دار موضوع الثلاثاء الماضي
حول تنازع الثقافات في المجتمع الواحد ، بفعل دخول عناصر التقدم المادي على خط
الصراع بين ثقافة تنتمي إلى زمن يوشك على الافول وآخر يريد احتلال المشهد ، وزبدة
القول ان المجتمع ـ في وقت محدد ـ هو حالة ثقافية / زمنية ، لا تريد إعلان موتها
ولا التنازل عن مواقعها ، رغم انها تعبير عن زمن انقضى وانتهت مبررات وجوده.
لكن
الجدل بين الثقافتين لا ينتهي بسهولة أو في زمن قصير ، خاصة إذا تبلور دفاع
الثقافة القديمة في قوى اجتماعية تكافح دون حلول الجديد ، بذريعة ان القديم تجسيد
لأصالة المجتمع وروحيته ، والجديد تعبير عن هزيمة للذات والتحاق بالغير المعادي ،
أي ترجمة السائد كصورة للذات والجديد كتهديد للذات ، وتستقطب هذه الترجمة الذكية
تأييدا واسعا في المجتمعات حديثة العهد بالانفتاح على العالم ، ولا سيما المجتمعات
الشديدة الاعتزاز بالذات ، بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للثقافة الانسانية .
ظهرت نماذج لهذا الصراع في
كل المجتمعات التي خاضت تجربة التمدين ، وانتهى معظمها بسيطرة الثقافة الجديدة كما
حصل في أوروبا ، أو بإعادة تنسيج ، تحاور فيها الجديد والقديم ، لانتاج بديل
تتشابك فيه أصول ثقافية قديمة وفلسفة عمل جديدة ، كما حصل في اليابان .
وكلا النموذجين كان نصب أعين
المخططين العرب الذين كرسوا حياتهم للنهوض بمجتمعاتهم ، لكننا ـ رغم هذه المعرفة ـ
نواجه في المجتمع العربي سياقا جديدا ، يتجسد في عودة جزء مهم من الشريحة
الاجتماعية التي تفاعلت مع التجديد وعملت ضمنه ، إلى تبني الثقافة القديمة ،
لمبررات مختلفة ، بعضها يعود إلى قصور عملية الاحلال الثقافي ، وبعضها ناتج عن
الافرازات السلبية لمشروع التمدين .
وقد انبعثت الثقافة القديمة
في معظم الاقطار العربية ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى عقبة كؤود تعيق تجدد المجتمع
وتحديث حياته ، وفي أحيان أخرى إلى فلسفة للانتقاض على المجتمع أو التشكيك في كل
عنصر من عناصر التطور المادي والاجتماعي ، ويتجسد هذا الانبعاث في مظاهر عديدة ،
بعضها يمكننا ذكره وبعضها نخشى ذكره ، فنكتفي بالاشارة اليه من بعيد ، من بينها
على سبيل المثال عودة بعض الناس إلى الاهتمام بالسحر وتفسير الاحلام ، وعودة البعض
الآخر إلى استعمال الوسائل المتشددة والعنيفة لقمع الاختلاف في الافكار والاراء .
ونلحظ بصورة عامة ان المجتمع العربي متباطيء جدا في الاقرار بأن التحديث المادي لا
يمكن له ان يستكمل دون تحديث ثقافي مواز ، يتناول إعادة هيكلة القيم الحاكمة على
رؤية الانسان العربي للآخرين والأشياء ، واعادة انتاج التقاليد والأعراف
الاجتماعية لكي تخدم المتطلبات الحياتية للمجتمع في مرحلته الحاضرة ، باعتبارها
نواظم للسلوك ، مرتهنة لحاجات المجتمع في مرحلته الزمنية ، وليست قيما عابرة للزمن
أو مجردة .
وطرحت تفسيرات عديدة لهذه
العودة ، منها ما يربطه بعلل متمكنة من الشخصية العربية ، مثل ذلك الذي اقترحه د.
محمد جابر الانصاري الذي يقول ان العربي أميل إلى الصراع والمنازعة منه إلى البناء
الذي يتطلب سعة صدر وصبرا ، وهو يضرب مثالا بسيطا فيقول ان انسانا ما مستعد للخروج
إلى الحرب إذا دقت طبولها ، مع ما تنطوي عليه الحرب من خطر الفناء ، لكن هذا الشخص
بالذات لا يرغب أبدا في حمل مكنسة لتنظيف الشارع أمام بيته .
ومن بين التفسيرات ما يربطه
بنظم التربية والتعليم السائدة ، مثل رأي د. عبد العزيز الجلال ، الذي وجد ان
التربية المدرسية تميل إلى انتاج شخصية مهمشة أحادية البعد ، وبطبيعة الحال فان
الانسان ذا البعد الواحد لا يستطيع احتمال التغيير المتوالي في البشر والاشياء ،
الناتج عن تغير مصادر الثقافة وأساليب العيش وأدوات تحصيله .
ومن التفسيرات أيضا ما يشير
إلى عيوب في مشروع التمدين ذاته ، الذي ركز على تحديث الاقتصاد وسبل المعيشة ،
لكنه أغفل الانسان الذي يفترض ان يكون المستهدف الأول لهذا المشروع ، فكأن المشروع
افترض ان الانسان العربي كامل ، لا ينقصه غير تخلف المعيشة ، فانصب الجهد على
تطوير مصادرها .
ووجدنا نتيجة لهذا ان الناس قد انصرفوا بكل همة إلى تحسين قدراتهم
المادية ، ورفع مستوى معيشتهم ، لكنهم لم يبذلوا جهدا موازيا في تطوير رؤاهم
وثقافتهم ، كما ان المشروع قد خلا تماما من تصور متكامل لما سيفرزه التطور المادي
من حاجات اجتماعية غير مادية ، ولا سيما تغير رؤية الانسان لنفسه وتقييمه المستجد
لدوره الاجتماعي وعلاقته مع الغير ، وما يترتب على هذا من اختلال في توازن القوى
السائد ، وبالتالي منظومة القيم التي تحميه أو تبرر وجوده .
وثمة تفسيرات أخرى ، تدور
غالبا حول واحد من الثلاثة السابقة ، وسوف نعود إلى الموضوع مرة أخرى الثلاثاء
القادم .
عكاظ 17 مارس 1999
مقالات ذات علاقة
المدرسة وصناعة العقل
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري
سلطة المدير
صناعة الشخصية الملتبسة
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !
حقوق الانسان في المدرسة
المدرسة ومكارم الاخلاق
اول
العلم قصة خرافية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق