سواء استطعنا الفراغ من الجدالات المذهبية ، او عجزنا عن ذلك ، فاننا بحاجة الى الفصل بين هذا النوع من الاختلافات وبين العلاقة التي تفرضها علينا شراكة الوطن والمصالح . منذ زمن طويل وحتى سنوات قليلة مضت ، جرت عادة النخبة السياسية الخليجية على انكار – او على الاقل اغفال - التعدد القبلي والطائفي الذي لا تخلو منه اي دولة في الخليج كما في العالم كله . وفي ظني ان هذا الاغفال كان سببا مهما لتحول التعدد الطبيعي من عامل اغناء للحياة الثقافية والاجتماعية الى عامل انقسام مؤثر في الحياة السياسية نشهد بعض تأثيراته السلبية اليوم .
كان علينا منذ قيام النموذج الاول للدولة الخليجية ان نبادر بتعريف نظامنا السياسي : هل هو دولة اقلية ام دولة اكثرية ام دولة الجميع . هل نحن كتلة اجتماعية واحدة (في اطار قبيلة او طائفة) ام مجتمع متنوع . وهل ترتبط شرعية السلطة بتمثيلها لمصالح الجميع ام هي مستمدة من مصادر خارج الدائرة الاجتماعية . واخيرا هل هي دولة المجموع ام سلطة عليهم .
مثل هذه الاسئلة كانت قائمة ، لكنها بقيت محصورة بين النخبة الثقافية القليلة العدد والبعيدة عن التاثير في السياسة . اما في السنوات الاخيرة فقد تحولت تلك الاسئلة الى خلفية للكثير من النقاشات في كل ركن من اركان المجتمع الخليجي . وقد لا يكون من قبيل المبالغة الادعاء بان جميع النقاشات الدائرة حول الاصلاح السياسي ، والمشاركة الشعبية ، وحاكمية القانون ، والدور السياسي للدين ، ومشاركة النساء في الحياة السياسية ، بل وحتى تحديث الاقتصاد والتعليم ، هي اطراف لعقدة واحدة اسمها : غياب تعريف متفق عليه للنظام السياسي .
في هذه الايام فان جميع الناس ، الحاكمين والمحكومين ، يتفقون على القول بان النظام السياسي الامثل هو النظام الذي تتمثل فيه جميع الكتل الاجتماعية بعيوبها وهمومها ومصالحها وتطلعاتها واشخاصها. لكن بين الاعتقاد بافضلية هذا النظام وبين تحقيقه على ارض الواقع ثمة مسافة طويلة ، يجب علينا – مجتمعا ودولة – ان نتعاون في تقريبها . طريقنا الى ذلك النظام المأمول يمر عبر محطات ثقافية وسياسية وقانونية نستطيع بناءها الواحدة بعد الاخرى . واول تلك المحطات واهمها هو اعادة تعريف المواطنة . المواطن في كل بلد شريك في ملكية ذلك البلد ، شريك في ملكية التراب وما تحته وما فوقه. شريك في كل حبة تراب يقف عليها هو او غيره . شراكة متساوية في المغانم والمغارم ، في الفرص والمسؤوليات ، في الحاضر والمستقبل. شراكة التراب شراكة مادية حقيقية سابقة على كل انتماء الى دين او مذهب او قبيلة اوثقافة او جماعة.
ويترتب على هذه الشراكة حقوق للافراد والمجموعات ، يجب حمايتها بالقانون من اجل صيانة العلاقة التي تربط بين جميع الشركاء . وابرزها الحق في التعبير الحر عن الراي والمعتقد ، والحق في الانتماء والحق في المشاركة في كل شأن عام.
في ظني ان الجدل المذهبي لن ينتهي في المدى المنظور ، كما انه في الوقت نفسه لن ينجح في الوصول الى اي هدف من اهدافه ، وتكفينا تجربة خمسة قرون من الزمن لاكتشاف ان هذه الجدالات قد اساءت الى اخلاقنا واساءت الى مصالحنا واساءت الى ثقافتنا بما يزيد كثيرا على ذلك القدر من الانتصارات الوهمية التي كسبناها . ولهذا فلا يجب ان نعلق الاصلاح السياسي على الفراغ من هذا الجدل العقيم . بل يجب ان نقر بمجتمعنا كما هو : مجتمع متعدد مذهبيا واجتماعيا وثقافيا. وان نقر بان لكل اهل البلاد حقوقا طبيعية قائمة على كونهم شركاء متساوين بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية والثقافية . يجب ان يعامل الشيعي باعتباره مواطنا اولا واخيرا ، ويجب ان يعامل السني باعتباره مواطنا اولا واخيرا ، وكذلك الامر بالنسبة للقبلي والحضري ، الاصيل والمتجنس ، يجب ان يعاملوا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
السبيل الوحيد لضمان الوحدة الوطنية هو احترام المجتمع كما هو ، بتنوعاته واختلافاته . كما ان سر الاستقرار السياسي يكمن في تمثيل جميع الكتل الاجتماعية في جهاز الدولة ولا سيما في الجزء الاعلى من الهرم السياسي . واظن ان من واجب الكتل الاجتماعية ان تكافح للحصول على مكان في قمة الهرم ، كما ان من واجب الدولة ان تساعدها للحصول على ذلك المكان . هذا ليس حقا اضافيا يمكن التنازل عنه ، بل هو ضرورة للسلام الاجتماعي والاستقرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق