‏إظهار الرسائل ذات التسميات التشاؤم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التشاؤم. إظهار كافة الرسائل

18/01/2024

وراء التشاؤم والتفاؤل: هل نرى الواقع كما هو؟

 يبدو ان مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الاسبوع الماضي ، تشكل موضوعا جديا عند الاشقاء العراقيين. وصلتني خلال الاسبوع ردود فعل كثيرة جدا ، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي ، لكن الكثير منها يقول صراحة او ضمنيا "حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف ، فلا تعلمنا ما يصح وما لا يصح". الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة "الصباح" البغدادية بتفسير ظريف فحواه ان التشاؤم سمة للاحاديث الموجهة للجمهور ، وليس نقاشات النخب ، لأن الجمهور يعتبر الكتابات المتفائلة تملقا لذوي السلطان. اما الزميل علي حسين فقد رأى أن الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: "ماذا نفعل ياسيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس".

هواية المتشائم هي البحث عن نقاط سوداء على خريطة العالم

الواضح ان معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على ان المنحى التشاؤمي ليس مفيدا. لكنه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات او بالمزاج الشعبي او بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلق بدور الكاتب ، مع استذكار موقف قديم أتبناه ، رغم أنه لم يرض أحدا ، وفحواه ان مسؤولية الكاتب او العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم ، تتلخص في إتقان عمله. اي انه لايحمل رسالة ولايتوجب عليه ان يتبنى موقفا غير ما يجب على كل شخص آخر. واعتقد جازما ان تبني كافة الناس لهذا الموقف ، اي الاجتهاد في اتقان العمل ، محرك قوي للنهضة ، لو كانت هدفا.

الداعي لاثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف ، اي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع ، وبين مطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت انه يهدد بتفتيت "رأس المال الاجتماعي". فكيف انكر المسؤولية تجاه المجتمع ، ثم اطالب الاخرين بالتزامها؟.

الواقع ان تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث ، غير المسؤولية تجاه المجتمع او انكارها ، فبعضها يقول – ضمنيا – ان دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي ، اي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع ، الى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الامر بتشاؤم او تفاؤل ، بل هو أقرب الى ما يسمى "تلفزيون الواقع" ، من دون تمثيل طبعا.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية ان وسائل التواصل الجمعي كالصحافة ، التلفزيون ، الخطابة العامة ، ومنصات التواصل الاجتماعي ، هي الوسيلة الاقوى لتوصيل ، ومن ثم تعميم المشاعر والافكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة ، اي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة اهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسنا ، اذا رأى الكاتب مشهدا سيئا مثيرا للتشاؤم ، فهل يغض الطرف عنه ام يعيد تلوينه ، او يقتضي الصدق ان ينقله للجمهور كما رآه.

كان هذا واحدا من الاسئلة الهامة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" وقد رأى ان نظرة الكاتب ، بل اي ناظر الى الواقع لا يمكن ان تكون محايدة او خالية من التوجيه المسبق: انت ترى ما يتوقعه عقلك ، وتفهمه وفقا للاطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فان مراقبتك للشيء ، ثم شرحه ، هو تفسير مستند الى خلفيتك الذهنية ، اي انه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقدا كثيرا جدا ، لكن لو تأملتها جيدا فسوف تراها قريبة من منطق الامور: هل يمكن ان نفهم شيئا دون الاستناد الى قواعد مسبقة ، اليست هذه القواعد قيودا على الفهم الجديد؟ ، اي هل ننقل صورة الواقع كما هو ، ام ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟.

الخميس - 06 رَجب 1445 هـ - 18 يناير 2024 م 

https://aawsat.com/node/4796756/

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

صناعة الكآبة

الفكــرة وزمن الفكـرة

التجديد المستحيل

 

 

11/01/2024

صناعة الكآبة

 

خصص الصديق الدكتور اياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي ، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة ، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية ،  فوق انه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعا ان دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكني أسأل نفسي دائما: متى كان وضع العرب مثاليا أو خاليا من دواعي التشاؤم؟. فهل نحول صحافتنا الى مجالس عزاء ، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم او بكينا موتاهم ، ما هي  القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي الى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟.

د. اياد العنبر

لكن ثمة جانب لا يتعلق بالعاطفة او الموقف الشخصي من الحوادث ، اعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الامر اكثر وضوحا في حال المجتمع العراقي ، الذي يخاطبه الدكتور اياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه اكثر ، على جمهوره العام والعديد من اهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع ، فقد وجدت التشاؤم قاسما مشتركا فيما بينهم ، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

اعرف مبررات كثيرة ، تاريخية وسياسية ، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي اليها هذا التوجه؟.

في سبتمبر الماضي كتبت عن "راس المال الاجتماعي" واعيد التذكير بانه يشير الى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين ، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم ، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائما ، هل يتعزز "راس المال الاجتماعي" ام يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة ، ام يحصل العكس ، أي انصراف كل فرد الى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته ، بل وحتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟.

انظروا الى واقع العراق ، اليس هذا ما ترونه.. كل الناس يشكون من كل شي ، كلهم يتهمون قادتهم ونخبهم واهل الرأي فيهم ، يتهمونهم بالتسبب في كل ما حل بالعراق ، والنخب تتهم السياسيين ، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون او الصبر او المشاركة في الحلول الخ.

أزعم ان صناع الثقافة في العراق ، في الماضي والحاضر ، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت "راس المال الاجتماعي" أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس ، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئا مفيدا لهم كأمة واحدة ، لا كأفراد او طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة ، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص ، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصبا ، او يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعا أي تفكير جاد في التغيير او محاولة للتغيير ، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي او يرهق نفسه وحياته ، اذا كان جزاؤه – أيا كان الحال – هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بانه فاشل وعاجز ، او مجرد حرامي او متسلق او متسلط او ذيل للأجنبي؟. وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

ان جوا كئيبا كهذا ، سيفضي – دون شك - الى افساد السياسة ، ثم القضاء على حرية التعبير ، وأخيرا تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين ، الذين كفاءتهم الوحيدة هي اثارة العواطف والانفعالات ، أو اثارة الخوف من الآخر المختلف ، أي باختصار ، الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟.

ان كانوا يرغبون في غير هذا ، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماما ، المثل الصيني: بدل ان تلعن الظلام اضيء شمعة.

الشرق الاوسط الخميس - 28 جمادي الآخر 1445 هـ - 11 يناير 2024 م

https://aawsat.com/node/4782126/

مقالات ذات صلة

رأس المال الاجتماعي

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

السيف لـ عكاظ: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان

متشائمون في غمرة الوباء ، لكنني متفائل

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...