د . محسن كديور
( 2 ) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية
مفهوم
الديمقراطية الدينية او الاسلامية واحد من المفاهيم التاسيسية في الفكر السياسي
للاسلام المعاصر لا سيما في ايران . وبالنظر الى حداثة المفهوم فانه يحتاج الى
ايضاح ابعاده ومبانيه وما يترتب عليه من انعكاسات ، طمعا في تحديد القواسم
المشتركة بينه وبين المفاهيم السياسية الاخرى وخطوط التمايز التي تفصله عنها .
"الديمقراطية
الاسلامية" عنوان لنظام سياسي يناظر النماذج الاخرى للديمقراطية مثل الديمقراطية
الليبرالية ، الديمقراطية الاجتماعية (او الاشتراكية) ، المسيحية ، المباشرة . .
الخ . وهو يشاركها في بعض الخصائص ويتمايز عنها في خصائص اخرى . يستحق كل واحد من
هذه النماذج اسم "الديمقراطية" تبعا لتوفر منظومة خاصة من المباني
والمباديء والمعايير التي تحدد كيفية عمل النظام السياسي . هذه المنظومة هي صفة
مشتركة بين جميع الديمقراطيات على اختلاف انواعها . ثمة – اضافة الى ذلك – خصائص
يمتاز بها كل نموذج ديمقراطي عن النماذج المماثلة ، هي انعكاس للهموم او الخصائص
الثقافية والاجتماعية للقطر الذي يطبق فيه هذا النظام . من هنا فان فهم
"الديمقراطية الاسلامية" يتوقف على وضوح المشتركات التي تجمعها مع
الديمقراطيات الاخرى من جهة ووضوح الخواص التي تتميز بها عنها .
سؤال الديمقراطية
الديمقراطية
هي جواب عن سؤال محوري في الحياة السياسية ، يمكن وضعه على صور مختلفة مثل : ما هو
النظام الافضل لادارة البلاد والمجتمع ؟ . او : من هو المسؤول عن تدبير الامور في
المجال العام ؟ . او : من الذي يتخذ القرار فيما يتعلق بامور البلاد ككل ؟ .
بتعبير اخر : من هو صاحب السلطة العامة في البلاد ؟ .
ثمة
ثلاثة اجوبة محتملة على هذا السؤال:
د. محسن كديور (يمين) مع المرحوم آية الله منتظري (يسار) |
الجواب
الاول : نظام حكم فردي autocracy
يقوم على راسه شخص واحد يمسك بكل السلطات ويتخذ القرارات نيابة عن الجميع لانه
اكثرهم علما او فهما ، او لانه اقدر من بقية الناس على تشخيص مصالح المجتمع والخير
العام للشعب . او ربما لانه الشخص الاقوى والاكثر حيلة ، اي الاقدر على الغلبة .
وابرز خصائص هذا النوع من الحكم هي أ) تنحصر سلطات الدولة جميعها وتتركز في شخص
الحاكم الذي يستمد شرعية حكمه من ذاته . ب) سلطة الحاكم الفرد مطلقة ولا تخضع
للقانون كما انه شخصيا يعتبر فوق القانون ، فلا يخضع لرقابة الشعب ولا اي جهة
رقابية اخرى ، ولا يتعرض للنقد او المحاسبة ، اي انه ليس مسؤولا امام احد . ج) يصل
الحاكم الفرد الى منصبه بالتغلب والاستيلاء ، او بالوراثة ، او من خلال الاعراف
الاجتماعية والتقاليد الدينية ، وليس بانتخاب الشعب او اختياره . وبقاؤه في هذا
المنصب غير محدود بزمن معين ، ولا يتخلى عنه طوعيا واختياريا .
الجواب
الثاني : نظام حكم نخبوي ارستقراطي aristocracy ، تهيمن على السلطة فيه مجموعة محددة من الاشخاص او صنفا معينا من
اصناف المجتمع ، لأن اعضاء هذه المجموعة اقرب الناس الى الكمال الانساني ، او
باعتبارهم ارقى نسبا او اكرم عائلة ، او لتخصصهم في علم من العلوم كالفلسفة او
الفقه ، او لكونهم اغنى الناس واكثرهم املاكا . بعبارة موجزة فان مفهوم حكومة
النخبة يعني حصر السلطة في يد طبقة من المجتمع تعتبر نفسها الطبقة الاعلى بين سائر
الناس . من هنا فان بقية شرائح المجتمع وطبقاته لا تستطيع المشاركة في الحياة
السياسية مشاركة ذات تاثير . ولا يخضع اعضاء الحكومة لرقابة الشعب او محاسبته ،
وهم ليسوا مسؤولين امامه ، بل امام الطبقة الحاكمة فقط ، وهي المخولة بمراقبة
عملهم ومحاسبتهم والتاكد من انسجام سياساتهم مع توجهاتها .
الجواب
الثالث : نظام تمثيلي ديمقراطي representative democracy يؤمن المشاركة المتساوية لجميع افراد الشعب في صناعة السياسة
واتخاذ القرار ، والوصول الى المناصب العامة او انتخاب من ينوبون عنه فيها . تقوم
الديمقراطية على مبدأ اساسي هو حاكمية الشعب . بمعنى ان الغرض الاول للعمل السياسي
وممارسة السلطة هو تحقيق رضا العامة ، وليس تامين رضا شخص واحد او طبقة خاصة .
وينظر الى شاغلي المناصب السياسية والادارية كوكلاء او ممثلين للشعب ، لا كسادة له
او قيمين عليه . وهم خاضعون في هذا العمل لرقابة موكليهم ومسؤولون امامهم ، وهم
يحصلون على مناصبهم هذه بارادة الناس ورضاهم ، كما يتركونها لغيرهم بنفس الطريقة .
القوانين السارية في المجتمع هي الاخرى ثمرة للارادة العامة وقائمة بوجودها وهي
تستمد مشروعيتها وقوتها من قبول الشعب بها ، وبالتالي فان وضعها او تغييرها او
استبدالها يتم وفقا لنفس الطريقة وعلى ذات الاساس .
من
الواضح - بناء على هذه المواصفات - ان كلا من نماذج السلطة الثلاثة لا يقبل الجمع
مع الاخر . ويجب التاكيد خصوصا على ان الثالث ، اي النموذج الديمقراطي لا يقبل
الجمع مع الثاني (نشير الى هذا خصوصا لان لدينا في ايران من يدعي هذه الامكانية) ،
وهو بطبيعة الحال لا يقبل الجمع مع الحكم الفردي . النظام الديمقراطي اذن هو نظام
يقوم على مبدا حاكمية الشعب ، حيث يستمد القانون مشروعيته من الارادة العامة
الصريحة ، كما يحصل الحاكمون على سلطتهم من خلال التفويض الشعبي .
يبدو
ان كل الحكومات في العالم تتبع واحدا من النماذج الثلاثة السابقة ، فهي اما حكومة
فرد او حكومة اقلية او حكومة الشعب . يميل بعض الناس الى القول بامكانية وجود
نموذج رابع هو الحكومة الالهية او حكومة الدين او ربما حكومة الفقه . لكني لا ارى
هذا النموذج ممكنا او قابلا للتحقيق . فليس من المتوقع ان ينزل الخالق سبحانه عن
عرشه كي يمارس السلطة السياسية بنفسه . وعندئذ فان اي صورة من صور هذا النموذج سوف
تتجسد في نظام بشري يقوم عليه فرد واحد او افراد معدودون ، يمارسون الحكم
باعتبارهم وكلاء او ممثلين لله سبحانه . فاذا قلنا بان الله قد عين شخصا واحدا كي
ينوب عنه في تدبير امور مخلوقاته ، فنحن اذن نتحدث عن حكومة هذا الشخص ، اي الحكم
الفردي autocracy ،
وربما نضيف اليه وصف الرباني او الديني للاشارة الى مصدر سلطته ، فنقول مثلا الحكم
الفردي الديني theo-autocracy .
ومن هذا القبيل حكومة البابا عند المسيحيين الكاثوليك وحكم الخليفة عند المسلمين
السنة وحكم الولي الفقيه عند الشيعة .
اما
اذا قلنا بان الخالق قد فوض تدبير الارض في كل زمان الى صنف خاص من علماء الدين
كالفقهاء مثلا ، فنحن نتحدث اذن عن حكومة النخبة الدينية theo-aristocracy مثل حكومة اباء الكنيسة او حكومة الروحانيين او الفقهاء . واذا
قلنا بان يد الله مع الجماعة ، وان ارادته ورضاه تتجسد في ارادة الامة ورضاها ،
وان الخالق سبحانه قد فوض الى البشر حق تقرير مصيرهم السياسي ، فاننا نتحدث اذن عن
نوع من الديمقراطية يمكن ان نصفه بالديمقراطية الدينية theo-democracy . من الواضح اذن ان الحكومات الثيوقراطية او الدينية لا تخرج عن
واحد من تلك النماذج الثلاثة المذكورة اعلاه . ومن هنا ايضا فانه لا يمكن وضع
الحكم الديمقراطي في مقابل الحكم الديني ، او وضع حاكمية الشعب في مقابل حاكمية
الله . الديمقراطية او حاكمية الشعب تقع في مقابل حاكمية الفرد او الاتوقراطية كما
تقع في مقابل حكومة النخبة او الارستوقراطية . غني عن القول ان كلا من انواع
الحكومة الثلاثة يمكن ان يكون دينيا كما يمكن ان يكون علمانيا .
الديمقراطية والشعبوية
الديمقراطية ليست مجرد اسم او وصف يضاف الى اي
نظام سياسي بغض النظر عن محتواه . ثمة كثير من الانظمة الديكتاتورية والاحزاب
الفاشية تصف نفسها بالديمقراطية ، لكنها لا تستحق هذا الوصف ، لانه لا يعبر عن
محتواها وحقيقتها . يستحق النظام او الحزب او المجتمع وصف الديمقراطية اذا تبنى
المباديء الاساسية التي يقوم عليها هذا النموذج ، واحترم المعايير الضرورية للعمل
السياسي الديمقراطي . وكما لا يصح اطلاق وصف "الديمقراطي" على اي نظام ،
فانه لا يصح كذلك اطلاق وصف "الاسلامي" عليه ما لم يكن ملتزما بالمعايير
الاساسية للحكم الديني . كي تكون الحكومة ديمقراطية – دينية ، فيجب ان تتوفر فيها
معايير النموذج الديمقراطي جنبا الى جنب مع معايير الحكم الديني .
النموذج
الديمقراطي هو منظومة من المفاهيم والمعايير واليات العمل التي جربها العالم وآمن
بفضائلها وفوائدها . وهي بهذه الاجزاء والاركان تعتبر كلا ضروريا لا يمكن التصرف
فيه وتغيير عناصره من دون المس بالاغراض التي يرمي اليها ، وبالتالي الخواص التي
اعطته قيمته . الديمقراطية ليست عنوانا لاطار فارغ كي نملأه بما نشاء من افهامنا
او مصالحنا او رغباتنا . بل هي نموذج واضح الحدود والاركان ومطبق في الكثير من
بلاد العالم ، وقد ترسخ واتضحت قسماته وضروراته من خلال التجارب الكثيرة والنقد
والمراجعة . ونتيجة لهذا المسار الطويل فانه لم يعد مفهوما غائما او ملتبسا او
محتاجا الى اعادة تعريف ، كما اصبح من اليسير مقارنة تطبيقاته مع المباديء النظرية
والمفاهيم التي ينطوي عليها النموذج ويسعى لتجسيدها ، والعناصر التي تميزه عن سواه
من انظمة الحكم . على هذا الاساس فان سعينا لصياغة نسخة اسلامية من هذا النموذج لا
يستهدف استبدال اركانه ومبادئه ومعاييره الاساسية ، اي العناصر التي يجب ان تتوفر
في كل نموذج ديمقراطي مهما كانت نسبته او صفته.
من
المهم ايضا الاشارة الى الفارق الجوهري بين الديمقراطية والشعبوية . ينبغي الحذر
من الخلط بين الديمقراطية اي النظام السياسي القائم على حاكمية الشعب ، وبين الصور
العديدة من الحكم الشعبي ، اي الانظمة التي تبدو عليها بعض ملامح الديمقراطية ،
لكنها في الجوهر حكومات فردية او استبدادية . قد نجد حكومة متساهلة ، يتقرب
رؤساؤها الى الشعب او يمتدحونه او يميلون الى ملاينته وربما خداعه . الحكم الشعبي
قد ينطوي على حسن معاملة مع الشعب ، او تلطفا وتادبا في السلوك ، او رحمة بضعفاء
الناس ، او مسايرة لرغباتهم او مداراة لهم . ثمة زعماء لا يرغبون في التعامل الفظ
والخشن مع جمهورهم ، ويفضلون الحكم باللين على الحكم بالعنف والشدة . لقد عرف
التاريخ الكثير من هذا النوع من الحكومات ، وقد التفت اليها علماء السياسة ووصفوها
وحللوا طبيعتها وقدموا نماذج تحليلية لكل منها . من اشهر تلك النماذج وربما اكثرها
اثارة للالتباس هو النموذج المعروف بالحكم الشعبوي populist . الانظمة الشعبوية تمجد الشعب او الجماهير وتبالغ في تصوير مطالب
الشعب ومراداته كما لو انها عين الحق والحقيقة . لكن ما يهم الباحث ليس هذا
التعظيم اللفظي ، بل كيفية انعكاس "الارادة الشعبية" على السياسات
والبرامج والقرارات وتركيب السلطة . ما يميز بين انواع الحكومات هو كيفية تجسيد الارادة
الشعبية ، ومن الذي يقيم محتواها ويختار العناصر التي سوف تدخل حيز التطبيق من
بينها . في النموذج الشعبوي يعين شخص او مجموعة من الاشخاص او طبقة معينة انفسهم
متحدثين باسم الشعب ، ويقررون انهم هم المعنيون بتحقيق الارادة الوطنية والمطالب
العامة او ضمان الخير العام ومصالح الشعب ، على النحو الذي يشخصونه ويرجحونه .
ويحصرون دور الشعب في الموافقة والتصفيق والخروج الى الشوارع في مظاهرات التاييد
وتاكيد الولاء . هذا النموذج لا يمكن اعتباره ديمقراطيا حتى لو حصل على تاييد
الجمهور . وتمتليء كتب التاريخ بقصص العديد من الزعماء الذين سلكوا هذا السبيل ،
وادعوا انهم اقدر على تامين مصالح الشعب من الشعب نفسه ، لكنهم – في الوقت نفسه –
لم يسمحوا للشعب بمراقبتهم ومحاسبتهم ، او تقرير ما يريد ابناء الشعب ان يفعلوه
لانفسهم ومستقبلهم . في حقيقة الامر فقد ظلموا الشعب وقهروه تحت لافتة الحكم باسمه
او السعي لخيره . هذا النوع من الحكومات يقود بالضرورة الى خداع الجمهور او ما
يعرفه علماء السياسة بالديماغوجية demagogy . الديماغوجية هي ببساطة استغلال احاسيس الشعب وهمومه وتطلعاته ،
واستغلال معتقداته ورموز ثقافته وعصبيته ، من اجل المصالح الخاصة بالحاكم
اوالمجموعة الحاكمة . وربما تجد حكاما من هذا النوع يتحدثون عن الديمقراطية او
يسبغون هذا الوصف على انظمتهم ، لكن ما يقصدونه في الحقيقة ليس اكثر من الحكم
الشعبوي ، البعيد عن الديمقراطية كل البعد .
المباديء الكبرى للديمقراطية
السر
وراء الميل العام لشعوب العالم المعاصر الى تبني النموذج الديمقراطي يكمن في
اكتشافهم لابرز ثمراته ، اعني بها الارتفاع بكفاءة الادارة السياسية الى اعلى
مستوى ممكن وتقليل احتمالات الخطأ . هذه المعادلة الذهبية تعتمد على توسيع مشاركة
الشعب الى اعلى نسبة ممكنة ، وخفض التاثير الشخصي لفرد معين او بعض الافراد على
القرار السياسي الى اقل نسبة ممكنة . تؤدي المشاركة الشعبية الى تنوع المصادر
المؤثرة في صناعة القرار ، ومساهمة عدد اكبر من العقول في وضع السياسات والتخطيط
للمستقبل . كما تقود ايضا الى اعادة توزيع مصادر القوة والسلطة في المجتمع على نحو
سليم ومتساو ، وتحول دون حصرها في نطاقات صغيرة او محدودة . يتعلق مفهوم
الديمقراطية اذن بطريقة اتخاذ القرار في المجال العام ، وجوهر هذا المفهوم هو
الرجوع الى المجتمع في القرارات التي تؤثر عليه . بكلمة موجزة فان الديمقراطية هي
الحكومة التي تؤمن مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات المتعلقة بهم جميعا ، بصورة
مباشرة او عن طريق ممثليهم .
يقوم
النظام السياسي الديمقراطي على عدد من المباديء الكبرى ، هي بمثابة ارضية مفهومية
وقيمية تحمل بنيته ومؤسساته ، واهمها :
أ )
اصل المساواة : ويقصد بها المساواة المدنية في الجانب السياسي والحقوقي ، فجميع
افراد الشعب وشرائحه وطبقاته يتمتعون بحق متساو في الوصول الى المناصب السياسية
والسيادية وجميع الوظائف العامة الاخرى . وكذلك التدخل في الامور العامة والمشاركة
في صناعة القرار او التاثير عليه . هذه المساواة مضمونة ومحمية بالقانون ، بحيث لا
يمنح احد او فريق محدد امتيازات تفضيلية على غيره في اي من الجوانب المذكورة .
الفرضية الاصلية في الديمقراطية هي ان ممارسة السلطة ليست حقا خاصا لاحد على وجه
التحديد ، وانه لا يحق لاي مجموعة او صنف اجتماعي ادعاء هذا الحق بناء على كونهم
ارفع من سائر الناس تكوينيا او فكريا . المساواة في الفرص تتطلب عدم التمييز بين
افراد المجتمع من اي وجه ، ولا سيما التمييز على اساس العرق او القومية او الدين
والمذهب ، او العقيدة السياسية .
ب)
اصل سيادة الشعب : المصدر الوحيد للشرعية السياسية هو ارادة الشعب . ولا يوجد اي
مصدر اخر للسلطة غير اجماع ورضا الشعب . يصل الحاكمون الى مسند السلطة بارادة
الناس ويرحلون عنها بارادة الناس .
ج )
اصل المشاركة والرضا العام : يعتمد النظام الديمقراطي على مشاركة الشعب في جميع
مستويات القرار وتامين الرضا العام في كل الامور السياسية . ويعتبر رضا الجمهور
معيار سلامة القرار في الحكومة الديمقراطية .
د )
اصل سيادة القانون : يطيع الافراد القوانين والانظمة التي وضعوها بانفسهم او رضوا
بها . كي تكون الحكومة ديمقراطية فيجب ان تكون سلطاتها محدودة ، وخاضعة للقانون .
وهذا يتطلب وجود دستور يحدد سلطات الحاكم ، كما يوضح كيفية تعديل او تغيير
القوانين بواسطة ممثلي الشعب .
هـ)
حقوق الانسان : وتشمل هذه مجموعة الحقوق "الطبيعية" التي يتمتع بها
الناس بحكم انسانيتهم ، وكذلك الحقوق "المدنية" التي يكتسبها الافراد
بحكم انتمائهم للنظام الاجتماعي والسياسي . ضمان هذه الحقوق هو معيار عدالة
القانون وسلامة المجتمع ، وابرز تلك الحقوق هي الحرية الفردية ولا سيما حرية
التعبير .
هذه
الاصول الخمسة تمثل مباديء اولية ومضمونا قيميا للنظام ، وهي التي تميز
الديمقراطية عن غيرها . اما تطبيق النموذج الديمقراطي في الحياة السياسية الواقعية
فيحتاج الى عدد من الاليات التي تجسد تلك المباديء والقيم ، من اهمها :
1-
عقد الانتخابات العامة الحرة والعادلة بصورة منتظمة . ويجب ان يضمن القانون حق
المشاركة لجميع افراد الشعب في الترشح والتصويت ، وحرية التنافس بينهم .
2-
وضع نظام مؤسسي لضمان العلنية في ممارسة الحكم ، بحيث يستطيع افراد الشعب معرفة ما
تفعله حكومتهم وكيف تتخذ قراراتها . العلنية او الشفافية هي العامل الحاسم في
تمكين الشعب من مراقبة الحكومة ومحاسبة مسؤوليها .
3-
توفير الاساس القانوني لتامين وحماية الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين وحرياتهم
الفردية ، والفصل بين "المجال العام" الذي تعمل فيه الدولة
و"المجال الخاص" بالحياة الشخصية للافراد التي لا يجوز للدولة التدخل
فيها .
4-
توفير الاساس القانوني لتشجيع وحماية المجتمع المدني بمختلف تمثلاته وتنظيماته ،
وتمكينه من القيام بدوره كوسيط بين السلطة والمجتمع من جهة وكتعبير عن ارادة
المجتمع ووسيلة لتعزيز مشاركته في صناعة السياسة والقرار وحماية حريات الافراد
وحقوقهم .
على
اي حال فان جوهر الديمقراطية هو المشاركة العامة ، وبمقدار سعة هذه المشاركة تتوسع
الديمقراطية والعكس بالعكس . يمكن قياس مستوى الممارسة الديمقراطية في مجتمع ما
بالنظر الى ثلاثة ابعاد متمايزة :
أ)
السعة الافقية للمشاركة الشعبية في القرار السياسي ، اي التناسب بين عدد الافراد
المشاركين في القرار السياسي وبين مجموع القادرين على المشاركة . كمثال على ذلك
فان سعة المشاركة تظهر من خلال مقارنة عدد المشاركين في الانتخابات العامة مع عدد
المؤهلين او المسجلين في سجلات الناخبين . كما تظهر من خلال المقارنة بين القوة
البشرية المنضوية في اطار احزاب او مجموعات منظمة والعدد الاجمالي للسكان .
ب)
عمق المشاركة التي تظهر من خلال القياسات الكيفية للمشاركة الشعبية . مثل المقارنة
بين تاثير البرامج والسياسات وبين تاثير العلاقات الشخصية على خيارات المواطنين
السياسية ، ولا سيما في مواسم الانتخاب . يمكن معرفة ذلك بمقارنة عدد المنتخبين
على اسس قبلية او طائفية مثلا وعدد المنتخبين على اساس برامج سياسية . اضافة الى
مساهمة منظمات المجتمع المدني في نقد ومراجعة سياسات الدولة واقتراح سياسات وبرامج
بديلة ، وما اذا كان نشاطها محصورا في المواسم الانتخابية او كان نشاطا حيويا
متواصلا . ومن بين القياسات الكيفية مراقبة التغير في تركيب النخبة السياسية ولا
سيما توسعها بانضمام افراد جدد وتوجهات سياسية وثقافية جديدة ، فضلا عن سعة تمثيل
المكونات والاطياف الاجتماعية المختلفة في اجهزة الدولة .
ج)
تقدم العملية الديمقراطية التي تظهر من خلال قياس التناسب بين الحقول وموضوعات
العمل التي يتخذ فيها القرار بمشاركة الشعب الى مجموع الحقول والموضوعات في المجال
العام . كمثل على هذا فلو ان 20% من موضوعات الحقل العام تتقرر بمشاركة 80% من
المواطنين ، فان الديمقراطية في هذا المجتمع تعتبر متاخرة . الوضع الامثل هو ان
تتخذ القرارات في 100% من موضوعات الشأن العام بمشاركة كل الشعب . او على الاقل مع
فتح المجال وتوفير الفرص لهم للمشاركة . وعلى هذا الاساس يمكن وصف المجتمعات بانها
متطورة او متخلفة سياسيا على ضوء ارتفاع او انخفاض معيار المشاركة في القرار ، حيث
تنقسم الى غير ديمقراطية او ديمقراطية جزئيا او ديمقراطية كاملة بحسب نسبة
الموضوعات التي يتخذ فيها القرار مع توفر المشاركة الشعبية .
الديمقراطية والايديولوجيا
الديمقراطية
نظام عمل system ،
يمكن ان يستخدم من جانب ايديولوجيات مختلفة ، كما يمكن ان يحمل صفات ايديولوجية
مختلفة . في كل الاحوال فان عنصر الايديولوجيا يضيف ما يمكن وصفه بلمسة محلية او
صبغة خاصة تجعل اليات الديمقراطية اكثر قربا من البيئة المحلية التي تطبق فيها ،
واقدر على الاندماج في نسيجها الثقافي . بعبارة اخرى فان اضافة اللمسة
الايديولوجية لا تعني استبدال آليات الديمقراطية ومبادئها الاساسية بأخرى مستقاة
من الايديولوجيا ، لان النظام سيفقد في هذه الحالة صفته الديمقراطية . ونجد في
عالم اليوم نماذج ديمقراطية عديدة ، تتمايز عن بعضها بتركيز النموذج على خواص
معينة او تعديل سلم اولويات النظام بحسب ما يراه اصحابه من تمايز في حاجات مجتمعهم
. كمثال على ذلك فان الفلسفة السياسية الليبرالية او الفلسفة البراغماتية تستعمل
الديمقراطية لانتاج ما يعرف اليوم بالديمقراطية الليبرالية التي تركز على الحريات
الفردية كاولوية سابقة للعدالة الاجتماعية . وحين تستعمل الديمقراطية من جانب
الاشتراكيين فانها تنتج نظام الديمقراطية الاجتماعية او – في مراحل اخرى -
الديمقراطية الاشتراكية ، الذي يركز على الدور المركزي للدولة في توزيع الثروة والموارد
العامة ، وضمان مستوى معيشي معقول يتساوى فيه الجميع . وبنفس الطريقة فان استخدام
الديمقراطية على ارضية الثقافة المسيحية او الرجوع الى اصولها الدينية كمصدر الهام
للنظام ، سوف ينتج ذلك النوع الذي تعرفه اوربا اليوم باسم الديمقراطية المسيحية
والذي يتمثل غالبا في الاحزاب الديمقراطية المسيحية (في ايطاليا والمانيا وفرنسا
مثلا) .
الديمقراطية الدينية : الفرضيات الاولية
الديمقراطية
الدينية او – بتعبير ادق - الديمقراطية الاسلامية ، هي كما اشرنا سابقا ، مفهوم
مركب من جزئين ، جزء يتعلق بطبيعة النظام السياسي وكيفية عمله ، وجزء يتعلق
بالثقافة التي يقوم في اطارها والقيم التي تشارك في تشكيل هويته الخاصة كنظام
سياسي محلي ، اي منبعث من البيئة الخاصة للمجتمع المسلم . في هذا السياق فمن المهم
فهم الفرضيات الاولية التي ينطلق منها هذا التركيب ، كي تتضح حدوده والخطوط التي
تميزه عن غيره من النماذج .
الفرضية
الاولى تتعلق بالتمايز بين الدين والديمقراطية . يجب
ان لا يتوهم القاريء بان الديمقراطية هي عين الدين او ان الدين هو عين الديمقراطية
. الديمقراطية نظام عمل قابل للاشتغال في نطاق خاص ، هو الادارة السياسية للمجتمع
. بينما الدين هو منظومة قيم يمكن ان تكون مضمونا لمختلف جوانب الحياة ، بما فيها
النظام السياسي الديمقراطي . لكن على رغم هذا التمايز فان الدين والديمقراطية ليسا
متنافرين ، بل يتمتع كل منهما بقابلية للتوافق مع الاخر . من الانصاف التاكيد على
ان دعوى التوافق تفترض قراءة معينة للدين ، وليس كل قراءة ، فمن الواضح ان هناك
قراءات واجتهادات في الدين تتعارض مع الديمقراطية . من هنا فان من الاسلم القول
بان الدين المقصود ، اي الذي يمكن ان يقوم على ارضيته نظام ديمقراطي ، هو الدين
الذي لا يتعارض – على اقل التقادير - مع اصل ومبررات سيادة الشعب . نضيف الى هذا
ان التوافق بين الدين والديمقراطية لا يقود بالضرورة الى ديمقراطية دينية ، بعبارة
اخرى فان الديمقراطية الدينية هي مقولة يتجاوز مداها ومتطلباتها وانعكاساتها مجرد
التوافق بين الدين والديمقراطية كما سيأتي لاحقا .
الفرضية
الثانية هي ان حاكمية الشعب الدينية او الديمقراطية
الاسلامية تمثل مفهوما متمايزا عن ديمقراطية المتدينين . لو ان مجتمعا متدينا تبنى
الاليات الديمقراطية لادارة اموره العامة من دون ان يضيف اي عنصر جديد على اصول او
مباني اومعايير نموذج الحكم الديمقراطي المتعارف في العالم ، فان نظام الحكم
الناتج يمكن وصفه بديمقراطية المتدينين . وهذه كما سلف مقدمة لحاكمية الشعب
الدينية والديمقراطية الاسلامية ، لكنها متمايزة عنها وليست هي ذاتها .
الديمقراطية الدينية او الاسلامية هي مقولة تتجاوز مفهوم ديمقراطية المتدينين .
وصف "الديني" او "الاسلامي" في هذا المفهوم هو وصف
للديمقراطية وليس المجتمع الذي يتبناها . بمعنى ان الديمقراطية الاسلامية هي نوع
من انواع الديمقراطية ، يضيف الى مفهوم الديمقراطية الاصلي لونا ورائحة اسلامية ،
ويزيد في هذا المفهوم او ينقص منه بعض المباني والمعايير بالرجوع الى الثقافة الاسلامية
. وبالتالي فان المفهوم الجديد قد يوسع بعض جوانب المفهوم الاصلي ، او يضيق بعضها
الاخر كي تتطابق مع مباديء وضرورات الشريعة الاسلامية . بديهي ان العامل الحاسم
وراء اتباع هذا النموذج من الديمقراطية وتطبيقه في الحياة السياسية الفعلية ، هو
اقتناع المسلمين به ورغبتهم فيه ، وبالتالي فانه يشمل مفهوم "ديمقراطية
المتدينين" ، لكنه يتجاوزه الى ما هو ابعد . بكلمة موجزة فان "ديمقراطية
المتدينين" هي نموذج يتضمن اليات عمل ديمقراطية محايدة وفارغة من المضمون
القيمي الديني ، يتبناها مجتمع مسلم او متدين . اما الديمقراطية الدينية ، فهي
نموذج يتضمن اليات عمل ديمقراطية ، كما ينطوي في الوقت نفسه على منظومات قيمية
ومعايير مستمدة من الشريعة الاسلامية ، ويتبناه ايضا المجتمع المسلم او المتدين .
الدين المناسب للديمقراطية
من
نافل القول ان عالم الاسلام يعج بالعديد من القراءات والاجتهادات في الدين . من
البديهي ان بعض هذه القراءات لا يقبل بالديمقراطية او حاكمية الشعب او الديمقراطية
الاسلامية ، بل يزعم ان اجتماع حاكمية الشعب مع الدين مستحيل لانه جمع بين نقيضين
، كما يزعم ان الديمقراطية لا تتلاءم – مبدئيا - مع الاسلام . ولهذا فمن المفيد
التطرق الى مواصفات القراءة الدينية التي ترفض الديمقراطية ، ونقارنها بتلك التي
سنسميها القراءة الديمقراطية للدين .
القراءة الدينية الرافضة للديمقراطية :
ظهرت
هذه القراءة منذ البدايات الاولى لتعرف العالم الاسلامي على مفهوم الديمقراطية .
وهي ترى ان اتباع الاسلام يعني الخضوع لحاكمية الله والتسليم لامره ونهيه ، اما
الديمقراطية فهي حاكمية الرغبات والشهوات ، والتسليم لاهواء الاكثرية الذين يصفهم
القرآن بمثل الاية المباركة "اكثرهم لا يعقلون" او "لا
يؤمنون" وما يماثلها . ويقول اصحاب هذا المذهب ان المجتمع الديني ينبغي ان
يدار طبقا للمعايير الالهية . وهي معايير محددة وثابتة ، ولا يمكن تغييرها بناء
على راي الجمهور القليل المعرفة بمبانيها وادلتها الشرعية . الاسلام ايضا هو علم
لادارة المجتمع وحياة الانسان من المهد الى اللحد . وهو واسع وشامل لم يهمل جانبا
من جوانب الادارة الاجتماعية كي يحتاج تكميله الى مناهج البشر واختراعاتهم مثل
الديمقراطية . بعبارة اخرى فان الدين كامل وليس ناقصا كي يمد يده الى الديمقراطية
ليستعين بها في ادارة المجتمع . من ناحية اخرى فان الديمقراطية – طبقا لهذه الرؤية
– هي ثوب يناسب قامة المتغربين ، او بضاعة غربية لا يمكن استخدامها لاقامة احكام
الشريعة الغراء . ويقدم اصحاب هذه الرؤية صورة متكاملة عن نظام الحكم الذي يرون
فيه البديل الحق عن الديمقراطية ، وهو نظام يقوم على مجموعة من المفاهيم القاعدية
، من اهمها :
أ –
الانسان كائن ناقص ، ضعيف وعاجز عن مقاومة وسوسة الشيطان وشهوات النفس . ولهذا فهو
محتاج دائما الى من يتولى امره كي لا يزل ، ويرشده الى طريق الكمال حتى يبلغ
السعادة الحقيقية . بناء على هذه الرؤية فان المجتمعات الانسانية التي تفتقر الى
ولي من قبل الله ، سائرة في طريق الانحراف والسقوط .
ب –
الاسلام دين شامل وقادر على سد جميع حاجات الانسان في المجال الفردي كما في المجال
الاجتماعي منذ خروج الفرد الى الحياة وحتى يموت . وهو قادر على هداية المجتمع
الاسلامي الكبير ، وحل جميع مشكلاته السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية
والاجتماعية ، بل لديه حلول لمشكلات المجتمعات غير الاسلامية ايضا .
ج –
الطرق التي وضعها الدين لحل المشاكل التي تواجهها المجتمعات البشرية ، مضمرة في
النصوص الدينية . لهذا فاننا بحاجة الى علماء الدين والفقهاء لاستنباط تلك الحلول
واستخراجها من الكتاب والسنة ، وتوفيرها للمؤمنين .
د –
لم يحصل ابدا ان تخلى الاسلام عن قيادة المجتمع او تركه في حال سبيله في اي وقت من
الاوقات . بل اهتم على الدوام بتحديد سبيل الادارة والقيادة وشخص كيفية الاشراف
والولاية على الحياة الاجتماعية . في زمن الرسول والائمة عليهم السلام كانت
الولاية والقيادة بيدهم ، ومن بعد غيبة الامام الثاني عشر ، فوض الشارع المقدس
الولاية وقيادة المجتمع الى الفقهاء العدول ، وكلف عامة الناس بطاعتهم واتباعهم .
هـ -
افراد الشعب ليسوا سواء من الناحية الشرعية . ثمة تمايزات يقررها الشرع بين
الاصناف المختلفة من الناس . ثمة فرق مثلا بين المسلم وغير المسلم ، وبين المؤمن
وغير المؤمن ، وبين الرجل والمرأة ، وبين الفقيه والعامي ، وما اشبه . ومن هنا فان
القول بالحقوق المدنية المتساوية للمواطنين وتطبيقاتها القانونية والسياسية تتنافى
مع ضروريات الفقه .
و –
الاحكام الشرعية ، سواء الملزمة او غير الملزمة ، لا يمكن وضعها او تعيين
تطبيقاتها بناء على راي الاكثرية او رضا عامة الناس . سواء اراد الشعب ام لم يرد ،
فانهم – باعتبارهم مسلمين – مكلفون بالاذعان لتلك الاحكام . الثابت من هذه الاحكام
يستنبط من جانب الفقهاء جميعا ، والمتغير منها (المتعلق بادارة البلاد) يستنبط من
جانب الفقيه الحاكم ، وهو الذي يأمر اجهزة الدولة بتنفيذها . في كل الاحوال ليس
للشعب اي دور في التشريع ووضع القوانين او نظم الادارة والعمل في المجال العام .
وليس لرضا الشعب او رأيه دخالة في تطبيق تلك القوانين والنظم . تقوم هذه الرؤية
على القول بان جميع موضوعات الحياة الخاصة او العامة هي موضوعات دينية ، اي مجالا
محتملا للتكليف الشرعي ، وهذا يشمل حتى الموضوعات المصنفة ضمن دائرة المباحات . لا
يوجد موضوع حياتي خارج عن التكييف والتكليف الشرعي – بالقوة او بالفعل - . قد يكون
هذا التكليف الزاميا او غير الزامي ، وقد يكون حكما اوليا او ثانويا ، ارشاديا او
ولائيا . بعبارة اخرى فانه لا يوجد مجال او موضوع خارج دائرة الشرع حتى يمكن الرجوع
فيه الى راي الشعب .
ز –
راي ولي الامر هو المعيار في القضايا والقرارات المتعلقة بالمجال العام ، والجمهور
المتدين مكلف شرعا باتباع امر الولي الفقيه وطاعته على نحو يرضيه ويعزز مكانته .
هذا
المذهب هو الفهم العام للدين الرائج بين الاسلاميين التقليديين في مصر والجزائر
وافغانستان وايران . وهم يعتبرون ان حاكمية الشعب ايا كان نوعها تمثل غصبا وعدوانا
على حاكمية الله وسيادته . ومن ابرز من ذهبوا هذا المذهب الشيخ فضل الله النوري في
ايران وسيد قطب في مصر ، وهو اليوم شائع في المنابر الرسمية في ايران ونسمع عناصره
تتكرر على لسان المتحدثين فيها ، ولا سيما في خطبة الجمعة في طهران .
القراءة الديمقراطية للدين
لعل
ابرز سمات هذه القراءة هو انفتاحها على العلم وتعظيمها من شأن العقل ومحورية دوره
في فهم الدين ، وتركيزها على الاجتهاد المتجدد الذي يقوم على تركيب ودمج العناصر
القيمية والموضوعية في آن واحد . القراءة الديمقراطية للدين لا تنظر الى منطوق
النص في معزل عن عقل الفقيه او الباحث وهمومه ، ولا تغفل تاثير البيئة والثقافة
السائدة على فهم النص وتحديد اغراض الحكم الناتج ، كما لا تقبل بالفصل بين الحكم
الشرعي وبين احكام العقل ومقتضيات العدالة . وهي تنطلق من فرضية ان غرض الدين هو
انعتاق الانسان وليس عبوديته ، والارتقاء بالحياة الانسانية وليس تضييقها وتعقيدها
. كما انها تلحظ دورا محوريا للعقل الفردي والجمعي في صياغة الفكرة الدينية ،
وتعتبر التفاعل والحوار الدائم بين العقل والنص ، الطريق الوحيد لضمان حياة دينية
نشطة وخلاقة . ظهرت هذه القراءة منذ اواخر القرن التاسع عشر ، وظهرت اهميتها
وتاثيرها خلال الثورة الدستورية (1905-1906) . وخلال القرن العشرين شكلت محور
استقطاب بارز للشرائح الحديثة من المجتمع الديني ، وتبلور على ضوئها تيار عريض يدافع
عن حقوق الانسان ويسعى لتجريد الدولة من ميلها التاريخي للقهر والتجبر . كما يدعو
لتطوير الفكر الاسلامي والاجتهاد واصلاح الحياة الدينية بشكل عام .
فيما
يخص النظام السياسي ، تقدم هذه القراءة عددا من المفاهيم القاعدية التي تشكل
ارضية مناسبة لنموذج الديمقراطية الدينية. ومن ابرزها :
أ –
الانسان في نظر الاسلام كائن مكرم وحامل للروح الالهية ، يقوده العقل الذي اعتبره
الاسلام بمثابة الرسول الباطن . ولهذا فهو محل للثقة والاعتمادية ، وقد جعله الله
– كما في النص القرآني - كفؤا ومؤهلا لخلافته في ارضه .
ب -
كمال الدين هو كمال ارشادي ، بمعنى انه قادر على هداية الانسان في كل جوانب حياته
، لا انه دخيل في كل جانب . للدين دور في حياة الانسان وللعلم دور آخر . قد يوفر
الدين بعض المعارف التي لا يستطيع الانسان التوصل اليها بمفرده ، او ان الوصول
اليها يتطلب امكانات او زمنا يتجاوز قدرة الانسان . اما في الجوانب التي يمكن
بلوغها عن طريق التجربة البشرية او العقل الجمعي فغاية ما ينتظر من الدين توفيره
هو الارشاد وحسب . ولهذا لا نتوقع من الدين ان يتدخل في الامور العلمية ، الرياضية
او التجريبية ، او ينشغل بحل مشكلاتها العلمية ، وهكذا الحال في مجالات العلوم
الانسانية .
ج –
بالنظر لاختصاص الدين بوظائف معينة واختصاص العلم بوظائف اخرى ، فان موارد اهتمام
النص الديني وما يستخرج منه من احكام ومعارف ، تتعلق حصرا بالموارد التي تدخل ضمن
وظائف الدين ، والتي يتوقع منه ان يحدد للناس كيفية التعامل معها . اما ما يخرج عن
نطاق هذه الوظيفة مثل الامور العلمية البحتة الرياضية او التجريبية او الانسانية
(مثل الاقتصاد والمجتمع . . الخ) فلا يمكن الحصول على احكام او استنتاجات علمية
فيها عن طريق منهج الاجتهاد والاستنباط المتعارف في علم الفقه .
د -
السياسة ، اي التدبير في المجال العام ، عمل عقلائي يعتمد على التجربة الانسانية
والعقل الجمعي ويستفيد منهما . وهي بطبيعتها متغيرة ، ليس فيها حكم تاسيسي او ثابت
او تعبدي . يحدد الدين الاهداف العليا للعمل السياسي ، ويقدم معايير كلية
لاخلاقيات هذا العمل ، ويعرف بعض المسارات السلبية والايجابية وبعض الجزئيات على
سبيل التمثيل فقط . وتصاغ السياسة الدينية على ضوء هذه العناصر . واذا كان الاسلام
لا يتلاءم مع كل الانماط السياسية ، فانه في الوقت نفسه لا يقدم شكلا واحدا ثابتا
للممارسة السياسية . ومن الممكن صياغة اشكال سياسية عديدة في زمن واحد تنسجم مع
القيم والمعايير الدينية ، او لا تتعارض مع تعاليم الدين . بعبارة موجزة فان
الاسلام لم يحدد نموذجا خاصا وثابتا للادارة السياسية او النظام السياسي .
هـ –
الاحكام الثابتة هي جزء من قواعد العمل في المجتمع الديني . اما الجزء الاخر فهو
الاحكام المتغيرة ، وهو مجال وسيع توضع احكامه على يد المجتمع وبالاستفادة من
العقل الجمعي . واكثر الاحكام المتعلقة بالحياة السياسية هي من النوع الثاني وهي
تصنف ضمن دائرة المباحات او منطقة الفراغ التشريعي التي تركها المشرع مفتوحة وحرة
للمسلمين كي يكيفوا حاجاتهم القانونية والحياتية ضمنها باستخدام المناهج والطرق
الاكثر عصرية وكفاءة .
و -
تعول هذه القراءة بشكل اساسي على الاجتهاد المستمر الذي يلعب فيه عنصر الزمان دورا
محوريا في فهم النص وموضوعاته . ومفهوم الاجتهاد هنا يتجاوز حدود مصطلحه المتعارف
في الحوزة العلمية . التركيز على عنصر الزمان يكشف عن حقيقة ان بعض الاعراف
والتقاليد الخاصة بزمن الوحي قد دخلت في التراث الديني ، ومع مرور الزمان جرى
اعتبارها من ثوابت الدين . ولهذا فان منهج الاجتهاد في القراءة المقترحة للدين
يسعى الى تنقية الاسلام من الاضافات التي تعكس العرف المحلي . ان هدف التعاليم
الدينية – في هذه الرؤية – هو تعميق المعرفة والضمير الديني والتحول الداخلي
للانسان .
كيف يصبح النظام الديمقراطي اسلاميا
الديمقراطية
الاسلامية هي نظام للحياة السياسية للمسلمين في العالم الحديث . وليس المراد من
نسبتها الى الاسلام استنباطها من الكتاب والسنة ، بل الاشارة الى انها منهج عقلاني
لا يتنافى مع قيم الاسلام ، وانها وسيلة يمكن للمسلمين الاخذ بها لتنظيم حياتهم ،
وان الفكر الاسلامي قادر على توفير المباني الفلسفية للديمقراطية الدينية . من
ناحية اخرى فان الديمقراطية الاسلامية هي نوع من انواع الحكومة الدينية ، فالحكومة
الاسلامية يمكن ان تكون – كما اشرنا سلفا - ديمقراطية تستند الى سيادة الشعب ،
ويمكن ان تكون فردية اوتوقراطية او نخبوية ارستقرطية .
ترى كيف تتحقق اسلامية الحكم ؟
يتضح
الان ان الجواب على هذا السؤال سيكون متفاوتا بقدر تفاوت فهم الدين واستنباط
احكامه ، طبقا للقراءة المعارضة للديمقراطية او القراءة الاخرى . اذا اخذنا
بالقراءة الاولى ، فان النظام السياسي الديني سيكون فرديا اوتوقراطيا او نخبويا
اريستوقراطيا ، اما النظام الديمقراطي فهو ممتنع ومتناف مع الدين . وبالعكس من هذا
فان الدين في القراءة الثانية لا يتناسب مع اي من النوعين الاولين ، بل يتناسب فقط
مع نظام سياسي ديمقراطي . لكي نفهم طبيعة الانتساب الديني لكل من انظمة الحكم
الثلاثة ، من المفيد الاشارة الى مفهوم "المشروعية = legitimacy" ، فكل من القراءتين لها تصور خاص عن المصدر الذي يستمد منه
النظام شرعيته . الشرعية هي الاساس القيمي الذي يبرر سلطة الحكومة ، ويعطيها الحق
في الامر والنهي واصدار القوانين والسياسات وفرض الالتزامات على المواطنين . بناء
على هذا المبرر ، يمكن للحكومة ان تحضى بطاعة الشعب وولائه ، ويعتبر عمل الحاكمين
اخلاقيا ومقبولا . تذهب القراءة الاولى الى ما يوصف بالشرعية الالهية المباشرة .
بمعنى ان الله سبحانه قد فوض حق الحاكمية والتصرف في المجال العام الى الفقهاء
مباشرة ومن دون وساطة الشعب . بعبارة اخرى فان الشعب لا دور له في توليد الشرعية
السياسية . سلطة الحكم – بناء على هذه الرؤية – في يد الفقيه الذي نصبه الله حاكما
على الناس ، وهذا النصب الالهي هو مبرر حكمه واساس شرعيته .
خلافا
لهذا ، تذهب القراءة الثانية الى ما تصفه بالشرعية الالهية - الشعبية ، او الشرعية
الشعبية مع رعاية المعاييرالالهية . طبقا لهذه الرؤية فان الخالق سبحانه قد فوض
التدبير في المجال العام والادارة السياسية الى الشعب كي يتصرف فيها ويمارس سيادته
في موضوعاتها على النحو الذي يؤمن مصالحه ويرعى في الوقت نفسه المعايير الدينية .
يتمتع الانسان وفقا لهذه القراءة بحق مطلق في تقرير مصيره واختيار نمط حياته . وهو
حق اعطاه الله للانسان كفرد وللمجتمع كمجموع . ولا يحق لاحد سلب هذا الحق الالهي .
يمارس الشعب هذا الحق من خلال تحديد السياسات الرئيسية للحكومة وانتخاب منفذيها ،
اي اعضاء الحكومة .
يتضح
اذن ان الله سبحانه ، طبقا لكلا القراءتين ، هو المصدر الاعلى لشرعية السلطة . لكن
الفارق بينهما يكمن في اعتبار دور الشعب . فالقراءة الاولى تنكر هذا الدور كليا
وجزئيا ، بينما تعتبره القراءة الثانية جوهريا واساسيا وهي تعتبر الشعب نائبا عن
الله سبحانه في تفويض السلطة ، اي توليد الاساس الشرعي لممارستها . بناء على هذه
الرؤية فان سلطة الحاكم لا تكون مشروعة الا اذا فوضها الشعب اليه ، بعبارة اخرى
فان الارادة الشعبية العامة هي مصدر الشرعية السياسية .
اضافة
الى ارتباط النظام الديمقراطي بمصدر شرعية سليم ، يتمثل في الامة التي منحها الله
حقا قطعيا في تقرير مصيرها كما فوضها خلافته في ارضه ، فان هذا النظام يستمد صفته
الدينية من اصلين متوافقين : الاول هو سعيه الى تحقيق الاهداف السامية للدين ،
والثاني هو التزامه بتعاليم الشريعة في ادارة المجتمع والدولة . طبقا للقراءة
الدينية التي نقترحها فان احكام الشريعة ينبغي ان تستنبط من خلال منهج اجتهادي
سليم ياخذ بنظر الاعتبار مقتضيات الزمان والمكان ومتغيراتها .
خصائص الديمقراطية الدينية
اولا
: الديمقراطية الاسلامية هي نظام قابل للتطبيق في المجتمعات التي يميل اكثرية
اعضائها اليه ، اي انه لا يفرض بالقوة او الخديعة على مجتمع لا يريده او لا يعرف
فحواه . وفي راينا ان اكثر المجتمعات الاسلامية تريد نظاما من هذا النوع .
ثانيا
: في اطار نظام ديمقراطي اسلامي ، يتمتع جميع افراد المجتمع ، بغض النظر عن دينهم ومذهبهم
وجنسهم وعرقهم وعقيدتهم السياسية ، بالمساواة في الفرص والحقوق كما انهم متساوون
في الواجبات وامام القانون . المساواة المدنية تعني ان لكل مواطن حقا يضمنه
القانون في المشاركة المتكافئة في الحياة السياسية والتنافس على جميع المناصب
العامة وممارسة السلطة في كل مستوياتها . وليس هناك اي ميزة لاي مواطن على غيره في
هذا الصدد ، اذ لا يمتاز الشيعي على غيره ولا الفقيه على سواه ، فالكل سواسية في
الحقوق والواجبات على ارضية المواطنة .
ثالثا
: اعتمادا على الاذن الالهي فان ارادة الشعب هي المصدرالوحيد لشرعية الممارسة السياسية
، اي تولي السلطة . فالحكومة تصل الى مقعد الحكم من خلال الانتخابات التي تكشف عن
ارادة الشعب ، كما ترحل عنها بنفس الطريقة .
رابعا
: كل قرار لا يشارك الشعب فيه فهو باطل ولا اعتبار له . يجب العمل على تعزيز
مشاركة الشعب في جميع مستويات ومراحل اتخاذ القرار وصولا الى الصورة المثالية
للممارسة الديمقراطية ، اي اوسع مشاركة في اكبر عدد من القرارات التي تغطي اوسع
نطاق ممكن من الحياة العامة .
خامسا
: تطبق الاحكام الشرعية في المجال العام بعدما تلبس ثوب "القانون" .
ونظرا لان القانون يشرع ويوضع موضع التنفيذ بناء على موافقة الشعب او ممثليه ، فان
الهيئة التشريعية (البرلمان) تختار بين الاراء المختلفة في كل مسألة الرأي الذي
يحظى بقاعدة اجتماعية اكبر . وبناء على هذا يتحول الراي المنظور الى قانون . هذا
بالنسبة للموضوعات التي يتوجب العودة فيها الى اراء الفقهاء ، اما بالنسبة
للموضوعات الداخلة ضمن اطار المباحات ، وكذلك بالنسبة الى كيفية تنفيذ الاحكام
والقوانين من كلا النوعين ، فان المرجع فيها هو العقل الجمعي ، اي عامة الشعب او
نواب الشعب .
سادسا
: من ابرز الفوارق بين الديمقراطية الدينية وبقية انواع الديمقراطية هو التزام المجتمع
باخلاقيات الدين وتعاليمه وقبولها كاساس للقانون العام . الالتزام بالدين هو احد
المكونات الاصلية للنظام الاجتماعي التي لا يمكن حذفها ، شأنه في ذلك شأن الحريات
والحقوق المدنية وبقية المباديء الدستورية الحيوية للنظام واستمراريته .
سابعا
: تدير الدولة الموارد العامة للبلاد وجميع ما هو مشترك بين المواطنين بصفتها
وكيلة عن الشعب وممثلة لمصالحه . ويجب ان تتحقق هذه الوكالة من خلال نظام واضح
لتفويض السلطة مثل الانتخابات العامة . كما ان صلاحيات المسؤولين عن ادارة الشأن
العام سواء في الفرع التشريعي او التنفيذي للحكومة مقيدة ومحدودة في اطار ما يسمح
به الدستور . وليس لاي مسؤول صلاحيات مطلقة او غير خاضعة للرقابة الشعبية
والمحاسبة . من ناحية اخرى فان التفويض الشعبي محدد بزمن ، ولا يمنح اي مسؤول
تفويضا او سلطة مدى الحياة او مربوطة بشروط او ظروف لا يمكن تحديد نهايتها زمنيا .
ثامنا : اهم الشروط اللازمة لتولي المناصب
العامة هو الكفاءة وثقة الشعب ، والطريق الطبيعي للوصول الى تلك المناصب هو الحصول
على التفويض الشعبي في انتخابات حرة وعادلة .
تاسعا
: علماء الدين المنتخبون من قبل الشعب او نوابه هم المكلفون بتأمين العنصر الاول ،
اي الاعتبار الديني للنظام ، او على الاقل التاكد من عدم تنافي سياساته مع تعاليم
الشريعة الاسلامية . في تفصيل هذا البند نشير الى ان صفة علماء الدين تشمل الفقهاء
لكنها لا تقتصر عليهم ، فهي تشمل ايضا بقية الخبراء في الشأن الديني مثل الفلاسفة
الدينيين وعلماء الاخلاق وامثالهم من المختصين في المعارف الدينية ، من الرجال
والنساء .
عاشرا
: الديمقراطية الدينية نظام مقيد بالقانون ، وقادته خاضعون للقانون ، وليس لاي فرد
فيه ان يعتبر نفسه او يعتبره الاخرون فوق القانون او غير خاضع لاحكامه .
احتمالات التفارق بين الديمقراطية والدين
يتألف
نموذج الديمقراطية الدينية من مجموع الحقوق المدنية للمواطنين زائدا التزام النظام
بالقيم الدينية . لو حدث في وقت من الاوقات ان قررت اكثرية المجتمع العدول عن
الالتزام بالمعايير الدينية ، وذهبت في اتجاه معاكس لعرف علماء الدين في وقت معين
، فهذا يعني ان الشعب قد قرر الغاء الديمقراطية الدينية . في هذه الحالة فان
النظام السياسي يبقى ديمقراطيا لكنه غير ديني (لان الديمقراطية تقوم على سيادة
الشعب) . اذا وجدت هذه الحالة (اي التقابل بين الراي العام وبين التعاليم الدينية)
فسوف يكون امامنا طريقان : الاول هو استعمال السلطة الجبرية والزام الشعب باحكام
الدين رغما عن انوفهم حتى لو اقتضى ذلك استعمال العنف والقمع ، والثاني : هو
الخضوع لمشيئة الراي العام على المستوى السياسي من دون التخلي عن التنبيه الى خطأ
هذا التوجه والتمسك بالحق في العودة الى المسار الديني من خلال الطرق السلمية ، اي
التركيز على العمل الثقافي والتوعوي لاصلاح الزلل في الضمير الشعبي ، ونقد التجربة
السابقة لاستعادة ثقة الجمهور في النهج الديني .
في اعتقادي ان الطريق الاول غير صحيح ولا هو
مفيد ، ذلك ان الايمان الديني يرتبط عضويا بالضمير الحر . ولا يمكن للدين ان يترك
تاثيره في جوانب الحياة المختلفة ما لم يصدر عن اختيار واع وكامل ، اي تجربة روحية
خالصة ينعدم فيها الجبر او القهر . اما الطريق الثاني فهو المتبع في نموذج
الديمقراطية الدينية . النظام الديمقراطي الديني هو ثمرة الارادة الحرة للشعب ،
وهو قائم ومشروع طالما اراده الشعب ورغب في الحفاظ عليه ، فاذا ادبر الشعب عنه فقد
مشروعيته وبالتالي قابليته للاستمرار في ادارة المجتمع .
وما
دمنا قد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد يكون مفيدا الاشارة الى ان الراي العام ، اي
الراي المتفق عليه بين اكثرية الشعب هو معيار لشرعية الممارسة السياسية ، وليس
معيارا لصحة العمل من الناحية النظرية . بعبارة اخرى فان قبول الشعب او ممثليه
براي معين ورفضه لراي اخر لا يعني ان الاول حق والثاني باطل . ذلك ان المدار في
ممارسة السلطة ليس الحق والباطل بل رضا الشعب او عدمه . لكن في كل الاحوال فان
اسلامية النظام تقتضي عدم تنافي السياسات المختارة مع القيم الاسلامية الاساسية .
بناء على هذا فان استمرارية الديمقراطية الدينية رهن بتوفر عنصرين جوهريين هما :
بقاء اعتباره الديني او على الاقل عدم تنافيه مع التعاليم الدينية ، وفي الوقت
نفسه تمتع النظام بثقة ورضى اكثرية الشعب .
بطبيعة
الحال فان انتفاء اي من هذين العنصرين سيؤدي بالضرورة الى انتفاء الديمقراطية
الدينية . غياب العنصر الاول سينفي الصفة الدينية عن النظام مع بقاء الديمقراطية ،
وغياب العنصر الثاني سينفي الديمقراطية ويبقي النظام دينيا . وقد سبق الاشارة الى
ان نظاما دينيا غير ديمقراطي لا يفيد الدين بشيء ، فمن الممكن دائما المحافظة على
الشكل الديني الخارجي للمجتمع من خلال اقامة الشعائر ورعاية المظاهر الدينية
باستعمال القوة والقهر . لكننا نرى ان ظرفا من هذا القبيل لا يعزز القيم الدينية ،
فالايمان الديني لا يسكن في الضمير ولا يتاصل في وجدان الانسان بالقهر والجبر .
ولهذا فان السلطة الدينية القائمة على الجبر والقهر هي بالضرورة سلطة غير مشروعة .
وهذا ما جرت عليه سيرة الاباء المؤسسين لدين الاسلام بمن فيهم رسول الله والائمة
عليهم الصلاة والسلام .
بقية فصول الكتاب
1) الديمقراطية كحاجة للحياة
الدينية
محمد
مجتهد شبستري
2) الديمقراطية والديمقراطية
الدينية : المباديء الاساسية
محسن كديور
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية
العقل الجمعي وحقوق الانسان
عبد الكريم سروش
4) من المدينة الفاضلة الى مدينة
الانسان : الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية
علي رضا علوي تبار
5) في معنى الوصف الديني
للديمقراطية
علي بايا
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة
توفيق السيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق