‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل النظري. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل النظري. إظهار كافة الرسائل

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

26/12/2024

من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام

 قلت قبل أسبوعين أن "العقل العملي" يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالا باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام ، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيها بمن بالآخرين في محيطه. وبهذا المعنى فالعقل لا يبدع شيئا ، بل يعيد انتاج الثقافة الموروثة ، وما يستند اليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضروريا كي لا يظن قاريء ان عقلا كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الانسان ، مؤلف من تفاعلات مادية او فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلا الحالين محتاج الى تقبل الاخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دورا مؤثرا ، فهو يصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يحقق الهدف المنشود. ان افتقار الانسان للعقل العملي ، يماثل تماما افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله الى مقصده. بهذا المعنى فان العقل العملي هو أداة العيش ، وهو ضرورة للعيش ، ولولاه ربما بات الانسان غريبا منفردا ، او دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد حان الوقت لبيان ان هذا المعنى على وجه التحديد ، هو الذي يوجب على الانسان ان يكون متواضعا ، اذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس ، تنتمي في الأعم الأغلب الى توافقات اجتماعية ، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة ، فلم نبتكرها بأنفسنا ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة ، كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل ، فما هو الميزان الذي نرجع اليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب او ذاك ، قبل ان نقارن بينهما... اليس هو ذات الميزان الذي تشكل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟.

منذ نعومة أظفاره ، يتشرب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة ، والاخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة ، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته ، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش ، والمعايير التي يرجع اليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد الى جماعة جديدة ، كأن يتحول من دين الى آخر ، او من مذهب الى آخر ، أو يهاجر من بلد إلى آخر ، فانه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته ، أي منظومته العقلية ، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة ، أي انه – بعبارة أخرى – ينتقل من تقليد الى تقليد. هذا حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة وليس الجميع. لأن هذا الكوكب يحوي أيضا أقلية صغيرة من السكان ، يمثلون "العقل المنشيء" بحسب تعبير اندريه لالاند ، او العقل النظري بحسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه انه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية ، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي /المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور. لكن يهمني الإشارة الى فارق هام بين تعريف لالاند وتعريفات من سبقه. فهؤلاء قرروا ان العقل "نظري" بمعنى انه منشغل بمعادلات ذهنية ، لا يترتب عليها أي عمل ولا ترتبط بقضايا الواقع ، ربطا مباشرا. اما لالاند فقال انه "منشيء" بمعنى انه يخلق الأفكار الجديدة من عدم ، او انه ينطلق من فكرة قائمة ، فيتجاوزها الى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ ، أي انه يخلق المسافات والمساحات ويملأها بالسكان ، أي الأفكار.

على أي حال فان تلك الأفكار النظرية ، هي التي تشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع ، مثل الرياضيات التي على ارضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والاحصاء وامثالها. واظن ان الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.

الخميس - 24 جمادى الآخرة 1446 هـ - 26 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5095226

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

 

 

 

 

 

 

 

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

  في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خم...