09/01/2025

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 

مطالعة النظريات السياسية ليس هواية رائجة في العالم العربي ، حتى بين نخبة البلد ، فضلا عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي اعنيها هي التحول الجاري في سوريا ، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة ، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية ، الى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور ، فضلا عن العوامل المادية ، لا سيما الاقتصادية والعسكرية ، التي تسهم في صنع او توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلا مفهوم "العدالة الاجتماعية" الذي أجده غائبا عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاما يلقى على عواهنه ولا هو جلد للذات. وان اردت التحقق من صحته ، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم ، او يوم امس ، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاجه جميعا ، الآن وغدا وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصا ، نابع من كونها جوهر عمل الدولة ،  إضافة الى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. استذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر ، الذي رأى ان إدراك حقيقة "العدالة الاجتماعية" مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: افترض انك مكلف بوضع قانون للبلد ، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي) وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين او الثقافة او الجنس او العرق او العقيدة السياسية ، الخ.  فكيف ستعاملهم ، هل ستعطيهم حقوقا تساوي ما اخذته لنفسك ، ام تقرر ان الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟.   الواقع ان هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس ، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة ، او ينتمون الى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي) ، فهؤلاء جميعا يرون ان للأكثرية حق الانفراد بالقرار ، وعلى الأقلية ان تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر ان هذا خداع للذات ، وان علاجه بسيط: تخيل ان ظروفك انقلبت ، فأمسيت في مكان الأقلية ، في بلدك او في بلد غريب ، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل اليها سابقا ، ام ستراها غير عادلة. اظن ان كثيرا من انصار الحكم السابق في سوريا ، سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى الم يكن الأفضل لهم ان يقيموا سياسات البلد على اصل المساواة والعدالة ، أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية ، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟.

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة ، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال ، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: ايهما خير لهم.. ان يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم اقصاء أي شريك وطني ، مهما خالفهم سياسيا او أيديولوجيا او عرقيا او غيره ، او ان يواصلوا سياسات من كان قبلهم ، ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟.

اما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري ، فهي الحاجة الى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي ، وذهب احدهم الى انكار سيادة لبنان ، واعتبر ان ضمه الى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وامثالها تنم عن حالة انفعالية ، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار ، ان يتجنبوا الانسياق اليها. ان اهم أولويات النظام السوري الجديد – في رأيي – هو ضمان الأمن للجميع ، حتى المجرمين والسفلة ، فضلا عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعا للجميع وملجأ للجميع ، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط ، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

الخميس - 09 رَجب 1446 هـ - 9 يناير 2025   https://aawsat.com/node/5099400

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية
الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

هكذا انتهى زمن الفضائل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

"أيها الألماني اللعين"!

  هذه قصة نقلها د. عبد الله الغذامي ، المفكر السعودي المعروف ، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل ، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها ، لكنه مع ذلك و...