‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفطرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفطرة. إظهار كافة الرسائل

19/07/2023

عودة الى جدل الطبيعة البشرية


الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات بيانه في مقال الاسبوع الماضي. وعلته ان زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة ، كما شكك آخرون في اهمية هذا النوع من "السوالف العتيقة" كما قالوا.

والحق ان قصة الطبيعة البشرية ، اي سؤال: هل الانسان صالح بالطبع او فاسد بالطبع ، عتيقة جدا. فقد وردت في كتابات افلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر اهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى ان اي نظرية في الفلسفة السياسية ، هي بصورة مباشرة او غير مباشرة ، نظرية حول طبيعة الانسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة ، اني اميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون ، وخلاصتها ان اي نظرية في علم السياسة او في الفقه او القانون ، يجب ان تقام على موقف مسبق من طبيعة الانسان. بمعنى ان على المشرع ان يقرر الاساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة ، ام العكس.

بيان ذلك: حين يفكر المشرع في مواد القانون الذي يريد وضعه ، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرع الذي يحمل رؤية متفائلة ازاء طبيعة البشر ، سوف يصدر قانونا لينا ، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم ، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرع او الفقيه رؤية متشائمة ، اي حين يكون معتقدا بان الناس اميل للفساد ، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الاساس ، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشنا معقدا ، لا يمكن الناس من حقوقهم الا بعد الف تحقيق وتحقيق.

بعبارة اخرى فان النوع الأول يفترض ان الناس طيبون ، وانهم حين يدعون حقا ، فهم في الغالب صادقون ، وان دور القانون هو مساعدتهم. اما الثاني فيفترض ان الناس فاسدون ، وحين يدعون حقا فانهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم ، او ان الجشع يحملهم على اخذ ما يزيد عن حقهم. ولذا يجب الحيلولة دون وصولهم الى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم ان كثيرا من الناس يميل الى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول ، ولدي دليل واحد فحسب ، وهو موقفك انت عزيزي القاريء. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين ، وانت تعرف جوابهما ، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية ، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى ان عدد الفاسدين سيكون اكبر او العكس؟.

السؤال الثاني: الق نظرة على تاريخ البشرية خلال الف عام ، هل تراها تقدمت ام تأخرت.. على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوفر الغذاء والدواء ورعاية الاطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة.. الخ. هل يمكن للفاسدين ان يصنعوا هذه التحولات العظيمة. اذا كان الجواب نعم ، فينبغي ان تكون السجون مصدر العلم والاختراع ، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلا؟.

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقا من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الاصلح لي ولك وما الذي نريده لانفسنا: ان يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام ، ام كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟.

هل أمثل انا وانت وعشرات الاشخاص الذين نعرفهم ، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب ، ام ان الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم ، دون بقية خلقه؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 02 مُحرَّم 1445 هـ - 19 يوليو 2023 م  https://aawsat.news/4nm4z

مقالات ذات صلة

الاثم الاصلي 

اناني وناقص .. لكنه خلق الله 

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح 

بقية من رواية قديمة 

الانسان الذئب؟.... 

صورتان عن الانسان والقانون 

مجتمع العقلاء 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الاولى للبشر 

صورتان عن الانسان والقانون 

القانون للصالحين من عباد الله 

الحق في ارتكاب الخطأ 

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري 

دعاة الحرية وأعداء الحرية 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

واتس اب (1/2) أغراض القانون 

واتس اب (2/2) عتبة البيت 

 

12/07/2023

لو كان الانسان ذئبا لما تحضر

قبل عقدين من الزمن تقريبا ، كانت الدكتورة منى البليهد تعد اطروحتها للدكتوراه ، حول "الهوية الثقافية لدى طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في المملكة". وفي اطار الابحاث الميدانية المتعلقة بالموضوع ، سألت د. البليهد عينة من طلبة الثالث ثانوي عن رأيهم في القول السائر "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب" فأجاب 70 بالمائة منهم بالموافقة عليه ، أي انهم مقتنعون بأنه لا يمنع الناس من العدوان عليك الا خوفهم منك. ثم تساءلت الباحثة: بعد بضع سنين سيلتحق هؤلاء بسوق العمل ، وسيتعاملون مع الناس ، فهل سيتمثلون دور الذئب حينذاك؟. 

تذكرت هذه القصة القديمة نوعا ما ، حين صادفت هذا الأسبوع أربعة كتاب ، اتفقوا في مقالاتهم على ان الانسان فاسد بطبعه ، وهذا ما يبرر ظلم الناس لبعضهم ، سيما من لا يعرفونهم. 

أعلم أن كثيرا من القراء الأعزاء يعتبرون هذا الامر من قبيل المسلمات. وربما استغربوا اعتراضي على الفكرة وانكارها جملة وتفصيلا ، فكيف تنكر ما اجمع عليه اهل العلم والشعراء جيلا بعد جيل؟. 

والحق ان غالب الثقافات القديمة ومن بينها العربية تميل بقوة الى هذا المنحى ولذا احتفل اسلافنا ومعاصرونا بأمثال قول المتنبي:  

"الظلم من شيم النفوس فان تجد...ذا عفة فلعلة لا يظلم"  

"ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم.. ومن لا يظلم الناس يُظْلمِ" 

ورأيت عددا من اجلاء المفسرين يصرف الآية المباركة "وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا" الى نفس المعنى السابق ، اي فساد الطبيعة البشرية. 

ولعل القراء الاعزاء قد لاحظوا ان فهم الطبيعة البشرية على هذا النحو ، قد اتصل بمفهوم الشجاعة ، فتحول المفهوم المركب الى تقديس للقوة المادية واحتفاء بالسيف ، كما في شعر زهير السابق الذي يحتفي بظلم الغير حماية للأرض والعرض ، وكأن هذا لا يسلم الا بذاك ، بل قيل هذا صراحة على لسان المتنبي "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى...حتى يراق على جوانبه الدم" ومثله قول ابي تمام "السيف اصدق انباء من الكتب". مع ان الكتاب يصون حياة خلق الله والسيف يهدرها ، فلا ادري كيف يكون هذا اصدق من ذاك؟. 

لا بد من ايضاح ان تلك الابيات ، قيلت جميعا لمناسبات بعينها. ولعل اصحابها لم يقصدوا ان تكون الفكرة بذاتها مطلقة. لكن واقع الحال يخبرنا ان الرسالة الداخلية لكل منها ، قد تجردت عن ظرفها الخاص ، وتحولت الى مسلمة يتبادلها الناس في مختلف ازمانهم واحوالهم ، دون ان يتوقفوا قليلا لمساءلتها او التأمل في معناها ، وهو معنى ناقص ومجروح قطعا ، ان لم نقل انه خطأ في الجملة والتفصيل. 

من المفهوم ان كافة الامم والثقافات تحتفي بالسيف والسلاح. لكن عصر النهضة الاوروبية شهد حدثا مهما ، هو انكماش الفهم القديم للطبيعة البشرية ، وبروز مفهوم نقيض ينظر للانسان باعتباره عاقلا وخيرا ، بمعنى انه لو وقف امام خيارين ، فسوف يختار ما هو اصلح له ولغيره: انه يختار ما يصلح له لأنه عقلاني يحسب عواقب الافعال ، وهو يختار ما ينفع غيره ان لم يكن به ضرر على نفسه ، لأنه كائن اخلاقي. وفقا للفيلسوف المعاصر جون رولز ، فان ما يميز الانسان عن بقية الكائنات ، هو قابليته لاكتشاف العدل والخير في الاشياء والافعال ، وتمييزه عن الشر ، واختيار الخير في معناه العام.  

الحقيقة انه لولا عقلانية الانسان وخيريته ، لما تقدمت البشرية ، ولبقيت مثلما كانت قبل الاف السنين. ان فعل الخير لا ينحصر في مساعدة الفقير والمسكين ، بل يشمل كل عمل يسهم في عمران الارض وتحسين حياة البشر وتطورها في اي صورة من الصور. وكل ما نراه من حولنا شاهد على عقلانية الانسان وخيريته. 

الشرق الأوسط الأربعاء - 24 ذو الحِجّة 1444 هـ - 12 يوليو 2023 م 

مقالات ذات صلة: 

 

 

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...