‏إظهار الرسائل ذات التسميات العدالة الاجتماعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العدالة الاجتماعية. إظهار كافة الرسائل

23/01/2025

"أيها الألماني اللعين"!

 هذه قصة نقلها د. عبد الله الغذامي ، المفكر السعودي المعروف ، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل ، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها ، لكنه مع ذلك واجه دائما من يذكره بأنه ليس ألمانيا حقيقيا ، "بيسري" وليس اصيلا ، حسب تعبير اشقائنا الكويتيين. وكان هذا يشعره بضيق شديد. لكنه سافر مرة الى سويسرا ، فشتمه نادل المقهى ووصفه ب "الألماني اللعين". تلك كانت اول مرة يشعر فيها بأنه الماني حقيقي. يعلق الغذامي على هذا قائلا ان تلك الشتيمة كانت صانعة لهوية الشاب التائه بين أصله وفصله ، بين ماضيه وحاضره.

ذكرني هذا بالدراسة القيمة التي وضعها أريك اريكسون ، عن المحددات السلبية للهوية. في ألمانيا ، عومل اريكسون كيهودي بغيض ، فهاجر الى أمريكا. لكن يهودها قاطعوه ، لأنه علماني ولأن زوجته مسيحية. من خلال معاناته الخاصة طور اريكسون سياقا بحثيا في علم النفس ، يدور حول "أزمة الهوية". وركز خصوصا على دور المحيط الاجتماعي في تصليب الهوية الطبيعية للفرد (الدين ، العرق ، اللون ، الجنس) ولا سيما في الاتجاه السلبي ، أي تحويلها الى خط انكسار في علاقة الفرد مع محيطه.

عالج هذه المسألة أيضا المفكر الفرنسي- اللبناني أمين معلوف ، في كتابه القيم "الهويات القاتلة". ولا بد ان الزملاء الذين قرأوا هذا الكتاب ، يستذكرون قوله الموجع: "غالبا ما نتعرف الى انفسنا في الانتماء الاكثر عرضة للتهجم". اخبرنا معلوف أن الهوية الفردية تتشكل في سياق تجاذب ، بين الترحيب من جهة والاقصاء من جهة أخرى. يسهم الترحيب في تنسيج هوية الفرد ضمن الهوية الاوسع ، بينما يؤدي الاقصاء الى تضخيم حدود الهوية الخاصة وابرازها على نحو متنافر مع الهوية العامة.

حسنا ، ما الذي يجعلنا نتذكر هذه القصة اليوم؟

الداعي لاستذكار مسألة الهوية ، هو الجدل الدائر في سوريا اليوم ، حول هوية البلد ، وبالتالي موقع الأقليات الدينية والعرقية في النظام السياسي الجديد. وقرأت تعليقا لشخص بارز في احدى الجماعات الدينية ، يعلن تبرمه بالأقليات التي حصلت على مكاسب في النظام السابق ، ومع ذلك فهي تطالب بمثلها في النظام الجديد. كما أشار خصوصا الى الجماعات الكردية التي تطالب بنوع من الحكم الذاتي ، شبيه بذلك القائم في العراق. وقال العديد من الناس مثل هذا. ولاحظت خصوصا ان الذين يصنفون انفسهم ضمن تيار الإسلام السياسي ، يتحدثون عن السلطة السياسية ، كما لو أنها "غنيمة" على النحو الذي شرحته في الأسبوع الماضي ، رغم انهم لا يقولون هذا صراحة ، بل يتحدثون عن "حق" الأكثرية في الحكم و "واجب" الأقلية في التسليم والطاعة. ونعلم ان ذلك الحق وهذا الواجب ، لا وجود له - على النحو الذي يذكرونه - في أي تشريع او فلسفة او منظور ديني او سياسي.

أمامنا أمثلة صريحة الدلالة عن أنظمة سياسية قامت على اقصاء المختلفين ، وأخرى استوعبتهم. جربت تركيا اقصاء الاكراد مدة تزيد عن 40 عاما ، وتسبب هذا في مواجهات كلفت البلاد عشرات الآلاف من القتلى وهجرت عشرات القرى ، دون ثمرة ، حتى اعترفت الدولة بالمشكلة ، وتبنت مشروعا يستهدف استيعاب الأقلية الكردية ضمن النظام السياسي القائم. فهل يريد السوريون إعادة اختراع العجلة؟.

الاكراد يمثلون مشكلة داهمة ، لأنهم القوة الأكثر جاهزية للصراع ، ولأنهم يسيطرون فعليا على مساحة واسعة نسبيا. لكن يهمني التأكيد على التعامل المنهجي وليس التكتيكي مع مشكلة الهوية. سيكون على السوريين استيعاب الأقليات الدينية والقومية العديدة ، فسوريا ليست ملكا لحكامها الحاليين او السابقين ، بل لكل سكانها ، أيا كانت اصولهم العرقية أو اديانهم او مذاهبهم. لا يمكن للحكومة ان تفرض دينها ولا مذهبها ولا توجهها السياسي على مخالفيها. كما لا يصح للأكثرية (في المعنى السياسي) ان تفرض رأيها على الأقلية. ينبغي القول بوضوح ان خطابا سياسيا يستوعب الجميع ، هو الذي يؤسس للهوية الوطنية الجامعة. وان الخطابات الانكماشية والاقصائية تفتح الباب للانهيارات القادمة.  

الخميس - 23 رَجب 1446 هـ - 23 يناير 2025 م     https://aawsat.com/nide/5104200

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

حكومة اليوم وحكومة الأمس

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الواعظ السياسي

 

 

16/01/2025

حكومة اليوم وحكومة الأمس

 

سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على اهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة "تنظير" وعبارة "غير مفيد". ان شياع مفهوم كهذا ، يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة ، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.

بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري ، مسألة العصبية ، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش ، او في القبيلة او الطائفة او الحزب الحاكم أو المجموعة القومية التي ينتمي اليها الحاكمون.

هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرف العرب عليها منذ ان كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة او حلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون ، فوضع تصويرا نظريا لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئا ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة او القاعدة الاجتماعية ، حين قرر ان بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فاذا ضعفت ، تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول الى الأفول.

ببساطة ، رأى ابن خلدون ان استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة ، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة او طائفة او حزبا سياسيا او أيديولوجيا او مجموعة عرقية ، او شيئا مماثلا. ثم يقرر ابن خلدون ان هذا النوع من التنظيم السياسي ، قصير العمر ، بحسب منطق الأمور. وأن أفول الدولة راجع الى انتقالها من جيل الى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء ، الحريصين على صناعة القوة وإعادة انتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب ، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ ، بل تأخذ السلطة من دون جهد ، فتفرط في سلطانها بسبب قلة الفهم او قلة التدبير او الرغبة في السلامة.

تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطا من الثقافة السياسية ، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح ان هذا الفهم شائع في العالم كله ، في الماضي والحاضر. لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها اوروبا منذ القرن التاسع عشر ، أثمرت عن تغيير هذا التصور ، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلا للمواطنين ، وليس ممثلا للطبقة او الحزب او الجماعة التي ينتمي اليها أهل الحكم. السر وراء هذا التحول ، ثقافي في المقام الأول ، حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه ، بلا فرق بين صغير وكبير او غني وفقير. وتبعا لهذا التحول ، قيل ان الذي يمسك زمام الأمور ، هو الشخص الذي يمثل المواطنين ويدير مصالحهم باختيارهم ، فهو يعمل لهم وليس سيدا فوقهم أو جبارا يتحكم في مصائرهم.

هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية ، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم "الدولة الحديثة" عن "الدولة القديمة" سواء كانت امارة قبلية او امبراطورية.

في الدول القديمة ، لم يكن الحاكم مسؤولا امام أحد. وليس من واجباته ان يخبر الناس عما يفعل او يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم ، تقديم "كشف حساب" للجهات الرقابية او التشريعية او للمجتمع.  وبهذا لم تعد السلطة مطلقة ، بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص ، فضلا عن الهيئات الرقابية والتشريعية.

ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة ، التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة ، ام دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم ، بغض النظر عن اصولهم الدينية والعرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟. سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم ، وبالتالي شركاء في إدارة أمره ، ام سياسة تعتبر نفسها ممثلا لـ "أهل الحق" أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي اليها وتمثل مصالحها ، دون بقية أهل البلد؟. هذا موضوع اختبار جدي للعهد الجديد.

الخميس - 16 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م     https://aawsat.com/node/5101794

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 

 

09/01/2025

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 

مطالعة النظريات السياسية ليس هواية رائجة في العالم العربي ، حتى بين نخبة البلد ، فضلا عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي اعنيها هي التحول الجاري في سوريا ، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة ، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية ، الى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور ، فضلا عن العوامل المادية ، لا سيما الاقتصادية والعسكرية ، التي تسهم في صنع او توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلا مفهوم "العدالة الاجتماعية" الذي أجده غائبا عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاما يلقى على عواهنه ولا هو جلد للذات. وان اردت التحقق من صحته ، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم ، او يوم امس ، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاجه جميعا ، الآن وغدا وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصا ، نابع من كونها جوهر عمل الدولة ،  إضافة الى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. استذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر ، الذي رأى ان إدراك حقيقة "العدالة الاجتماعية" مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: افترض انك مكلف بوضع قانون للبلد ، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي) وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين او الثقافة او الجنس او العرق او العقيدة السياسية ، الخ.  فكيف ستعاملهم ، هل ستعطيهم حقوقا تساوي ما اخذته لنفسك ، ام تقرر ان الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟.   الواقع ان هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس ، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة ، او ينتمون الى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي) ، فهؤلاء جميعا يرون ان للأكثرية حق الانفراد بالقرار ، وعلى الأقلية ان تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر ان هذا خداع للذات ، وان علاجه بسيط: تخيل ان ظروفك انقلبت ، فأمسيت في مكان الأقلية ، في بلدك او في بلد غريب ، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل اليها سابقا ، ام ستراها غير عادلة. اظن ان كثيرا من انصار الحكم السابق في سوريا ، سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى الم يكن الأفضل لهم ان يقيموا سياسات البلد على اصل المساواة والعدالة ، أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية ، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟.

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة ، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال ، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: ايهما خير لهم.. ان يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم اقصاء أي شريك وطني ، مهما خالفهم سياسيا او أيديولوجيا او عرقيا او غيره ، او ان يواصلوا سياسات من كان قبلهم ، ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟.

اما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري ، فهي الحاجة الى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي ، وذهب احدهم الى انكار سيادة لبنان ، واعتبر ان ضمه الى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وامثالها تنم عن حالة انفعالية ، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار ، ان يتجنبوا الانسياق اليها. ان اهم أولويات النظام السوري الجديد – في رأيي – هو ضمان الأمن للجميع ، حتى المجرمين والسفلة ، فضلا عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعا للجميع وملجأ للجميع ، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط ، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

الخميس - 09 رَجب 1446 هـ - 9 يناير 2025   https://aawsat.com/node/5099400

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية
الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

هكذا انتهى زمن الفضائل

15/03/2023

العشاء في فندق الريتز

>> الاقتصاد الوطني يزداد حركية وابداعا ، كلما ازدادت نسبة المستثمرين الصغار<<

لو بحثت عن فندق في دبي او لندن مثلا ، فربما "تتعثر" بفندق يكلف عشرة الاف دولار في الليلة. لكني وجدت هذا الاسبوع فندقا مخصصا لضيف واحد مع مرافقيه ، يكلف خمسين الف دولار فقط. نظريا استطيع انا وأمثالي وكل شخص آخر ، ان يتفرج على هذا الفندق أو ذاك. لكن هل يستطيع تدبير الخمسين الفا الضرورية كي ينام فيه ليلة؟.

فندق ريتز - لندن

بعبارة اخرى فان فندق الخمسين الفا يمثل فرصة متاحة لكل الناس. لكن كم من الناس يستطيع الامساك بهذه الفرصة؟.

توضح هذه القصة مقولة طريفة ، تنسب للسير جيمس ماثيو (1830-1908) وهو قاض ايرلندي ، يقول ان "القانون في إنكلترا مثل فندق الريتز ، مفتوح للجميع..". فرد عليه أحدهم: لكن كم عدد الاشخاص الذين يستطيعون العشاء في الريتز؟.

اشتهرت هذه المقولة وكثر الاستشهاد بها في نقاشات العدالة الاجتماعية ، لا سيما في سياق المقارنة بين الإصلاح على المستوى القانوني ، ونظيره في الحياة الواقعية. نعلم ان غالبية النظم القانونية تقر بان جميع الناس سواء في استثمار الموارد والفرص المتاحة في المجال العام ، وان هذا هو المعنى الأساس للعدالة الاجتماعية. لكن شتان بين هذه الفرضية الجميلة ، وبين الواقع المليء بالعقبات والصعوبات. دعنا نأخذ مثال العاصمة البنغالية "داكا" ، التي يعيش 50 الفا من سكانها في الشوارع ، بلا بيوت ولا وظائف ثابتة. يرجع هذا الرقم الى العام 2007 ، وتقدر تقارير البنك الدولي انه كان يزداد بشكل سنوي ، اي اننا نتحدث عن ضعفي هذا العدد على الاقل ، في الوقت الحاضر.

على مستوى القانون ، يملك هؤلاء الفقراء جميعا حق الوصول الى أي منصب حكومي ، وخوض الانتخابات لدخول البرلمان ، والحصول على قروض من البنوك.. الخ. فهل يستطيع أي منهم ان يحول تلك الحقوق الى واقع... هل يستطيع احدهم تدبير الأموال اللازمة للانفاق على حملة انتخابية ، او المؤهلات الضرورية لتولي أي منصب رسمي ، او الاسناد اللازم للحصول على قرض مصرفي؟.

هذا يشبه السؤال المتعلق بفندق الريتز: هل يتمتع الشخص المفلس – مثل نظيره الثري – بالحرية في تناول عشائه في الريتز؟.   

هل نقول "لا" لأنه - في واقع الامر - لا يمكن لشخص مثله ان يتعشى في الريتز (على الاقل لن يفعل هذا لأنه لا يملك المال اللازم لذلك العشاء). أم نقول "نعم" لأن العائق الوحيد الذي حال بينه وبين الريتز هو افتقاره إلى الموارد المالية ، وليس أي عائق خارجي ، مثل رفض مالكي فندق ريتز دخوله لتناول الطعام فيه؟.

هذا التباين دفع العديد من دارسي التنمية والاقتصاد ، للتوقف مليا عند نقاط التفارق بين الفرص التي يتيحها القانون ، وبين الامكانية الفعلية لاستثمارها من جانب الناس العاديين. وهو تفارق دفع بلدانا عديدة للتركيز على الادوات القانونية والاقتصادية ، التي تجعل تلك الموارد متاحة واقعيا لعامة الناس. السبب في هذا هو اكتشاف الاقتصاديين لحقيقة كانت مهملة ، وخلاصتها ان الاقتصاد الوطني يزداد حركية وابداعا ، كلما ازدادت نسبة المستثمرين الصغار. خلافا لتصور قديم فحواه ان الاستثمارات الضخمة هي الاقتصاد الحقيقي.

تأكيدا للفهم الجديد ، يذكر مثلا ان صناعة الطائرات المسيرة في الصين تضم نحو 7000 شركة ، جميعها تقريبا حديثة التأسيس ، ونصفها مملوك لشبان لا ينتمون لعائلات تجارية ، وتصنف كشركات صغيرة او متوسطة الحجم. ويقدر ان تصل مبيعات هذه الشركات الى 10 مليار دولار في العام الجاري ، الامر الذي اعطى الصين حصة تقارب نصف السوق العالمي للمسيرات.

جوهر المسألة اذن هو مفهوم "التمكين" أي قابلية العدد الأكبر من الناس ، لتحويل الفرص والموارد المتاحة في المجال العام ، الى مكاسب مادية. التمكين هو مفتاح النهضة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 22 شعبان 1444 هـ - 15 مارس 2023 مـ رقم العدد [16178]

https://aawsat.com/node/4212916/

مقالات ذات صلة

التمكين من خلال التعليم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

المكنسة وما بعدها

حول برنامج التحول الوطني

الثقافة المعوقة للنهضة

 

17/08/2022

الزكاة ام العدالة الاجتماعية؟

 

اريد في هذه السطور تبسيط فكرة العلاقة بين العقل والنقل ، واعني بها تحديدا وظيفة العقل كمصدر للتشريع ، مواز للكتاب والسنة. والحق انها فكرة ثقيلة ، لكنها ليست معقدة ، كما قد يظن. على أي حال ، لو تأملنا السيناريو الواقعي لدور العقل في التشريع ، لوجدنا انه ينصرف الى معنيين في الغالب: الأول هو العلم في مختلف حقوله ، الطبيعية والتجريبية والنظرية ، والثاني هو ما نسميه عرف العقلاء او بناء العقلاء (مع ملاحظة الفرق بينهما). وسوف اركز في السطور التالية على الأول،  أي العلم.

فهم الزكاة في اطار السعي لاقرار العدالة الاجتماعية يتطلب تغيير مفهومها  الفقهي جذريا

 نستذكر هنا ان علاقة العلم بالدين قد أسالت انهارا من الحبر. وأجمع الإسلاميون قاطبة ، على تعظيم الإسلام للعلم ، كما دأبوا على تمجيد المساهمات الجليلة لعلماء العصور الإسلامية القديمة في مختلف الحقول. واحسب ان هذا بات من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد كلام.

لكن الذي يحتاج الى مراجعة ، هو السؤال التالي: هل نفهم تعظيم الإسلام للعلم ، باعتباره احتفاء بشيء خارج حدوده ، مثلما نحتفي بضيف غريب ، ومثلما نحتفل بفوز فريقنا في دوري كرة القدم ، ام انه بمثابة إقرار بالدور الحيوي للعلم في حياة الدين وأتباعه ، مثلما نقر بدور المهندس في تخطيط بيتنا ومدينتا ، ومثلما نثق بدور الطبيب في علاج اجسامنا. دعنا فقط نتخيل الفرق بين مهندس توكل اليه تخطيط بيتك ، فتلتزم بتطبيق الخريطة التي رسمها لك ، وبين مهندس نستمع اليه ثم نحتفي به ونفخر بوجوده بيننا ، لكننا لا نعتمد عليه في أي عمل. هذا هو على وجه التحديد ، الفرق بين حالة الدين الذي يعظم العلم ، ثم يعتمد عليه في تحديد مسارات عمله وتنظيم حياة اتباعه ، وحالة الدين الذي يحتفي بالعلم ثم يرسله الى المكتبة أو المتحف  ، كي يستريح هناك حتى موعد الاحتفال التالي.

اعتقد ان أكثر الناس لن يقبلوا بالاقتصار على الدور الاحتفالي للعلم. لكني لست واثقا ان عدم قبولهم ، يعني تقبل دور المهندس او دور الطبيب الذي اشرت اليه آنفا. دعني اضرب مثالا ، يوضح معنى دور المهندس او الطبيب بالنسبة للدين: نعلم ان الغرض الأبرز لتشريع الزكاة مثلا ، هو دعم الفقراء والمساكين. في أيامنا هذه ، طور علماء الاقتصاد طريقة للقضاء على المسكنة ، من خلال كسر تسلسل الفقر عبر الأجيال ، وكسر العوائق الاجتماعية التي تعيق الحراك الطبقي ، وتمكين الفقراء من الوصول الى الموارد والفرص المتاحة في المجال العام. هذا هو جوهر نظرية العدالة الاجتماعية ، في النسخة المساواتية التي طورها امارتيا سن ، وتم تحويلها الى سياسات تفصيلية ، ذات اهداف محددة كميا وكيفيا ، في اطار برنامج التنمية البشرية الذي تبنته "الأمم المتحدة". وتظهر التقارير السنوية ان هذا البرنامج كان له أثر عظيم في تحسين مستوى المعيشة ، في المناطق الريفية الأشد حرمانا.

حسنا.. هذا يظهر ان لدينا بديل عن الزكاة ، يحقق غاياتها بصورة أوسع واعمق ، وهو بديل يستند الى دراسات اقتصادية واجتماعية ، وترتبط به أدوات قياس ومعالجة ميدانية. فهل نأخذ به ، ام نواصل التغني بفضل الزكاة ورمزيتها للتكافل الاجتماعي ، ام نطور مفهوم الزكاة بحيث يستوعب البديل العصري ، ولو أدى الى الغاء الاحكام القديمة المعروفة عند الفقهاء؟.

أعلم ان كثيرا من القراء سيتوقفون في هذه النقطة. وربما ذهب بعضهم باحثا عن مخرج رابع. لكني أردت الإشارة الى المعاني النهائية لما نفكر فيه ، لأن لكل خيار ثمن ، وأن قيمة الأشياء رهن بما تحدثه من تغيير في الحياة الواقعية. هذا يوضح في الحقيقة واحدا من أسباب القلق الذي يثيره نقاش العلاقة بين العقل/العلم وبين النقل ، وكان الغرض منه هو إيضاح ان جدل العقل والنقل ينصرف غالبا الى معنى علاقة العلم بالنقل وعلاقته بالدين عموما.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 محرم 1444 هـ - 17 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15968]

https://aawsat.com/node/3820711

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...