12/12/2024

العقل العملي

 وفقا لشروحات اندريه لالاند ، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي ، فان "العقل المُنشأ" بضم الميم ، هو خلاصة الحكمة والتجربة الاجتماعية ، وهذا ما يسميه الناس عقلا. لفهم الفكرة ، تأمل في مغزى إشارات الناس حين يقولون "فلان عاقل" او يتحدثون عن "كلام عاقل" او "تصرف عقلاني" وأمثالها.

مغزى هذا الكلام ان الناس يشيرون الى رضاهم عن الشخص او فعله او قوله. لكن متى يرضى الناس عن شخص .. اليس حين يفعل شيئا يجاري فعلهم او يقول مثل كلامهم ، في محتواه او شكله ، او حين يلبس مثل لبسهم او يأكل مثل أكلهم.. الخ.

لتعرف الفرق .. افترض ان شخصا لبس بنطلون جينز ممزق ، كالذي يشيع لبسه بين الشباب اليوم ، وذهب لمقابلة وزير او مدير كبير ، فهل تتخيل ان الأشخاص المسؤولين عن إدخاله وترتيب مقابلته ، سيسمحون له بالدخول؟. لماذا لا يعتبرون الامر طبيعيا ، ويقولون ان اللباس لا يدل على صاحبه؟. الجواب ببساطة انهم سيعتبرونه غير عقلاني ، لأنه لا يلتزم بأعرافهم ، أي لا يشبههم. بل يبدو شاذا وغريبا. وربما يقولون انه "غير لائق". لماذا يا ترى اعتبروه غير لائق ، غير لائق بمن يلبسه او بهم ، او بالثقافة التي ينتمون اليها؟.

حسنا.. ماذا عنك؟.

لو كنت مدعوا للقاء شخصية رفيعة ، بل حتى لمقابلة وظيفية ، هل ستلبس الجينز الممزق ، ام ستختار اللباس المتعارف في البلد... ما الذي يدعوك لهذا الاختيار وليس ذاك؟.

مسايرة الجماعة هي ابرز وظائف "العقل العملي". والعقل العملي ابرز تجسيدات "العقل المُنشأ". وفقا لرؤية اندريه لالاند ، فان الجانب الأعظم من عمل العقل ، مكرس لترسيخ علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي ، وذلك باستلهام الثقافة والتجربة الاجتماعية ، وتحويلها الى قواعد سلوكية يتبعها الفرد بشكل عفوي. وعلى هذا الأساس يتحول الفرد الى "عضو" مندمج في البيئة الاجتماعية. ومن الامثلة على هذا الأشخاص الذين يهاجرون الى بلد اجنبي ، فيجتهدون في تعلم لغته ، وتقليد لهجة سكانه ، حتى يصبحوا مثلهم تماما ، لأن الانسان – بطبعه – لا يحب ان يفرز عن الجماعة ، او يعامل كشخص مختلف او غريب.

لعل الشرح السابق يجيب أيضا على السؤال المتداول: لماذا يلتزم قومنا بالطابور ونظام المرور ونظافة الحدائق ، حين يسافرون الى البلدان الأجنبية ، ولا يفعلون مثل ذلك حين يكونون في بلدهم. تتعلق المسألة بفهم توقعات الآخرين ، وتقديم الانسان نفسه لهم على نحو يتماشى مع تلك التوقعات.

لعلنا نلاحظ هذا المسار بوضوح في حالة المهاجرين الى مجتمعات أجنبية. لكنه يحصل – وان لم تلاحظه – في مجتمعك الخاص أيضا. أنا وأنت نعمل دون كلل لاقناع المجتمع المحيط بنا ، بأننا مؤهلون لعضويته ، كما نتجنب كل فعل يؤدي الى انفصالنا عنه او استبعادنا منه.

كرس اندريه لالاند معظم نقاشه عن "العقل المُنشأ" لتأكيد ان وظيفته المحورية ليست صناعة الأفكار الجديدة ، بل التواصل مع المحيط الاجتماعي بما فيه من بشر وأفكار وتوقعات. ينجز العقل هذه المهمة باستلهام الثقافة السائدة ، ثم إعادة انتاجها على نحو يتقبله المحيط كدليل على كفاءة صاحبه. تبدأ هذه الممارسة في وقت مبكر نسبيا ، لكنها تتصاعد عند نهايات مرحلة المراهقة وبداية الرجولة ، ولا سيما في سن العمل.

تفاعلات العقل في هذه المرحلة ، تسهم في انشاء ما نسميه "العرف العام" او "عرف العقلاء". ويشير مفهوم "العرف" الى المتوسط العام لمواقف الجمهور ، تجاه كل قضية من القضايا التي تبرز على مسرح الحياة اليومية. ولمن لا يعرف أهمية العرف ، فهو الوسيلة التي تفسر وفقها تطبيقات القانون العام واحكام الشريعة. ولتفسيراته – في غالب الأحيان – قوة القانون. وقد اتخذ في الثقافة الغربية أساسا لتحديد ما يعتبر حقا او باطلا.

هذا ببساطة هو "العقل المُنشأ" بضم الميم ، وهو يطابق – في رأيي – "العقل العملي" وفق التسمية القديمة.

الشرق الأوسط الخميس - 11 جمادى الآخرة 1446 هـ - 12 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5090798

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العقل العملي

  وفقا لشروحات اندريه لالاند ، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي ، فان "العقل المُنشأ" بضم الميم ، هو خلاصة الحكمة والتجربة ا...