نرى أشياء كان أسلافنا قد اخفقوا في رؤيتها ، من قبيل القول بأنه لا يوجد أي سبب على الاطلاق ، يبرر حرمان النساء من الفرص الوظيفية التي يحصل عليها الرجال؟.

الجواب ، في اعتقادي ، هو أننا نعيش في مجتمعات ، بنيت في الأساس على الالتزام بالمباديء الأساسية للحرية والمساواة. لكن هذه المجتمعات أخفقت في الوفاء بهذه الالتزامات ، حين تعلق الأمر بالنساء والأشخاص المنتمين الى أقليات. من أعمق المعتقدات في ثقافتنا القول بأن كل شخص له حق ثابت في عيش حياته على النحو الذي يختاره ، مع مراعاة حدود معينة مثلما شرحنا في الفصل الرابع. وثمة عقيدة أخرى لا تقل عمقا ، وهو الحق الثابت لكل شخص بأن يعامل على قدم المساواة مع الآخرين ، وهو حق ينبغي أن يتجسد في منحه حقوقا متساوية ، أو منحه فرصا متساوية.

وبالنظر لكون هذه المعتقدات عميقة الجذور في ثقافتنا ، وفي الأساس الذي قام عليه نظامنا الاجتماعي ، فسوف يكون من المزعج حقا ان نكتشف ان ما نمارسه في حياتنا اليومية ، مغاير تماما لما نتبناه من رؤى ومعتقدات. لا بد اننا سنشعر بالقلق الشديد ، اذا استيقظنا على حقيقة ان شريحة من مجتمعنا ، لا تحصل على قدر من الحرية الشخصية ، مماثل لما يحصل عليه بقية أعضاء المجتمع ، أو أنها تعامل بصورة غير متساوية من جانب المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة.

لذلك ، على سبيل المثال ، حين تُحرم النساء من الخيار المتاح للرجال ، أي تمكينهم من الجمع بشكل متناغم بين الحياة المهنية والحياة الأسرية ، أو حين يحصل أعضاء الأقليات العرقية على فرص في سوق العمل ، أدنى من غيرهم ، فهذا يعني أنه لا يعاملون كأحرار كاملين وأعضاء متساوين في مجتمعهم. أود ان اشير هنا الى ان احتجاجات التيار النسوي لا تتعلق دائما بالحرمان من الحقوق ، بالمعنى الدقيق الذي توحي به الكلمة. ذلك ان الاقرار بحقوق النساء قد وصل الى مستوى طيب في العديد من المجتمعات. ما يجادل دونه هؤلاء ، هو المساواة في الحقوق ، الذي يعني إلغاء التمايز في الحقوق على أساس الجنس. ولهذا فقد تصادفك حالات احتجاج لصالح سيدات من الطبقة الرفيعة ، ولا يعانين من حرمان بالمعنى الدقيق.

من ذلك مثلا ما قرأناه عن سيدة تعمل في احدى المؤسسات الكبرى في المركز المالي للعاصمة للندن ، أقامت دعوى امام المحكمة ، لأن خيارات الأسهم التي منحت لها ، كانت قيمتها تقل بعدة ملايين من الجنيهات ، عن تلك التي منحت لزملائها الذكور. نعتقد بطبيعة الحال ، وبناء على أي معيار معقول للمقارنة ، بان هذه السيدة في حال جيد جدا.

رد فعلنا هذا صحيح في أحد الوجوه ، لكنه خطأ في الوجه الآخر. إنه خطأ لأنه يغفل التجربة المرة التي يتعرض لها ضحايا التمييز ، في مجتمع يتبنى رسميا المعاملة المتساوية بين أعضائه. تنطوي المعاملة التمييزية على نوع من هدر قيمة الضحية واستنقاصه كشخص ، حتى لو كان يتمتع برفاهية العيش.

تدعو الحركة النسوية الى تحولات في المجتمع ككل ، في منظومات القيم والعلاقات السائدة ، بحيث تحصل المرأة على حرية كاملة ومساواة كاملة ، وليس فقط اسمية او جزئية ، أي الغاء أي مائز في الحقوق بين النساء والرجال.

يقدم أنصار التعددية حججا مماثلة لما قدمه التيار النسوي ، لكنها تركز على حقوق الأقليات الاثنية ، الدينية ، والمجموعات الأخرى ، التي يتعرض أعضاؤها للتمييز ، او الذين تتعرض ثقافاتهم للاستنقاص من جانب الأكثرية المهيمنة. يجري التعبير عن هذه المواقف بأشكال مختلفة ومتدرجة ، لا أود الانشغال بتفصيلاتها الان. سوف اركز على مقولات الحركة النسوية والتعددية ، التي تبدو تحديا جديا للمفاهيم والآراء التي استعرضناها في الفصول السابقة. ستكون نقطة البداية مع القوة السياسية political power والسلطة السياسية political authority.[4]

ناقشت سؤال القوة والسلطة السياسية في الفصل الثاني ، في اطار مفهوم ولاية الدولة. افترضت حينئذ ان سؤالنا عن الشكل الذي ينبغي ان تتجسد فيه السلطة السياسية political authority ، في إطار الدولة الحديثة على الأقل ، هو في جوهره سؤال عن كيفية تشكل الدولة وتوليفها.

لكن العديد من انصار الحركة النسوية تحدوا هذه الطريقة في فهم السياسة. وفقا لرؤيتهم فانه من العسير ، بل ربما يكون مستحيلا ، ان ترسم خطا فاصلا بين المجال العام ، حيث ينخرط الناس في علاقات سياسية مع بعضهم البعض ، وبين المجال الخاص حيث تسود العلاقات غير السياسية. بعبارة أخرى فانهم ينظرون الى السياسة كظاهرة قادرة على التسلل والنفاذ ، والتأثير على كل جانب من جوانب حياتنا. هذا التحدي يلخصه الشعار المشهور "كل ما هو شخصي فهو سياسي"[5].

قبولنا بهذه الحجة ، يستدعي توسيع النقاش حول السلطة السياسية ، بحيث لا يقتصر على سلطة الدولة ، بل يشمل أيضا السلطة التي يمارسها الرجال على النساء. ما يضفي على هذا النقاش مسحة جادة ، هو حقيقة ان الرجال كانوا ولا زالوا يمارسون سلطتهم على النساء. هذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها أحد ، ليس في الماضي فقط ، بل – الى حد ما - في هذا اليوم أيضا. وقد جرى هذا بطرق عديدة ، من بينها إبقاء النساء متكلين – معيشيا – على الرجال ، بحيث لا يستطعن العيش الا في ظل رجال ، ومن بينها نشر الأفكار التي تصور الدور المناسب للمرأة في الحياة ، وهي أفكار جعلت النساء انفسهن يتقبلن الفكرة السابقة. ومن الطرق التي استخدمت لتكريس التفاوت بين الجنسين ، نذكر أيضا استعراض الذكور للقوة الجسدية والعقاب ، اذا أبت المرأة الاذعان لأمرهم.

هذه بطبيعة الحال ادعاءات عامة حول العلاقة بين الرجال والنساء. وهي لا تعني ان كل رجل في العالم سوف يستعمل الوسائل المذكورة لاخضاع النساء ، لسبب وجيه ومعروف ، وهو ان النساء يجدن في غالب الاحوال وسائل للرد على تلك المحاولات. هذا ليس اذن الغرض من تلك الادعاءات. بل غرضها هو الاشارة الى نوع من السلطة ، التي ظلت غير مرئية في الفلسفة السياسية ، وهي تتلخص في اعتبار السياسة ميدانا لعمل الرجال. ربما لم تذكر هذه الفكرة الا نادرا ، لكنها شكلت خلفية لتفكير العديد من فلاسفة السياسة اثناء كتابة اعمالهم. حين كتب فلاسفة مثل توماس هوبز عن صراعات السلطة وكيفية السيطرة عليها ، فانه كان يفكر في صراعات بين الرجال ، كما لو ان القضايا الاشكالية في العلاقة بين الجنسين قد حلت ، او انها ليست مشكلة أصلا ، وربما لم يخطر في باله ان النساء سيكن طرفا في هذه الصراعات او جزء منها[6].

ميزات السلطة السياسية

أيا كان الحال ، فان ما قلناه سابقا لا يعني بالضرورة ، أن علينا ان نشرع بالتفكير في علاقة الرجال بالنساء ، باعتبارها علاقة سياسية. من المفهوم طبعا ان السياسة تدور حول السلطة والقوة ، من ينبغي ان يحصل عليها ، وكيف يمكن التحكم فيها. لكن الواضح للجميع انه ليست كل علاقة قوة ، هي علاقة سياسية. ثمة انواع عديدة من العلاقات التي تنطوي على تفاوت في القوة ، وتتضمن ممارسة لنوع من السلطة ، الا انه لا يمكن القول انها علاقة سياسية. من ذلك مثلا سلطة المعلم على تلاميذه ، سلطة صاحب العمل على موظفيه ، سلطة الجنرال على جنده. في كل من هذه الحالات ، يمكن للطرف الاول ان يلزم الثاني بالتصرف وفقا للطريقة التي يقررها هو ، الزاما يبنى على ارضيات مختلفة ، فمرة يكون المبرر هو القبول الطوعي بحق الطرف الاول في ممارسة السلطة ، ومرة يكون المبرر هو قدرة الطرف الاول على التهديد بايذاء الثاني ان لم يخضع ، وخوف الطرف الثاني من الأذى بأي شكل ، مثل الاعتقال ، أو المحاكمة ، او الفصل من العمل.. الخ.

نحن لا نعتبر هذه العلاقات سياسية ، رغم وضوح فارق القوة بين طرفيها. من هنا فاننا بحاجة الى التفكير في العوامل التي تجعل السياسة جزءا متميزا من حياة البشر ، وأبرزها عاملان:

الأول: بالرغم من انها تنطوي على صناعة قرارات وتطبيق قرارت ، فان هذا الفعل يجري بطريقة خاصة يمتاز بها حقل السياسة عن سواه. وابرز سمات الطريق السياسي ، انه يتنجز من خلال منح الفرصة للآراء المختلفة والمصالح المتباينة ، كي يكون لها صوت مسموع وإرادة ملحوظة.

هذا لا يعني ان السياسة ديمقراطية بالضرورة ، فقد نجد السياسة في الدواوين الملكية ، وقد نجدها مشوبة بالعيوب الأخلاقية ، فبعضها لا يخلو من التهديد والمساومات ، إضافة الى النقاش والمحاججة. في المقابل فانه لا توجد سياسة في ظل الاستبداد ، اي اننا لا نطلق صفة السياسة على ممارسة المستبد للسلطة: حيثما امكن للدكتاتور ان يفرض ارادته ، من دون ان يصغي لأي صوت غير صوته ، او يستشير أي طرف ذي صلة او جهة ذات مصلحة في الموضوع ، فلن تكون هناك سياسة. السياسة – ببساطة – هي التداول بين ذوي الأفكار وممثلي المصالح ، ثم اتخاذ القرار.

الثاني: من حيث المبدأ ، يمكن للسلطة السياسية ان تطال كل جانب في حياة البشر. صحيح اننا نستطيع تقييدها ، بل ينبغي لنا ان نقيدها ، مع ذلك ، ينبغي ان نرسم حدودا واضحة للمجال الخاص الذي نمارس فيه حرياتنا الشخصية ، والذي لا يسمح للقرار السياسي بان يتجاوزه او يخترقه. وقد ذكرنا في الفصل الرابع ان هذا الفعل ، أي رسم الحدود ، هو فعل سياسي.

إضافة الى ما سبق ، فان السياسة هي الوسيلة التي نستخدمها لتحديد مقدار ونوع السلطة التي سوف نفوضها لافراد الشعب ، كي يستعملها كل منهم في مختلف مجاري الحياة الاجتماعية.

حين نحتاج لمنح المعلم سلطة على تلاميذه ، وتعيين حدود وأغراض تلك السلطة ، فنحن نحتاج لاتخاذ قرار سياسي بهذا الشأن. وحين نحتاج لوضع نظام يشرح الحقوق والالتزامات المتبادلة بين العمال وارباب عملهم ، فاننا نصدر النظام بقرار سياسي ، وكذا اذا احتجنا لتعيين ما يسمح للجنرالات بفعله في إطار إدارة الجيش وما يمنع عليهم.

هذه السمات المميزة التي تتسم بها السياسة ، تجعلنا قادرين على وضع التحدي النسوي للسلطة السياسية ، في إطار مختلف: فما يشير اليه انصار الحركة النسوية ، في خصوص العلاقة بين الرجال والنساء ، ليس – في حقيقة الامر – الطبيعة السياسية لتلك العلاقة ، بل هو اخفاق السياسة في معالجة الاشكالات التي تثيرها تلك العلاقة. بعبارة أخرى يمكن القول ان السلطة السياسية ، بالشكل الذي تشكلت وتجسدت فيه حتى اليوم ، لم تضع معايير كافية لتنظيم العلاقة الخاصة القائمة بين الجنسين.

لم تضع السلطة السياسية ، بالشكل الذي تشكلت به حتى الآن ، معايير مناسبة للعلاقات الحميمة الخاصة القائمة بين الجنسين. وقد أخفقت في معالجة العديد من الاشكالات المتولدة عن تلك العلاقة. من ذلك مثلا انها لم تمنح المرأة الأمان البدني الكافي ، لا سيما الحماية من العنف المنزلي ، ولم تؤمن للمرأة حقوقا مساوية لحقوق الرجال ، في العديد من جوانب الحياة ، كما لم توفر لها الحرية الشخصية الكافية (سوف اعالج بعد قليل ما أعنيه بهذا الكلام). إخفاقات السياسة هذه ، هي التي فتحت الباب امام ممارسة الرجال سلطة على النساء في حياتهن الشخصية. ولو سألتني عن السبب الجوهري وراء هذا كله ، لقلت لك ان السبب الرئيس هو استبعاد النساء من الحياة السياسية ، بشكل كلي تقريبا ، طيلة قرون.

البروفسور  ديفيد ميلر
النقد النسوي/التعددي للحرية

سوف أنظر عن قرب في مسألة الحرية ، على ضوء النقد الموجه من جانب التيارين النسوي والتعددي ، ثم اناقش احتجاجهم على الديمقراطية في الصورة التي نعرفها اليوم.

أسلفنا القول في الفصل الرابع ، بأننا نفهم الحرية في معنى توفر نطاق من الأفعال يحميه القانون ، ويتمتع كل فرد في إطاره بالفرصة والقدرة على صياغة حياته وطريقة عيشه ، على الوجه الذي يحقق سعادته ، وينجز ما يستطيع من تطلعاته.

 لقد تحدى انصار التيارين النسوي والتعددي هذه الفكرة ، بطريقتين:

 أولا: جادلوا بأن الفلاسفة السياسيين قد أخطأوا ، حين افترضوا ان المرأة تملك قدرا كبيرا من الحرية (او ربما حرية كاملة) ضمن النطاق الخاص. فالواقع يخبرنا ان ما تملكه المرأة بالفعل ، في هذا النطاق ، اقل بكثير مما افترضه الفلاسفة.

ثانيا: جادلوا بأن بعض السلوكيات التي قد تبدو متعلقة تماما بذات الانسان – وفقا لوصف ستيوارت ميل [7] - يمكن أن تكون لها - في الواقع - آثار مدمرة على مصالح المرأة.

لقد رأينا أن مفهوم الحرية يتضمن تعدد الخيارات المتاحة والمفتوحة للفرد ، وكونه - بطبيعة الحال - قادرا على الاختيار فيما بينها. نعلم ان الخيارات التي كانت متاحة للغالبية العظمى من النساء ، في الأزمان السابقة ، محدودة للغاية. فقد كانت مقصورة على الزواج وتربية الأطفال ، والعمل ضمن العائلة أو في عدد محدود من المهن المرتبطة بالعائلة ارتباطا وثيقا.

اما في القرن العشرين فقد تغير الحال بشكل جذري ، حيث زالت الكثير من القيود الخارجية التي تحد من حرية المرأة. بات جميع المهن على وجه التقريب متاحا للنساء ، من الناحية الرسمية والنظرية على الأقل. كما اتسعت الخيارات الحقيقية للمرأة في مجال العلاقات الشخصية ، سواء تعلق الامر بالزواج أو بمطلق العلاقة بين الجنسين ، وكذا إنجاب الأطفال ، وما إلى ذلك.

لا أريد القول ان النساء حصلن على ذات المستوى من الحرية التي يتمتع بها الرجال ، في مختلف النواحي. ذلك ان احد جوانب الحرية ، مشروط بالقدرة او الرغبة في تحمل كلف معينة. على سبيل المثال ، كان على النساء ان يتحملن كلفة إضافية ، اذا اخترن الجمع بين الوظيفة وتربية الأطفال. لكن المسألة الأصعب ، تتعلق بالجانب الداخلي للحرية ، أعني القدرة على الاختيار.

يجادل انصار النسوية بأن النساء ما زلن أسيرات للاعراف والقواعد الراسخة في مجتمعهن ، مع انهن لم يعدن مرغمات ماديا على الخضوع لتلك الاعراف.

وفقا للتيار النسوي ، فان هذه الأعراف تتعلق خصوصا بمظهر المرأة وسلوكها: كيف يجب ان تبدو ، كيف ينبغي ان تتصرف ، ما نوع العلاقة التي ينبغي ان تقيمها مع الرجال.. الخ. هذه الأعراف تمسي جزءا من ذهنيتها وهويتها ، منذ المراحل المبكرة من حياتها ، الأمر الذي يجعل من العسير جدا مقاومتها او تحديها في المراحل التالية.

بات بوسع المرأة ان تتخذ خياراتها ، وهي تقوم بذلك فعلا ، في العديد من حقول الحياة: في الوظيفة ، في الدين ، في نمط المعيشة بالمعنى العام.. الخ. لكن على الدوام ، كان تنجيز هذه الخيارات وتفعيلها ، مقيدا ومحدودا باطار تمليه الأفكار السائدة حول الانوثة. والمعروف ان هذه الخلفية قد تخلف انعكاسات مؤذية. من ذلك مثلا ان هوس الفتيات بالمظهر الجسدي ، سيما في سن المراهقة ، يسبب احيانا فقدان الشهية. كما ان المعتقدات المتعلقة بتقاسم الاعباء المنزلية بين الرجال والنساء ، تفضي في حالات كثيرة الى توزيع للمسؤوليات والواجبات ، فيه ظلم فضيع للطرف الاضعف.

الطبيعة ام العرف

ربما لم يكن من الصعب علاج هذه القضية ، لولا تشابكها مع سؤال آخر ، يختلف فيه انصار الحركة النسوية أنفسهم ، اعني به سؤال الطبيعة البشرية: هل للرجال والنساء ، في الجوهر ، طبيعة مشتركة ، ام انه ثمة اختلافات عميقة بينهم ، بما يعني انه سيكون على الدوام تفارق وتقابل في طريقة العيش التي يختارها كل من الجنسين لنفسه. اذا كان الأخير هو الصحيح ، فعلينا ان لا نتعجل في افتراض ، انه حين تختار المرأة اتباع عرف ثقافي بعينه ، فان هذا الاختيار غير حقيقي ، أي غير معبر عن ارادتها الحقيقية.

هذا لا يعني أنه يتعين علينا – من باب المثال - قبول الاعراف التي تدفع الفتيات في سن المراهقة ، إلى تجويع أنفسهن من اجل الحصول على جسد أجمل. لكن لعلنا نستطيع القول ، على أقل التقادير ، بأنه من السمات المتجذرة في طبيعة المرأة ، أنها أكثر اهتماما بمظهرها الجسدي من الرجل.

اذا اعتبرنا هذا الفارق موجودا في الواقع ، وانه يشكل عنصر اختلاف بين الرجال والنساء ، فسوف يترتب عليه القبول بوجود خيارات حياتية مختلفة ، أي إمكانية ان تتخذ المرأة خيارات ، في هذا الجانب من الحياة على الأقل ، تعبر عن نمط حياتي مختلف عن ذلك الذي اختاره الرجال. هذا يعني ان اختيارها لهذا المسار انعكاس لدوافع طبيعية ، وليست من نوع الاملاءات التي يفرضها العرف او الثقافة من الخارج او حتى من الداخل ، وبالتالي فهو غير ذي صلة بحرية المرأة ، وليس جزء من موضوعات النقاش فيها.

هذا يثير تساؤلا ضروريا حول المسافة بين ما هو طبيعي وما هو انعكاس للثقافة السائدة. كيف نقرر ان كان ما نشاهده من فروق في الخيارات بين الجنسين ، نتاج صرف لتأثير الأعراف الاجتماعية ، وبالتالي فهو قابل للتغيير ، ام هو انعكاس لاختلافات متجذرة في طبيعة كل من الجنسين؟.

الحق ان هذه مسألة معقدة. وأجد ان المسار الأكثر حكمة هو الوقوف على الحياد ، واتباع رأي الفيلسوف جون ستيوارت ميل ، الذي سطره في كتابه "The Subjection of Women = استعباد النساء" الذي يعد واحدا من أمثلة قليلة جدا عن الفلسفة السياسية النسوية في الحقبة السابقة للقرن العشرين:

انا أنكر أن شخصا ما يعرف ، أو يستطيع أن يعرف طبيعة الجنسين ، طالما لم ير الرجال والنساء منفردين عن بعضهما ، وطالما لم ير أي منهما إلا في إطار هذه العلاقة التي نعرفها عنهما. إذا أمكن ان نعثر على مجتمع يتألف من الرجال فقط ، او من النساء فقط ، او اذا عثرنا على مجتمع لا تخضع نساؤه لسيطرة الرجال ، فقد يكون ثمة فرصة لمعرفة الاختلافات الذهنية والروحية ، التي قد تكون متجذرة في طبيعة كل منهما بمفرده[8].

مادمنا نفتقر الى هذا الدليل الذي أشار اليه ميل ، فلدينا سبب وجيه لتركيز انظارنا على الاطار العام للمعيشة ، والعوامل المؤثرة في مدى الحرية ، بغرض التحقق من ان الخيارات المتاحة للجنسين ، والتكاليف التي يتحملها كل منهما مقابل هذه الخيارات ، متساوية بين الرجال والنساء.

-       هل يتوجب علينا ان نفعل شيئا يتجاوز هذا القدر؟

-       هل يجب ان نسعى لكسر سيطرة الاعراف الثقافية ، التي تلزم النساء بطرق محددة للتصرف ، وتلزم الرجال بطرق مختلفة ، وتمنع ما عداها؟.

-       ام ينبغي لنا – بدلا من ذلك – ان نسعى لجعل الاعراف التي تصنف تقليديا كأعراف نسائية ، مساوية من حيث القيمة والتقدير لتلك التي صنفت تقليديا كأعراف رجالية؟.

هذه ، في رأيي ، ستبقى نقطة تجاذب شديد بين أنصار الحركة النسوية انفسهم.

هذه المشكلة ذاتها ، تواجه المنتمين الى أقليات ثقافية ، حين تكون هويتهم الدينية او العرقية مختلفة عن تلك الخاصة بأكثرية أعضاء المجتمع. فعلى رغم أن القانون في المجتمعات الليبرالية الحديثة ، يمنح الجميع ، أعضاء الأقلية والأكثرية ، نفس الحقوق والفرص ، في مختلف الحقول كالتعليم والوظيفة ، لكن ثمة - في اغلب الاحيان - كلف إضافية مرتبطة بهذه الخيارات. من ذلك مثلا وضع شروط يصعب على أعضاء الأقليات الامتثال لها ، ومنها الشروط الخاصة باللباس ، التي ربما تتعارض مع قواعد اللباس الدينية او العرفية الخاصة بالجماعة ، ومنها أيضا الزامهم بالعمل في أوقات تتعارض مع قيمهم الدينية (مثل الزام شخص يهودي بالعمل يوم السبت) ، وما الى ذلك.

يجادل أنصار التعددية الثقافية ، بأن فكرة المساواة في الفرص لا ينبغي ان تقتصر على المعنى الشكلي. تكمن المشكلة هنا في أن الكلف التي افترضنا انها إضافية ، قد تبدو وكأنها موضوع اختيار من قبل الشخص ، وليست املاء من الخارج: إذا اخترت ، لأسباب دينية ، عدم تناول لحم الخنزير ، على سبيل المثال ، فمن الواضح أن هذا لا يمثل قيدا على حريتي: فالقيود مفروضة ذاتيا. فكيف يختلف الحال اذن اذا رفض ارباب العمل توظيفي ، لانني قررت بمحض اختياري ان أرتدي لباسا بشكل معين او طراز خاص. انه خياري الشخصي ، ويمكنني اختيار ملابس من طراز آخر كي أحصل على الوظيفة.

لمعالجة هذه المشكلة ، نحتاج إلى تحديد ما إذا كانت القواعد الخاصة باللباس ، أو الشروط الأخرى ، أساسية فعلا للوظيفة التي نفكر فيها. نعلم مثلا انه قد يتم الزام الموظفين بملابس ذات مواصفات معينة لأسباب تتعلق بالسلامة. في حالات أخرى ، قد تكون هناك جوانب جمالية ، من قبيل الزام الممثلين والراقصين ، بارتداء الازياء التي يختارها مصمم العمل الفني.

الفرضية في كل هذه الحالات ان التقييد كان انعكاسا لحاجة اساسية للعمل ، ولاعلاقة له بشاغل الوظيفة. لكن لو لم يكن الامر على هذا النحو ، اي لو ان قواعد اللباس تلك كانت مجرد امتداد لعرف عادي ، فعندئذ يمكن لاعضاء الاقليات الثقافية الرافضين للالتزام بتلك القواعد ، ان يدعوا ( ودعواهم ستكون مبررة) بان تلك القواعد يجب ان تلغى او على الاقل تخفف ، والا فان حريتهم في اختيار الوظيفة ، وخياراتهم في العموم تتعرض للهدر او تتقلص  (نشير هنا الى انه من الواجب على اعضاء الاقليات الثقافية الذين يدعون الضرر بسبب قواعد اللباس تلك ، ان يثبتوا بأن متطلباتهم الخاصة باللباس لها جذور ثقافية عميقة ، بحيث يكون انتهاكها مكلفا اجتماعيا او روحيا للأفراد المعنيين).

يوضح هذا النقاش كيف أن التحدي المنبعث من الحركة النسوية والتعددية ، قد يضطرنا لمراجعة بعض القناعات الراسخة. هذا لا يتناول فكرة الحرية نفسها ، بل فهمنا للظروف التي تساعد الناس على ان يكونوا أحرارا حقا في اختيار طريقهم في الحياة ، او تسهم في تقليص خياراتهم. وهذا بنفسه يقال أيضا حين ننظر الى حدود تلك الحرية. وقد عرضت في الفصل الرابع أمثلة ، توضح كيف أن السلوك الذي قد يفسره الآخرون كعدوان صرف ، وليس مجرد فعل "متعلق بالاخرين other-regarding" وفق تعريف ستيوارت ميل[9] ، كيف يمكن له ان يتحول الى ما هو أكثر من ذلك ، أي الى عدوان حقيقي او تهديد بالعدوان ،  إذا اضطر الناس المتأثرون به لتغيير سلوكهم الخاص ، نتيجة لضغطه أو لتفادي الأضرار المحتملة من ورائه.

ربما يرغب أنصار الحركة النسوية والتعددية ، في دفع هذه المحاججة خطوات أخرى أبعد من ذلك. ربما يزعمون ، مثلا ، أن الطريقة التي يتم بها تصوير النساء والأقليات الثقافية ، وخاصة في وسائل الاعلام الشعبية ، قد تخلف تداعيات سيئة جدا على نظرة الناس اليهم وتعاملهم معهم.. إذا تم تمثيل النساء كأدوات للمتعة ، على سبيل المثال ، أو تم تصوير السود على أنهم مجرمون أو تجار مخدرات ، فإن هذا سيؤثر ، ربما دون وعي ، على موقف الأشخاص الذين يتولون اختيار المرشحين للوظائف ، أو يقررون الترقيات. المعنى الضمني لهذه الحجة ، هو أن حرية التعبير ينبغي أن تكون محدودة بدرجة تزيد عما كنا نعتقد في السابق ، وأنه يجب منع التعبيرات التي تؤدي للاضرار بمصالح الفئات الضعيفة.

هذا هو السبب وراء مطالبة انصار الحركة النسوية بحظر المواد الاباحية[10]. وهو أيضا الذي دفع ممثلي الأقليات الدينية للمطالبة بتطبيق قوانين التجديف التي تحظر التعبيرات المهينة لرموزهم الدينية ، كما فعل بعض المسلمين حين نشر سلمان رشدي كتابه "آيات شيطانية".[11]

هذه المطالبات تثير مشكلات سياسية وقانونية ، في المجتمعات التي تتبنى بقوة مبدأ الحرية الفردية. فهم يقولون ، ان الحرية ، في نهاية المطاف ، ذات قيمة رفيعة ، لأن الايمان بها وتوفرها في المجتمع ، هو الذي يعطي الأفراد فرصة لتحدي الأعراف السائدة ، بل حتى إثارة الغضب والتسبب في صدمات أحيانا ، على أمل ان يدفعوا الآخرين للتفكير ومساءلة قناعاتهم ومعتقداتهم الراهنة. لولا السماح بالنقد الحر للاعراف والمذاهب والقناعات على اختلاف اشكالها وانواعها ، لما كان لدينا حياة ثقافية وحوار. فكيف يمكننا أن نتقبل التعبير أو السلوك ، الذي قد يفسر كهجوم او إهانة للقناعات التي يتبناها مجموعة من الناس ، ثم نستدير ونطالب بحظر التعبير أو السلوك الذي يسيء إلى مجموعة أخرى؟.

إنه لعسير جدا ان ترسم خطا واضحا ، يفصل بين أشكال التعبير التي ينظر اليها كوسيلة لتحرير العقول ومساءلة القناعات ، على رغم كونها مزعجة لبعض الناس ، وبين أشكال التعبير التي لا تنطوي على مضمون تحرري ، بل هي عدوان صرف او إهانة صرفة. من الصعب حقا ان تتوصل الى اتفاق بين الأشخاص المختلفين على حد واضح يفصل بين النوعين.

نتيجة لهذا ، فقد نرجح ان نترك للقانون ، ولو كان فظا ، ان ينظم هذا المجال بقدر ما يمكن. لكن في كل الأحوال لا ينبغي الحيلولة دون قيام الناس بالاختيار لانفسهم ، والحكم على ما يرونه تعبيرا مقبولا عن الرأي ، وما لا يرونه كذلك ، والتعامل مع الطرفين بلين وتسامح. هذا لا يحول بطبيعة الحال دون استثناء بعض الحالات القصوى ، مثل الخطاب العنصري في الأماكن العامة ، الذي يمكن ان يبقى محظورا.

من المفيد ان نختم هذا النقاش بالتأكيد على ان احترام معتقدات الآخرين ورموزهم ، لا ينبغي ان يصل الى حد استبعاد النقاش العام حول هذه المعتقدات. النقاش العام يعمق معرفة الناس من مختلف الانتماءات ببعضهم ، كما يزيدهم وعيا بما يجده كل منهم مسيئا او مهينا ، مما يعزز احترام بعضهم لبعض ، فضلا عن دوره في الكشف عما ينطوي عليه التعدد الثقافي من اغناء للثقافة الوطنية ككل ، وهذا من الأمور المهمة في مجتمع متعدد الثقافات. من المهم في الوقت نفسه الاشارة الى خطورة الجمود الثقافي ، الذي ربما ينتج عن الدوغمائية السياسية political correctness ، وخصوصا في حال احتواء المعتقدات او العناصر الثقافية موضع النقد ، على مضامين معادية للقيم الكبرى للإنسان الحديث ، ولا سيما الحرية والمساواة ، ومن بينها طبعا الحقوق المتساوية للنساء. لا ينبغي ان نتردد ابدا في نقد هذه المضامين بكل قوة ، حتى لو اعتبرها بعض الناس عدوانية او مسيئة.

الديمقراطية وتمثيل الاقليات

سوف اناقش الآن حجج الحركة النسوية والتعددية ، في خصوص ممارسة المباديء الديمقراطية على النحو السائد اليوم. وأبدا بالاشارة الى شكوى واقعية تعرفها غالبية المجتمعات التي تسير حياتها السياسية بواسطة الاقتراع العام ، تتناول هذه الشكوى الغياب النسبي للمرأة وممثلي الأقليات الثقافية عن المجالس التشريعية ، او ضعف تمثيلها. وهذا يشكل قضية رئيسية لكل من الحركة النسوية والتعددية على السواء.

لماذا يتوجب علينا الاهتمام بهذا الأمر؟. طالما جرى انتخاب كافة أعضاء المجالس التشريعية من قبل الشعب ، وكانوا مسؤولين امام ناخبيهم ، فانه يتوقع ان يتولى هؤلاء إيصال صوت الجميع ، رجالا ونساء ، المنتمون لمجتمع الأكثرية ونظراؤهم في الأقلية. لهذا فانه حتى مع وجود عدد قليل من النساء وأعضاء الأقليات في البرلمان ، فان هموم ناخبيهم سيجري التعبير عنها من خلالهم ومن خلال ممثلي الأكثرية أيضا. بعبارة أخرى فان ما هو مهم في النظم الديمقراطية ، هو آليات المحاسبة والمساءلة ، التي نستعملها للتحقق من ان حقوق المواطنين تحظى بالرعاية. ما ينبغي الاهتمام به هو وجود ونشاط هذه الاليات ، وليس من يجلس فعليا على كرسي البرلمان.

من المتوقع ان لا يرضى انصار الحركة النسوية والتعددية بالرد السابق. فهو – في رأيهم على الأقل – يغفل حقيقة أن النواب المنتخبين ، في الديمقراطيات القائمة على الأقل ، مستقلون عن ناخبيهم الى حد كبير. فهم يناقشون القضايا ويقررون آراءهم ويصوتون في البرلمان ، من دون الاستماع لراي ناخبيهم فيها ، بل ومن دون ان تتاح لهؤلاء الناخبين فرصة الاطلاع عليها أو مناقشتها. وقد ناقشت في الفصل الثالث طرق تعميق الديمقراطية ، وإشراك المواطنين بشكل كامل في اتخاذ القرارات ، فلو تم الاخذ بما اقترحته هناك ، فلعل صفة العضو المنتخب لا تمسي ذات أهمية قصوى. لكن واقع الحال اليوم ليس كما نتوخى ونأمل. ولهذا فان صفة العضو الذي يمثل الشعب في البرلمان ، ذات أهمية كبرى.

ثمة إضافة الى ما سبق ، حجة أخرى تدعم الدعوة لزيادة تمثيل المرأة والأقليات في البرلمان. وخلاصتها أن هناك قضايا مهمة ، ليس من السهل عليك فهم جوهرها وفهم المصالح المرتبطة بها ، ما لم تكن منتميا الى هذه المجموعة. قد يطرح على البرلمان سؤال أو شكوى حول قضية تمييز في الوظيفة ، متصل بممارسة دينية (لبس الحجاب لسيدة مسلمة او العمامة لموظف من السيخ مثلا). فمن المهم في هذه الحالة أن يشارك في النقاش ، أشخاص قادرون على شرح معنى الممارسة أو مركزيتها ، وانعكاس الحرمان منها على حياة المجموعة المعنية. وينطبق الشيء نفسه على القضايا التي لها علاقة خاصة بالمرأة ، من قبيل إجازة الأمومة أو رعاية الطفل.. الخ.

زيادة تمثيل النساء والأقليات في المجالس التشريعية ، لا يعني بطبيعة الحال ، ان يكون عدد النواب متناسبا بشكل صارم ودقيق ، مع نسبة الشريحة التي يمثلونها الى المجموع. المقصود على وجه التحديد ان كل مجموعة او دائرة مصالح ذات حجم معقول ، ينبغي ان تتمثل في الهيئة التشريعية. تنطلق هذه الفكرة من وصفي السابق للديمقراطية ، أي كونها نظاما للتوصل الى قرار سياسي ، من خلال النقاش المفتوح بين كافة المعنيين بموضوع النقاش.

من المفترض ان يكون أعضاء الهيئات التشريعية ، وكذا كل شخص من المعنيين ، مستعدا لسماع الحجج التي يعرضها الجانب الآخر ، وتقييمها اعتمادا على معايير الانصاف ، وربما تغيير وجهات نظرهم اذا اقتنعوا بتلك الحجج. هذا في الحالات المثالية. لكننا نعلم ان النظم الديمقراطية لا تعمل دائما على هذا النحو. مع ذلك فانه ينبغي لمجموعات الأقليات وممثليهم على وجه الخصوص ، ان تسلك هذا الطريق بقدر الامكان. فهم في نهاية المطاف أقلية. فاذا تخلى كل منا عن معايير الانصاف (التي قد تدعم الحجة المضادة له في بعض الاحيان) وصوت بناء على مصالحه الطائفية او العرقية ، فان الأقليات ستكون دائما في الطرف الخاسر. ان قوة الحجة والتمسك بمعايير الانصاف هو السلاح الوحيد للاقلية ، ويجب ان لا تفرط فيه أبدا.

يرد انصار الحركة النسوية والتيار التعددي على هذه الحجة ، بالقول ان المسألة لا تتعلق بالانصاف او عدمه ، بل بالاجراءات والآليات العملية ، التي ليست في صالح الاقليات. ان الفكرة القائلة بضرورة حسم القضايا الخلافية بواسطة النقاش المنطقي ، تصب في صالح اولئك الذين تمرنوا وبرعوا في هذا النوع من المناقشات ، اي الطرف الذي كان دائما يدير الامور في الحكومة او البرلمان. ويؤكد اولئك على حاجة النساء والاقليات ، لاستخدام خطاب أكثر حماسة واقناعا في الدفاع عن مطالبهم. كما يقترحون منح الاقليات والنساء حقا او أولوية ، في اتخاذ القرار المتعلق بالقضايا التي تتعلق بهم مباشرة ، مثل حقوق الانجاب ، الاجهاض ، ومنع الحمل ، وأمثالها من القضايا التي ينبغي – وفقا لرؤيتهم - ان يترك القرار فيها للنساء حصرا.

حين ناقشت المشكلة العامة للأقليات ، في الفصل الثالث ، جادلت بأن على النظم الديمقراطية ان تتقبل فكرة تكريس منظومة من الحقوق الأساسية في الدستور ، تستهدف في المقام الاول حماية الاقليات من الاجراءات المنحازة ، التي ربما تتخذها الأغلبية غير المنصفة. اقترحت أيضا انشاء دوائر انتخابية منفصلة ، من أجل التعامل مع القضايا المختلفة ، كما يحصل في النظام الفدرالي. وهو اقتراح يمكن اقامته على أرضية القيم الديمقراطية ومبرراتها.

اردت القول ان مطالب الاقليات والحركة النسوية ، يمكن معالجتها بشكل منصف ، في اطار النظام الديمقراطي ومؤسساته. لكن المشكلة ليست في قلة الحلول او غيابها ، بل في حقيقة ان العديد من القضايا التي تؤرق هذين الفريقين ، هي أيضا مصدر قلق للمجموعات الأخرى ، لكن في اتجاه مخالف. خذ مثلا مشكلة الاجهاض. فهي تعتبر قضية حساسة عند الحركات النسوية ، وهي في الوقت ذاته مثار قلق شديد عند المجموعات الدينية. تركز الحركة النسوية في مجادلاتها على ان الانجاب والاجهاض "حق" للمرأة ، بينما تجادل المجموعات الدينية ، بأن الاجهاض ينطوي على تدمير لكائن بشري له روح ، وبالتالي فهو ليس حقا لأحد غير الخالق.

يمكن لبعض الناس ان يصفوا هذا القول بأنه محض جنون. لكن الانصاف يقتضي القول ، انه لا يمكن للمرء رفضه تحت هذه الحجة او غيرها ، الا اذا كان مستعدا لرفض كافة الحجج الثقافية الاخرى المنبعثة من أساس ديني. ان السبيل الوحيد لمعالجة هذا الخلاف هو النقاش والتفاوض ، حتى نتوصل الى موقف من الاجهاض ، يحقق الحدا الأدنى من مطالب الطرفين ويحظى بقبولهما أيضا. هذا يؤكد – مرة أخرى – الحاجة لوجود تمثيل مناسب لمختلف وجهات النظر ودوائر المصالح ، في الهيئات التي سوف تتخذ القرار ، او تبني الاساس الذي على ضوئه يتخذ القرار[12].

العدالة المنزلية

فيما تبقى من هذا الفصل ، سوف نعالج سؤال العدالة: كيف تحدى انصار النسوية والتعددية الثقافية ، الافكار السائدة حول العدالة الاجتماعية ، وكيف ينبغي ان نتعامل مع هذي التحديات. وأريد في هذا السياق التركيز على قضيتين بالخصوص ، هما:

 أ) العدالة المنزلية: العلاقة بين المرأة والرجل في الحياة العائلية.

ب) التمييز الايجابي ، اي الاجراءات المصممة لمساعدة النساء وأعضاء الاقليات الاثنية ، للوصول الى مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل.

سوف أناقش مسألة العدالة الاجتماعية في الفصل الأخير من هذا الكتاب. وقد أشرت هناك الى انها تتعلق بطريقة توزيع المنافع والكلف بين الأفراد ، من جانب مؤسسات المجتمع والدولة. في الماضي ، كان الذي يتبادر للاذهان حين نتحدث في العدالة الاجتماعية ، هو نظام الملكية والضرائب ، توفير الرعاية الصحية والتعليم لعامة الناس ، وما إلى ذلك. هذه بطبيعة الحال قضايا لا تزال مهمة لعامة الناس وهم يعتبرونها جزء من مفهوم النظام العادل.

-       لكن هل سنحقق العدالة لو انحصر اهتمامنا في الآثار التوزيعية للمؤسسات العامة؟

يجادل انصار الحركة النسوية ، بأننا نحتاج أيضا إلى مطالعة ما يحدث داخل الوحدات الاجتماعية الأولية ، وأبرزها طبعا العائلة ، كي نرى كيف يجري توزيع المنافع والكلف بين أعضائها ، وكيف ان نظام التوزيع داخل العائلة ، يؤثر على تقاليد التوزيع الخاصة بالوظائف والدخل وما إلى ذلك ، في المجتمع الواسع. ويقول هؤلاء بصورة محددة ، أنه من دون ضمان العدالة في العلاقات بين الجنسين داخل المنزل ، فانه ليس متوقعا ان تحصل المرأة على العدالة الاجتماعية مطلقا[13].

من المرجح ان يتفق غالب الناس اليوم ، على ان المرأة لم تحظ – تاريخيا – بمكانة مساوية للرجل ، بل كانت دائما تحت رحمة الرجل. قضت الأعراف باعفاء الرجال من أي عمل منزلي ، في الوقت الذي يتحكم في الموارد المالية للعائلة ، نظرا لكونه المسؤول عن توفير مصادر المعيشة.

لكن يبدو الوضع الان مختلفا بعض الشيء. فقد حصلت المرأة على استقلالها في المجال العام ، ومن ثم استعادت حقوقها القانونية والسياسية والحق المتساوي في سوق العمل. ولعله من الممكن القول ، بناء على التحولات المذكورة ، بان علاقة الرجال والنساء داخل العائلة ، قد تعرضت لتغيير جوهري. في الوقت الحاضر يتعامل الرجال والنساء في إطار شروط متساوية. بعبارة أخرى فان حصول المرأة على العدالة الاجتماعية (بالمعنى المتعارف) يعني ان الخطوة اللاحقة ستكون بالتأكيد هي العدالة المنزلية.

يبدو هذا صحيحا على المستوى النظري فحسب. ان حصول المرأة على مكانة متساوية (في القانون) لم يؤد الى حصولها على نفس المكانة في سوق العمل ، ولم ينعكس بنفس القدر على العلاقة في المنزل. لا شك ان وضع المرأة قد شهد تطورا ايجابيا في نواح عديدة. لكن سيكون من ضروب المبالغة القول ان التمييز قد تلاشى. فالمشهود انه لا زال ثمة قدر كبير من عدم المساواة ، لا سيما في حصة كل من المرأة والرجل في العمل المنزلي. فحتى لو عمل الزوجان بدوام كامل ، فان المرأة لا زالت تتحمل الجزء الأكبر من اعمال المنزل ، وبينها بالتأكيد اعمال مرهقة ، او على الأقل غير محببة (المؤكد ان أحدا لن يستمتع بكي الملابس او تنظيف البيت حتى لو كان بالمكنسة الكهربائية). هذا التباين في المهام وجه واضح لغياب الانصاف.

من ناحية أخرى ، ثمة اسباب تبدو – ظاهريا على الأقل – طبيعية ، تؤدي لخسارة النساء في أي منافسة متساوية. من ذلك مثلا اضطرار المرأة لأخذ فترات راحة وظيفية طويلة نسبيا من اجل الولادة ، وحين يعدن الى الوظيفة لاحقا ، فان كثيرا منهن يعملن بدوام جزئي ، وهذا وذاك يؤدي بالضرورة الى تقدم بطيء في السلم الوظيفي ، مقارنة بزملائهن الرجال.

يوضح هذا ان التمييز الصريح بين الجنسين لازال قائما. لكنه فوق ذلك يفسر الأسباب الكامنة وراء حصول النساء على دخل أقل من الرجال ، كما يوضح السبب الكامن وراء ضعف تمثيلهن في الوظائف العليا ، في مختلف المهن (ثمة عدد قليل جدا من النساء في وظائف مثل الرئيس التنفيذي للشركات والقضاة والأساتذة الجامعيين.. الخ). لكن لا ينبغي القفز الى الاستنتاج ، بأنه طالما بقي الرجال والنساء في وضع غير متساو في جوانب معينة ، فان هذا دليل على غياب العدالة. في نهاية المطاف ، فان بعض النتائج غير المتساوية قد لا تكون غير عادلة بالمعنى الدقيق ، اذا كانت تعكس الخيارات المختلفة التي اتخذها الناس بأنفسهم.

بعبارة أخرى ينبغي الاخذ بعين الاعتبار ، الردود القائلة بان هذه الترتيبات لم تجر في الخفاء ، ولم تفرض على النساء قسرا ، فقد وافقن على ما بدا انه يصب في مصلحتهن ، وأنهن قد قبلن - كجزء من الصفقة التي أدت الى انشاء الأسرة ، إن جاز التعبير - أن يتحملن عبء الأعمال المنزلية أو معظمها ، وأن يكتفين بوظائف ربما تكون أقل ابهارا من شركائهن الذكور.

-       حسنا. لماذا وافقت النساء على هذا الدور وهذه المكانة؟

دعنا نفترض انه لا يزال ثمة أعراف حول الدور المتوقع ان يلعبه كل من الجنسين في الحياة ، أعراف تخبرنا ان المرأة تتحمل مسؤولية خاصة في إدارة المنزل وتربية الأبناء ، بينما يتحمل الرجال مسؤولية خاصة في تدبير مصادر معيشة العائلة خارج المنزل. ومن هنا ، وعلى الرغم من ان غالبية النساء يشغلن بالفعل وظائف في سوق العمل ، إلا أنه ثمة ميل عند كلا الجنسين الى اعتبار عمل المرأة هذا نوعا من المكافأة او مصدرا للدخل الاضافي ، شيئا مضافا الى المسؤوليات الأساسية التي تتحملها ، وليس واحدا منها.

الجواب على هذا الاشكال: انه حتى لو كان عمل النساء يجري ضمن هذا المنظور ، فانه من الواضح انه ليس في صالحهن ، من حيث التوازن المفترض بين الكلف والمنافع. ربما كان هذا المنظور والأعراف الداعمة له ، بعضا من بقايا العصور القديمة ، ولا يكفي القبول الاختياري بهذه الأعراف لجعلها منصفة ، لانه من المعروف ان العبيد أيضا كانوا يقبلون المعايير التي تبرر استعبادهم ، فهل هذا يجعلها عادلة؟.

يوضح هذا النقاش اننا بحاجة للتمييز بين جانبين في النقاش: ان العدالة المنزلية لم تتحقق فعلا في مجتمعنا. هذا شيء قد يكون صعبا نوعا ما. لكن الأصعب حقا هو ما ينبغي قوله حول متطلبات تحقيق الانصاف في العائلة. هل ينبغي التشديد على ان تحقيق العدالة ، مشروط بالمشاركة المتساوية بين الرجل والمرأة ، في كافة المنافع والاعباء الخاصة بالعائلة... ام انه ثمة مجال للناس كي يتوصلوا بأنفسهم الى الترتيب الذي يريحهم ويتناسب مع ظروفهم الخاصة ، بمعنى تمكين الناس من اختيار طريقة حياتهم ، ولو لم تكن مطابقة لبعض المعايير التي نتحدث عنها؟.

قد نستطيع القول ان الأمر متوقف على تزاحم الأعراف القديمة مع نظيرتها الحديثة. فور ان تختفي الأعراف القديمة التي تحدد المكان المناسب للمرأة ، فان مبدأ التوافق الحر سوف يبرز كسياق طبيعي للعلاقة بين الجنسين. وكما لاحظنا ، فثمة بين انصار الحركة النسوية من يصر على انه ثمة فروق عميقة بين الرجال والنساء ، سيما في الجانب الخاص بتربية الأبناء ، وهم يرون ان المساواة المتشددة ، بمثابة قسر للمرأة للتصرف على نحو يتنكر لطبيعتها كأم.

هذه الفرضية صحيحة الى حد ما. وضمن هذا الحد ، فان الانصاف في الحياة العائلية ينبغي ان يتوافق مع المرونة الضرورية في العلاقة بين أعضاء العائلة ، أي ان يتقاسم الشريكان اختياريا الاعمال داخل وخارج المنزل ، تبعا لتفضيلاتهم الشخصية وقدراتهم.

التمييز الايجابي

النقطة الأخيرة التي أود مناقشتها في هذا الفصل ، تتعلق بالقضايا التي أثارتها سياسات "التمييز الايجابي affirmative action". نعلم ان أنصار الحركة النسوية والتعددية ، قد تحدوا المفهوم التقليدي لتكافؤ الفرص ، والذي يعني أن الجدارة يجب ان تكون معيارا حاكما ، حين تجري المفاضلة بين المرشحين للوظائف أو المقاعد الجامعية. بدلا من ذلك ، فهم يجادلون بأن العدالة ربما تستدعي قدرا من من التمييز الايجابي لصالح المرشحين من النساء و الأقليات العرقية. وبعبارة أخرى ، يجب أن يمنح أعضاء هذه الفئات فرصة تفضيلية أمام لجان الاختيار. لقد تم الأخذ بسياسات كهذه على نطاق واسع ، من قبل الجامعات و أرباب العمل. لكنها – مع ذلك - لا تزال مثار جدل ، يتناول مقدار توافقها مع معايير العدالة[14].

نحن بحاجة لتسليط الضوء على اثنين من المبررات التي ربما تدعم سياسات التمييز الايجابي.

المبرر الأول هو أن الطرق المعيارية لقياس "الجدارة" ، على سبيل المثال ، تعتمد على درجات الاختبار التي يحصل عليها المتنافسون على الوظيفة او المقعد الجامعي. هذه النتائج تميل إلى التهوين من القابلية الحقيقية للنساء وأعضاء الأقليات. قد يكون هذا نتيجة احتواء الاختبارات على تحيزات ثقافية خفية ، أو لأن المرشحين من الفئتين المذكورتين ، لديهم فرص أقل لاكتساب المهارات التي جرى تصميم الاختبارات لقياسها ، ربما لأن خلفيتهم التعليمية اضعف. ولعلنا نجد هذه المشكلة عند أعضاء الأقليات العرقية المحرومة ، أكثر مما نجده عند النساء ، نظرا لأن الفتيات يظهرن الآن ميلا واضحا للتفوق على الأولاد في المدرسة.

ان التفاوت في الخلفية التعليمية او الاخفاق الناتج عن الانحياز الخفي للاختبارات ، سيبقى مؤثرا في استمرار اللامساواة ، ما لم يجر التعامل معه بجد. ويظهر ان سياسات التمييز الايجابي ، هي الطريقة الأفضل والأكثر واقعية لتحقيق تكافؤ الفرص. يبدو انه لا خلاف من حيث المبدأ: موضوع النقاش هو الطريقة الأمثل للتحقق من ان المرشحين لمواقع وظيفية او تعليمية ممتازة ، هم الأشخاص الذي يستحقونها واقعيا.

المبرر الثاني: يثير قضية مبدئية ، خلاصتها أن التمثيل الفعلي للنساء والأقليات ، في الشرائح العليا من المجتمع ، ضعيف جدا. ومن هنا فان التمييز الايجابي هو الوسيلة المعقولة لتصحيح هذا الخلل. بعبارة أخرى ، يجب أن يستهدف واضعو السياسات ، زيادة عدد الأشخاص الذين يمثلون النساء ، والسود ، والمسلمين ، وبقية الأقليات ، في المناصب رفيعة المستوى ، في الأعمال التجارية والمهن والخدمة المدنية والتعليم العالي ، وما إلى ذلك. وفقا لهذا المنظور ، فإن العدالة الاجتماعية لا تتعلق حصرا بالمعاملة المنصفة للأفراد ، اذ ان جانبا مهما منها يتعلق بالجماعة أيضا. نحن نصف المجتمع بالعادل ، حينما تكون جميع الطبقات والشرائح والاتجاهات التي يتالف منها ، حاضرة في المجالات الاجتماعية المختلفة ، ولا سيما في المستويات العليا ، بقدر يتناسب مع حجمها العددي.

حسنا. دعنا نفترض ان الفرص الفردية كانت متكافئة حقا ، وان المؤهلات كانت دائما المعيار المؤثر في اختيار الأشخاص للوظائف والمواقع الادارية والمهنية ، وان الجميع حظي بفرص متساوية لتطوير مهاراته وقدراته التي تصنف كمؤهل. مع ذلك فان مجموعات مختلفة في المجتمع استطاعت ان تحقق – في العموم – نتائج متباينة. بعضها حقق نجاحا أكبر ، فاحتل معظم الوظائف العليا ، بينما فشلت المجموعة الأخرى فبقيت في القاع. فهل نستطيع القول ان المجموعة التي أخفقت ، كانت ضحية لظلم جمعي؟.

هذا محتمل. الا اذا كان افراد هذه المجموعة ، قد اختاروا – عن وعي – عدم السعي وراء الوظائف العليا ، أو عدم الاجتهاد لتلبية متطلباتها ، أيا كان السبب ، ثقافيا او دينيا او اجتماعيا او غيره.

اظن انه يبدو من غير المرجح بشكل عام ، ان يختار جمع من الناس ، البقاء في وظائف متدنية ، مع ان الأعلى متاحة لهم. هناك حالات - بطبيعة الحال - تكشف ان وظائف معينة تعتبر غير ملائمة عند مجموعات بعينها ، لأسباب دينية او ثقافية او غيرها ، ولذا فهي لا تجد اقبالا بين أعضاء هذه المجموعات. لكني أميل الى تفسير اراه مرجحا أكثر ، وخلاصته ان المجموعات التي يكتفي أعضاؤها بالوظائف الدنيا ، لازمان متوالية ، تعاني في الغالب من شعور عميق بعدم تقدير الذات (او ربما احتقار الذات). ومن هنا فان توقعاتهم في الحياة ، غالبا ما تكون منخفضة ، ويعتقد أعضاؤها بان لديهم فرص قليلة جدا لتسلق السلم الوظيفي الى الأعلى ، ولذا فان غالبيتهم لا يرون جدوى من محاولة الصعود.

اذا وجدت هذه الحالة ، فينبغي ان نشعر بالقلق. إنه لأمر سيئ لأية مجموعة ، بل للمجتمع بأسره ، ان تبقى شريحة من أبنائه في وضع معيشي او حياتي متدن ، أو ان يشعر أعضاؤها بالاحباط إزاء فرص التحرر من بؤسهم ، الى درجة انهم يرون الفرص أمامهم فيعرضون عن اغتنامها. في حالات كهذه ، يمكن لسياسات التمييز الايجابي أن تلعب دورا مؤثرا ، من خلال إظهار القابليات الكامنة عند أفراد الأقليات ، التي يمكن تحريرها واطلاقها فور حصولهم على دعم أولي ، من قبيل الحصول على مقعد دراسي في جامعة جيدة. يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص أن يمثلوا نموذجا يشجع الآخرين على السير في نفس الطريق.

انطلاقا من هذا ، فانه يمكن تبرير سياسات التمييز الايجابي ، بالنظر الى آثارها الاجمالية على أعضاء الأقلية والمجتمع ككل. (ربما يقدم الأمريكيون الأفارقة ، أفضل مثال على نجاح هذا النوع من السياسات ، وانعكاسه الايجابي على المجتمع ككل).

يهمني الاشارة هنا الى ان سياسات التمييز الايجابي التي ندعو اليها هنا ، لا تستمد مبرراتها من مبدأ العدالة. كما انني لا أقول بأن الجماعات العرقية او الثقافية ، او أي من الشرائح الاجتماعية ، التي ذكرت انها محبطة وان تطلعاتها متدنية ، لا أقول انها ضحية لانعدام العدالة ، بناء على هذا المعيار وحده ، بل استطيع القول ان الحالات التي ذكرناها ، قد تنطوي على تعارض بين القيم ، بين وجوب المعاملة المنصفة لجميع الافراد ، بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية ، من جهة ، ووجوب السعي لادماج الأقليات العرقية والثقافية في الحياة الاعتيادية للمجتمع الاوسع ، كي تتقارب مستويات المعيشة بين سائر افراد المجتمع ، وتتقلص حالات التهميش.

ولهذه المناسبة ، أذكر القاريء بما أشرت اليه في الصفحات الأولى من هذا الكتاب ، من ان على الفلاسفة السياسيين ان يقاوموا اغراء التسليم للفرضية الشائعة بين رجال السياسة ، والتي فحواها ان السياسات التي يفضلونها او يدعون اليها ، صافية تماما ولا تنطوي على أي تضارب مع القيم الأخرى ، وبالتالي فهي لا تستدعي التضحية بتلك القيم.

ما اردت التوصل اليه هنا ، هو أن سياسات التمييز الايجابي ستكون متوافقة مع معايير العدالة ، فقط وفقط حين يتعلق الأمر بتوفير مقومات العدالة بين الأفراد ، ومن امثلتها ما ذكرناه في السطور السابقة ، أي استخراج القابليات الكامنة في افراد الأقليات ، القابليات التي قمعت او اختفت لأي سبب من الاسباب.

لا ينبغي لسياسات التمييز الايجابي ان تتجاوز هذا الحد. فاذا تجاوزته وتحولت الى وسيلة لرفع المكانة العامة لمجموعة او شريحة ما ، قياسا للمجموعات الأخرى ، فحينها لن يبقى الامر في اطار العدالة وضمن حدودها ، حتى لو كان مرغوبا بشكل عام.

كنت قد قلت في بداية هذا الفصل بأن أنصار التيار النسوي والتعددي ، يطرحون أسئلة على فلاسفة السياسة ، تحت عنوان انها البديل الصحيح عن الأسئلة القديمة في الفلسفة السياسية. وذكرت هناك انني لا أراها بديلا ، بل هي أقرب الى طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. ومع وصولنا الى نهاية الفصل ، آمل ان تكون النقاشات السابقة تبريرا مناسبا لهذا الرأي.

لقد تعلمنا من الحركة النسوية والتعددية ، ان نغير طريقة تفكيرنا في قضايا السلطة السياسية ، والحرية ، والديمقراطية ، والعدالة. لا يقتصر الأمر على هذا. فقد ابرزت الحركة تحديا موازيا ، يتعلق بالطريقة المناسبة لبلورة هذه المباديء ، وطريقة إنجازها في المجتمعات المتنوعة ثقافيا ، المجتمعات التي تتوقع نساؤها أن يعاملن على قدم المساواة مع الرجال. ومن هنا استطيع القول ان الكتابات التي صدرت في إطار الحركة النسوية والتعددية ، قد ساهمت في اغناء نقاشات الفلسفة السياسية ، وجعلتها على اتصال مباشر مع عدد من اكثر القضايا إثارة للجدل في المشهد السياسي في هذا الزمان.

 



[1] David Miller, Political Philosophy: A Very Short Introduction, Oxford University Press 2003.

   [2] للاطلاع على نقاش أوسع حول التعددية والنسوية ، انظر ويلي كيمليشكا: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة ، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة (تونس  2010). 

There are many anthologies of feminist political thought, including Alison Jaggar and Iris M. Young (eds.),  A Companion to Feminist Philosophy (Blackwell, 1998) and Anne Phillips (ed.), Feminism and Politics (Oxford Uni. Press, 1998).

On multiculturalism, see Will Kymlicka, Multicultural Citizenship (Clarendon Press, 1995), Bhikhu Parekh, Rethinking Multiculturalism (Macmillan, 2000), and for a critique, Brian Barry, Culture and Equality (Polity Press, 2001).

[3] نشر جون س. ميل كتابه "حول الحرية" في 1858 وشدد فيه على أهمية استقلال الفرد وحريته ، وكونهما ضرورة لكرامة الانسان وكمال انسانيته. وفي 1869 نشر كتابه الآخر " استعباد النساء " الذي اعتبر مكملا للأول ، مع التركيز على حالة المرأة. إن لم يكن هذا أول كتاب في الدفاع عن حقوق المرأة واستقلالها ، فلا شك انه بين الأوائل في تلك الحقبة. انظر: جون س. ميل: استعباد النساء ، ترجمة امام عبد الفتاح امام ، مكتبة مدبولي (القاهرة 1998).

[4] حول الفارق بين القوة السياسية والسلطة السياسية ، انظر :

Introduction to Sociology, Module 15: Government and Politics, Power and Authority’ Lumen Learning , (retrieved 2-Jul-2021) https://courses.lumenlearning.com/wmopen-introtosociology/chapter/power-and-authority/

[5] ينسب اطلاق هذا الشعار الى كارول هانيش التي كانت وقتئذ (1968) ناشطة نسائية وعاملة في مجال الحقوق المدنية. انظر بهذا الصدد مقالتها المسماة "الشخصي سياسي" في ويكي الجندر (10-06-2019)  https://genderiyya.xyz/mw/index.php?title=&oldid=22356

وللاطلاع على قراءة تحليلية في الموضوع ، ودور هانيش في الحركة النسوية ، انظر:

Theresa M. L. Lee: ‘Rethinking the Personal and the Political: Feminist Activism and Civic Engagement’, Hypatia , Vol. 22, No. 4, Democratic Theory (Autumn, 2007), pp. 163-179 . https://www.jstor.org/stable/4640110

[6] For the claim that in debates about political power and authority, the power of men over women has remained unacknowledged, see especially Carole Pateman, The Sexual Contract (Polity Press, 1988).

لتحليل حول كيفية تعاطي الفلاسفة السياسيين في الماضي مع المرأة وقضاياها ، انظر سوزان أوكين: النساء في الفكر السياسي الغربي ، ترجمة امام عبد الفتاح امام ، دار التنوير (بيروت 2009)

[7] ذكرنا في الفصل الرابع رؤية ميل ، وفحواها ان لكل فرد نطاقا ينبغي ان يتمتع فيه بحرية تامة غير قابلة للانتهاك او التحديد. هذا النطاق وفقا لرايه ، هو ذلك الذي تكون التصرفات الجارية فيه متعلقة بذات الانسان self-regarding وليس باحد آخر ، بمعنى أنها ، لو تسببت في اضرار ، فسوف تكون مقصورة على مصالح الشخص نفسه ، ولن يتضرر منها أي شخص آخر ، ولذا لا ينبغي التدخل فيها أبدا.

[8] John Stuart Mill: The Subjection of Women, 2nd ed. London, (Longman 1869), p. 38.

The question whether there are essential differences between mens and womens nature is discussed in Deborah Rhode (ed.), Theoretical Perspectives on Sexual Difference (Yale University Press, 1990).

[9] لتوضيح الفكرة هنا ، ينبغي التمييز بين ثلاثة أنواع من الفعل ، هي: الفعل المتعلق بالذات self-regarding أي الذي ينعكس على الفاعل فقط ، والفعل المتعلق بالغير other-regarding وهو الفعل الذي يبدو مثل الأول ، لكنه ينعكس بشكل واضح على الآخرين (مثل تعليق صور او شعارات تتضمن تهوينا من قيمة العرق الأسود في مصنع يعمل فيه اشخاص من ذوي البشرة السوداء). وأخيرا الفعل الذي ينطوي على عدوان صريح على الغير ، أي ان علاقته بالغير ليست ضمنية بل ظاهرة ومستهدفة بشكل اولي. والنقاش المذكور أعلاه يدور حول النوع الثاني ، أي الفعل الذي يبدو متعلقا بالغير ، فهذا الفعل يمكن ان ينتهي الى اضرار حقيقي بالاشخاص المعنيين به ، وان لم يكن متصلا مباشرة بالشخص الذي علق تلك الصورة ، مثل اضطرار اولئك الأشخاص الى ترك وظائفهم في ذلك المكان.

راجع رأي ميل بهذا الخصوص في: جون ستيوارت ميل: حول الحرية ، مصدر سابق  ، ص 26 ن. إ. https://archive.org/details/Huriyya/page/n111/mode/2up

ولمطالعة تحليلية في مفهوم ميل عن الفعل المتعلق بالذات والفعل المتعلق بالغير ، انظر

C. L. Ten: ‘Mill on Self-regarding Actions’, Philosophy, Vol. 43, No. 163 (Jan., 1968), pp. 29-37  http://www.jstor.org/stable/3749020

[10] The feminist case against pornography is powerfully stated in Catherine MacKinnon, Only Words (Harper Collins, 1994).

[11] For discussion of the issues of free speech raised by the controversy surrounding Salman Rushdie’s The Satanic Verses, see Bhikhu Parekh (ed.), Free Speech (Commission for Racial Equality, 1990) and Bhikhu Parekh, Rethinking Multiculturalism (Macmillan, 2000), ch. 10.

[12] For discussion about why and how women and cultural minorities should be included in democratic politics, see Anne Phillips, The Politics of Presence (Clarendon Press, 1995) and Iris Marion Young, Inclusion and Democracy (Oxford University Press, 2000).

[13] On justice within the family, see especially Susan Moller Okin, Justice, Gender and the Family (Basic Books, 1989).

[14] لمنظور تحليلي في سياسات التمييز الإيجابي ، انظر:

روبرت فولينوايدر: التمييز الإيجابي (موسوعة ستانفورد للفلسفة)، ترجمة محمد العمري ، مجلة حكمة (3-ابريل-2021) https://bit.ly/3wfOLqg

حول الاشكالات الفلسفية التي تثيرها سياسات التمييز الإيجابي والنقاشات المتعلقة بها انظر:

Stephen Cahn, The Affirmative Action Debate, 2nd edn. (Routledge, 2002). See also Ronald Dworkin’s essays collected in A Matter of Principle (Clarendon Press, 1986), part v.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...