‏إظهار الرسائل ذات التسميات العبودية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العبودية. إظهار كافة الرسائل

09/02/2022

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

 

ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ان الأفعال قد تكون حسنة في زمن وقبيحة في زمن آخر. وضربت مثلا بفتوحات المسلمين القديمة. وقلت ان الفكرة نفسها قابلة للتطبيق على الروايات التي تحكي حياة تلك الحقبة ، بما فيها روايات عن النبي والصحابة.

ولم تجد هذي الفكرة هوى عند بعض القراء الأعزاء. فجادلوا بأن الحسن أو القبح لا يمكن ان يختلف. فهل يمكن وصف الظلم يوما بأنه حسن ، أو وصف العدل بأنه قبيح.. وهل يختلف حسن العدل وقبح الظلم بين الحاضر والماضي؟.

رسم تخيلي عن سوق الرقيق القديمة

جوابي على هذا ان للفعل حالتان: حالة ذهنية تصورية مجردة ، وحالة فعلية تطبيقية. فالعدل النظري المجرد لا خلاف فيه ، بل في تطبيقه على حدث بعينه. دعنا نأخذ مثالا بالعبودية التي تداولها اسلافنا كفعل عادي لا كظلم قبيح ، مع انها تعد الآن من اقبح التصرفات. فلو سألت شخصا ، من أي دين او بلد ، عن رأيه في استعباد الناس ، فهل سيجيبك بأنه فعل حسن وعادل ، وانه يتقبل ان يكون عبدا لشخص آخر ، وأن تكون زوجته أمة لذلك الشخص؟. اعلم ان احدا لن يرضى بهذا.

لكن تجارة العبيد واقتناءهم كانت متاحة ومباحة في الماضي ، في بلاد المسلمين وغيرها. وكانت قوافل السبايا جزءا ثابتا في غنائم الحروب. ويندر ان تجد بين السلف رجلا ذا مال ، وليس عنده عبيد وإماء ، بمن فيهم الخلفاء والائمة والعلماء ، فضلا عن سائر الناس. ولذا حوت اغلب كتب الفقه القديمة بابا خاصا بأحكام الرقيق ، احكام بيعهم وشرائهم واقتنائهم ، والاحكام الخاصة بهم والتي تختلف عن الاحكام الخاصة بالأحرار ، نظير حجاب الاناث وزواجهن ، ونظير دية القتيل وإرث الميت.. الخ.

فهل سنشجب فعل أسلافنا وصناع تراثنا ، أم نتهمهم بالجهل او ضعف المشاعر الإنسانية؟. واذا قررنا ان فعلهم خاطيء وذميم ، فهل سنقبل اجتهاداتهم ومروياتهم ، أي مساهمتهم في التراث وعلوم الشريعة التي نعتمدها حتى اليوم؟.

اعلم ان بعض القراء سيقول مثلا ان التشريعات الخاصة بالعبودية صيغت على نحو يقلصها حتى ينهيها. ويقال هذا عادة في سياق التبرير  لفعل الاسلاف. لكن الذي حدث في الواقع هو  ان الرق في بلاد المسلمين تلاشى نتيجة لتطور مفاهيم حقوق الانسان ، لاسيما عقيب الحرب العالمية الأولى. واذكر  "اتفاقية تحريم الرق" التي تبنتها "عصبة الأمم" سنة 1926. ومن ثمارها انك لا ترى رجلا او امرأة يباعون في السوق ، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ.

لم تعد العبودية اذن فعلا عادلا او مقبولا عند الناس والقانون. وتبعا لهذا فلو صرح فقيه او زعيم سياسي بأنه يريد احياءها ، لان الشرع (كان) يقبلها في الماضي ، لهاج المسلمون وماجوا منكرين ، ولأفتى فقهاء آخرون ضد هذه الدعوة التي ، فوق قبحها ، مسيئة للمسلمين ودينهم.

لا نحتاج في الحقيقة الى ادانة فعل الاسلاف ، ولا القول بان الرق امر طيب. الرق كان منذ البدء فعلا قبيحا ، بل هو ناقض لحرية الاختيار الضرورية لتوحيد الخالق سبحانه. لكن هذا القول بذاته ، أي اعتبارنا ان الرق قبيح ، هو فكرة جديدة ، تبناها البشر بعدما تطورت معارفهم وشعورهم بذاتهم الفردية. وهذا كله ثمرة لهيمنة العلم على مجالات الحياة.

وقد تأثرنا بهذا الاتجاه بعد اندماجنا في اقتصاد العالم وثقافته. ولو كنا منعزلين مثل كوريا الشمالية ، فلربما تقبلنا ممارسات شبيهة بالرق. اندماجنا في اقتصاد العالم لا يغير معيشتنا فقط ، بل أيضا يطور فهمنا لذاتنا وتكويننا الثقافي وهويتنا الفردية. هذا التطوير ينعكس على شكل إعادة تقييم للافعال والاشياء ، وإعادة صياغة لمنظومات القيم والمعايير ، التي نستعملها في التعامل مع الأفكار والعناصر المادية ، في محيطنا الطبيعي والاجتماعي.

 الأربعاء - 8 رجب 1443 هـ - 09 فبراير 2022 مـ رقم العدد  [15779] https://aawsat.com/node/3463796       /

مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

حول النقد الأخلاقي للتراث ‏

20/11/2019

العقلاء الآثمون


تتمدد مدينة بريستول حول شبكة من الانهار الصغيرة ، تتصل في نهايتها بخليج يعرف أيضا بقناة بريستول ، جنوب غرب انجلترا. وخلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، عرفت المدينة كأبرز مركز لصناعة السفن في غرب اوروبا.
كنت متشوقا لرؤية المتحف البحري للمدينة ، ولا سيما السفينة "بريطانيا العظمى" التي كانت اعجوبة تكنولوجية ، من حيث الحجم والحلول الهندسية المبتكرة يوم صنعت في 1845 ، وساهمت في اشهار مصممها ايسامبارد برونيل كأعظم مهندس بريطاني في تلك الايام.
قبل صناعة السفن ، اشتهرت بريستول كمركز لتجارة الرقيق. ولو قدر لك ان تقرأ عن تاريخ تلك الحقبة ، ثم تمشيت بين حاراتها ومبانيها القديمة ، فلعلك تشعر ان هذه المباني التي تشع بالجمال والمهابة ، توحي بنفس القدر ، وربما اكثر ، بالكآبة والألم. فكأنما هي مسكونة بأرواح الآلاف من العبيد التي فاضت بعدما حطوا فيها ثم نقلوا الى موانيء الشرق الامريكي.
كان ذهني يغص بالصور المتخيلة عن تلك الحقبة الملعونة ، حين وقعت عيني على حجر تذكاري ثبت في جدار يطل على الميناء والسفينة. وقد اختير موقعه بعناية كي يلفت أنظار العابرين. يحمل الحجر عبارات اعتذار وتمجيد لآلاف العبيد الذين عانوا وعذبوا ، ثم قضوا في الطريق بين قراهم والبلاد التي كتبت فيها نهاياتهم.
قرأت العبارات المنقوشة على الحجر تكرارا. وشعرت بدافع يشدني بقوة لفهم السبب الذي دعا ادارة الميناء-المتحف ،  لتذكير زواره بان هذا المكان لم يكن جميلا دائما ، وان العابرين به او العاملين فيه لم يكونوا سعداء دائما ، وان اصحابه ومن يديرونه ، اي الاقوياء واصحاب القرار فيه ، لم يفعلوا الصواب دائما ، ولم يكونوا عادلين مع الضعفاء في معظم الاوقات.
هل هو اعتذار متأخر عما جرى قبل قرنين؟ وهل يشفي تلك الجروح القديمة؟
التأمل في هذه القصة لفت نظري الى جانب ذي صلة عميقة بقيمة التسامح ، أعني به الاقرار بالخطأ ، على النفس او على الغير.
  بيان ذلك: ذكرت في مقال سابق ، ان جوهر مفهوم التسامح هو احترام حق الآخرين في اختيار ما تمليه عليهم عقولهم ، من دين او مذهب او طريقة حياة ، كما تتوقع منهم احترام خياراتك. هذا مبدأ اخلاقي مبني على حكم عقلي عام. واساس الحكم العقلي هو الاعتقاد بان الانسان خطاء ، بمعنى انه يجتهد في حياته ، فيصيب حينا ويخطيء حينا آخر ، وانه لا عيب في اقرار الانسان بانه اخطأ في حق نفسه او في حق الاخرين.
بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان اعتراف الانسان بخطئه في حق الآخرين ، حاجة لنفسه ، مثلما هو حاجة للآخرين. انها عملية تطهير للذات ، واعادة تموضع للأنا العاقلة فوق الغرائز ، لمنع احتمالات الانزلاق مرة أخرى في حمأة الظلم والاحتقار.
لوح الحجر ذاك ، يشكل بوجه ما ، إقرارا بالآثام التي ارتكبتها بريستول في حق الافارقة الأسرى ، واعتذارا لكل أحد عما جرى في الماضي. قد يكون هذا شافيا للضحايا وقد لا يكون. لكن المهم فيه انه سيشكل بالتأكيد سدا يمنع تمجيد الماضي الاسود ، فضلا عن احيائه او تكراره.
دعنا نقول اذن ان الطريق الى التسامح قد يبدأ باقرار الانسان امام نفسه وامام الغير بانه مثلهم ، خطاء ، وانه ربما يكون قد اخطأ في حق نفسه والآخرين بقدر ما أصاب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 23 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 20 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14967] https://aawsat.com/node/1999256

مقالات ذات علاقة

 

ابعد من تماثيل بوذا

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا (الجذور)

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

ان تكون مساويا لغيرمعنى التسامح

تجريم الكراهية

 تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعصب كمنتج اجتماعي

ثقافة الكراهية

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سؤال التسامح الساذج: معنى التسامح

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار: سطوة الموروث

في معنى التعصب

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

الهوية المتأزمة

08/10/2013

"الحر يشبع بمخلابه"

لا زلت اذكر اول مقال نشرته حوالي العام 1975، وكان عن "الرق". وقد ولدت فكرته خلال قراءتي لمادة حول الموضوع كتبتها كما اظن د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطيء). صيغت هذه المادة ومعظم مثيلاتها بلغة اعتذارية. فقد كان استمرار نظام الرق في بلاد المسلمين حتى منتصف القرن العشرين ، امرا مؤرقا للمفكرين الاصلاحيين ، الذين ارادوا تقديم الاسلام في صورة اجمل وأقرب لهموم العصر. 
عائشة عبد الرحمن .. بنت الشاطئ
د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطيء)

مسالة العبودية كانت بين ابرز الاشكالات التي واجهها اولئك المفكرون. فكل من خاض هذا المضمار يعرف ان قيمة الحرية في مفهومها المعاصر  ليست راسخة في تراث المسلمين. هذا يرجع في ظني الى اختلاف هذا المفهوم عن ذلك الذي عرفه اسلافنا.
هذا حديث لايهم المجتمعات التي مارست الحرية واعتادت العيش في ظلها. لكنه ضروري لمثل مجتمعنا الذي لازال حديث عهد بفضيلة الحرية.
وجدت في مطالعاتي للموضوع ثلاثة مفاهيم عن الحرية ، رائجة في التراث الثقافي الذي ورثناه من الاسلاف:
1-    الحرية كنقيض للعبودية ، الفرد الحر هو الذي لا يملكه فرد آخر. وهو الشائع بين الفقهاء.
2-  الحرية في معنى التحرر من سيطرة الغرائز (الانا السفلى) . الانسان الكامل هو الذي تحرر من شهواته واخضعها لاملاءات عقله. وهو الشائع بين الفلاسفة والاخلاقيين
3-  الحرية في معنى القوة الشخصية ، البدنية او الروحية ، التي تقي الفرد من الخضوع لاملاءات الاخرين. وهذا المفهوم رائج في الثقافة الشعبية المحكية. ويطلق على الصقر القوي اسم "الحر" ويتغنى الناس ببيت شعر ذهب مثلا "الحر يشبع بمخلابه" في وصف الانسان القوي الشامخ الانف.
واضح ان ايا من هذه المعاني لا تطابق مفهوم الحرية الذي نعرفه اليوم ونطالب به. ابسط تعريف للحرية في المفهوم الجديد هو "عدم تدخل الاخرين اعتباطيا في حياتك". هذا التعريف يشير الى المستوى الاولي للحرية ، او ما يسمى بالحريات الطبيعية التي لا تكتمل انسانية الانسان ولا تتحقق كرامته الا بها ، مثل حرية الرأي والتعبير والعقيدة والعبادة والتملك والتنقل. هذا المستوى سابق للقانون وحاكم عليه. بمعنى ان اي قانون لا يعتبر عادلا اذا خرق ايا من هذه الحريات.
مجتمعنا حديث عهد بفكرة الحرية. ولهذا فهو قد يتساهل مع الخرق المتكرر والاعتباطي للحريات الاولية ، سيما اذا صدر من جهات تتلبس رداء الدين او المصلحة العامة.  وقد اردت تنبيه هؤلاء واولئك الى ان تدخلاتهم في حياة الناس ، بغي بدون حق وظلم صريح ، مهما كانت مبرراته. الدعوة للدين وصيانة الاخلاق وحماية امن الوطن وردع الفاسدين ، مطالب عادلة وشريفة ، فيجب ان تتوسل بوسائل عادلة وشريفة مثلها. فاذا توسلت بالظلم ، كما يتجلى في خرق حريات الناس ، انقلبت الى عكس مقصودها ، فاستحالت ظلما وعدوانا على الناس.

19/08/2009

مجتمع العبيد


؛؛ اهتزاز شخصية الفرد وتبعيته العمياء للاخرين ، هي ثمرة لثقافة عامة تنبذ التسامح وتنكر استقلال الفرد وتساويه في القيمة مع الاخرين ؛؛


حتى منتصف القرن العشرين كان بوسعك ان ترى رجالا ونساءا يباعون ويشترون او يورثون بعد موت اسيادهم ، مثل اي بضاعة اخرى في السوق. لكن العبودية او الرق زالت من العالم تماما. واصبح جميع الناس - من الناحية القانونية على الاقل – احرارا. بالنسبة للمملكة  العربية السعودية فان اخر العبيد قد حرروا بموجب بيان وزاري في نوفمبر 1962.


الكلام حول الحرية لا ينظر اذن الى موضوع الرق، بل الى درجة الحرية التي يتمتع بها الانسان العادي ، اي الفرد الذي يملك نفسه وارادته ، ويستطيع – نظريا على الاقل – ان يفعل ما يمليه عليه عقله او ترغب فيه نفسه. يدور جدل الحرية المعاصر حول الموانع الداخلية ، تلك التي ترتبط بثقافة الفرد وتكوينه النفسي والروحي ، والموانع الخارجية ، اي تلك التي ترتبط بالقانون او السياسة او المجتمع. 

 لعل ابرز المعوقات الداخلية لتحرر الانسان هو الطفولة الثقافية او النفسية ، اي اعتقاد الفرد بانه ما يزال بحاجة الى كفيل او راع او حام او وصي او ناظر او مرشد يفكر نيابة عنه ويختار له طريق السلامة في حياته. تجد مثل هذا الفرد مبهورا بما عند كفيله او مرشده ، وانبهاره هذا يترجم في صورة ذوبان تام في شخصية المرشد اوالكفيل ، بحيث يسير وراءه مغمض العين ، محجوب الفكر . كلامه تكرار لكلام الكفيل وعاطفته انعكاس لحبه وبغضه.

 مثل هذا الفرد لا يوصف بانه حر ، كما انه ليس عبدا في المعنى القانوني . ولعلنا نعتبره ناقص الحرية او تابعا. تجسد الحرية في مفهومها العام قابلية الانسان على صياغة وجوده المستقل ونظام حياته وتعديلها بين حين واخر بحسب ما يمليه عليه عقله. يجادل المفكرون بان هذه القدرة فطرية وجزء من طبيعة الانسان وتكوينه .

 يتميز الانسان على سائر المخلوقات بعقله وارادته وقدرته على اختيار طريقه واعادة توجيه مساره الحياتي بين حين وآخر . يستطيع الانسان تغيير صفاته وسلوكياته بشكل ابداعي ومتجدد ، بحيث يكون هو المتحكم في معيشته ومتبنياته وعمله وعلاقته مع العالم المحيط ، وفي تحديد اهدافه ومصيره  النهائي. شعور البعض بالحاجة الى كفيل ومرشد لا ينفي حقيقة ان كل فرد بذاته قادر على ان يقرر كيف سيكون وماذا سيفعل بغض النظر عن ارادات الاخرين.

قد يظن بعض القراء ان هذه مسألة شخصية ، فطالما كان الانسان قادرا على اختيار الطريق ، فمن الافضل اذن ان ينشغل بها الفرد الذي يعاني منها . لكن الحقيقة انها من قضايا  الشأن العام . افتقار الفرد الى الارادة الحرة ، او تبعيته العمياء للاخرين ، هي ثمرة لثقافة عامة تتصف بعدم التسامح او عدم الاقرار بمكانة الفرد واستقلاله وتكافؤه القيمي مع الاخرين. في غالب الاحيان فان المجموعات المتعصبة والراديكالية تلعب على هذه الورقة .

 تتحول الفكرة المتطرفة الى جماعة متطرفة عندما يقتنع بعض الافراد بالطاعة الكاملة لشخص معين ، قد يكون صاحب الفكرة او رجلا حالما او شخصا ذكيا ذا نزعة قيادية . تتوسع الجماعة من خلال الضغط الثقافي والنفسي على الافراد الاقل قدرة على محاكمة الافكار الجديدة ، ويمارس الاعضاء المتحمسون نوعا من غسيل الدماغ على انفسهم وعلى الافراد المستهدفين ، بغرض اقناعهم بان طريقهم هو سبيل الخلاص الوحيد وان بقية الناس جميعا مضللون او جاهلون . هذه القناعة هي التي تبرر للفرد التخلي عن ارادته بتذويبها في ارادة الجماعة ، وتوجيه عقله ونشاطه الفكري في الاتجاه الذي اختارته الجماعة .

هل يستطيع فرد ذائب في جماعة ان يتحرر منها ؟

نعم هو قادر بكل تاكيد ، لان الانسان يستطيع في كل الاحوال ان يستخرج عقله من صندوق الجماعة المغلق ، ويمنحه الفرصة كي يحاكم وضعه الراهن ويقارنه باوضاع الاخرين او بما ينبغي ان يكون عليه.  وينبغي للمجتمع الذي يخشى من تفاقم دور الجماعات المتعصبة والراديكالية ان يبحث عن الشروط والوسائل التي تجعل افراده قادرين على مراجعة احوالهم ونقدها والتفكير فيها واعادة صياغتها بين حين واخر ، كي لا يصبح انضمام الفرد الى الجماعة الراديكالية اعلانا عن مصيره النهائي.

03/01/2006

ان تكون عبدا لغيرك

كلنا يريد الحرية وكلنا يخاف منها.  نريد التحرر من سيطرة الاقوياء ومن الانظمة الضيقة النظر ، ونرى ان من حقنا ان نعيش كما نريد. لكن ، حين يأتي وقت التطبيق ، ولا سيما حين يمارس غيرنا حريته على نحو يخالف ما ألفناه وما نرغب فيه ، فاننا نشعر بالقلق وقد نكتشف في الحرية التي طالبنا بها ، جوانب مرعبة  تبرر لنا التراجع عن ذلك المطلب ، وربما التنازل عن حريتنا الخاصة.
نريد مثلا التمتع بحرية التعبير عن ارائنا من دون قيود. نريد ان يسمع الاخرون ما نقول في الصحافة والمجالس العامة والتلفزيون. لكن حين يأتي شخص آخر ويوجه الينا سهام نقده ، الى اشخاصنا او معتقداتنا او مواقفنا الاجتماعية ، فاننا ننظر اليه كتهديد ونتعامل مع ارائه كما لو كانت اعلان حرب. في حقيقة الامر فان ما فعله ذلك الشخص لم يكن سوى ممارسة لحق سبق لنا ان مارسناه او طالبنا به. 
بكلمة اخرى فان مشكلتنا مع الحرية تكمن في اننا نريدها لانفسنا فقط وليس لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. يضيق شخص عادي مثلي بآراء الاخرين ويتمنى لو كان بيده القوة لمنع تلك الاراء البغيضة. ولو حصلت لي هذه القوة في يوم من الايام ، فلعلي لا اتردد في تحقيق تلك الامنية ، اي حرمان الغير من حرية التعبير عن ارائهم المزعجة. واذا لم تحصل لي تلك القوة ، فقد ابحث عن وسيلة اخرى مثل توجيه السباب الى ذلك الشخص واتهامه في دينه او اخلاقه او امانته او وطنيته ، على طريقة العربي القديم الذي لم يجد عزاء حين سرقت جماله سوى الشتيمة : "اوسعتهم سبا وراحوا بالابل".
ثمة اسباب متعددة لهذا السلوك الملتبس ، تاريخية واجتماعية وسياسية. ولعل ابرزها هو افتقار تراثنا الثقافي الى مفهوم يشبه مفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم. وحسب تعبير آية الله شبستري ، الفقيه الايراني المعاصر ، فان مفاهيم مثل الحقوق الفردية والحريات المدنية ، هي جديدة تماما في ثقافتنا الدينية وقد اكتشفناها فقط حين اتصلنا مع الغرب[1]. صحيح انك قد تجد في تراثنا الديني اشارات الى حقوق طبيعية للانسان ، ومن بينها مثلا حرية اختيار دينه واختيار طريقته في الحياة. لكن هذه الاشارات لم تتحول الى فلسفة عامة في حياة المجتمع وفي علاقة الافراد مع بعضهم.
قامت فلسفة الحرية في الغرب على استقلال الفرد بنفسه ، وتحرره من تدخل أي طرف خارجي في صياغة حياته ، سواء كان عائلته او مجتمعه او حكومته. وقيل بناء عليه ان علاقة الفرد مع مجتمعه علاقة تعاقدية ، ومثل ذلك علاقة المجتمع مع الدولة. وعلى هذا الاساس جرى قصر تدخل المجتمع في حياة الفرد ، وتدخل الدولة في حياة المجتمع ، على الحد الادنى الذي يوافق عليه الفرد. 
ونتيجة لهذا ، اعتبر الدين والثقافة والسلوك الشخصي ونمط المعيشة ، امورا شخصية لا يحق للمجتمع او الدولة فرضها على الافراد. وذلك لان الافراد ارادوا ان يتحرروا من تدخل غيرهم في هذه الامور. ارادوا ان يعبدوا ربهم بالطريقة التي يرونها مناسبة ، وان يفكروا ويعبروا عن افكارهم الى المدى الذي تصله عقولهم ، وان يعيشوا حياتهم من دون انشغال بما يعجب فلانا او يرضي علانا. 
في حقيقة الامر فان الحياة والدين والثقافة لم تعد عبئا ثقيلا على الانسان ، بل ممارسة حرة مريحة. ولهذا فان المسلم الذي يعيش في الغرب ، لا يجد عسرا في التعبير عن دينه او رأيه ، او اختيار لباسه او نمط معيشته او العمل الذي يلائم خبراته.
اما في بلاد المسلمين ، فلا يستطيع المسلم ان يجاهر برأي يخالف الراي السائد ، او يلبس لباسا يخالف العرف السائد ، او يعمل عملا يخالف التنميط السائد. في نهاية المطاف فان حياة الانسان تتحول الى عبء عليه ، ولا بد ان يتكلف حتى يرضي الناس ويسلم من السنتهم او ردود فعلهم. الناس يريدونك ان تكون مثلهم ، تقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون ، لان الجميع متفق على ان الفرد غير موجود ، واذا وجد فلا قيمة له ولا اعتبار. الجماعة هي الموجود الوحيد المعتبر ، وعلى كل فرد ان يذوب فيها او يعتزل.
نعود الى مقالة شبستري ، الذي يرى ان المسلمين قد تعارفوا على القبول بمفهوم الحقوق الفردية والحريات المدنية ، لان الفقهاء – بعضهم على الاقل – قد اقر بها ، فدخلت في النطاق المعرفي الديني وان لم يكن لها اصل راسخ في ماضيه. وهذا الاقرار يمثل خطوة اولى في طريق تحويلها من فكرة عامة غائمة الى اصل من اصول حياتنا وفلسفة تقوم عليها ثقافتنا ونظرتنا الى انفسنا والى الناس والعالم المحيط بنا. 
الحقوق الفردية والحريات المدنية تعني – في جانبها الفلسفي – ان كل انسان حر:  يولد حرا ويبقى حرا ، حرية لا يستطيع احد مهما بلغ شأنه ان يسلبها منه او يستنقصها او يحددها. هذه الحرية ليست فقط حرية الانسجام مع الاراء السائدة وانماط المعيشة المتعارفة ، بل هي في الاساس حرية اختيار هذه الاراء والانماط ، فلو اراد شخص ان يخالف المجتمع ، كأن يغير معتقداته ، او اراءه ، او انتماءه ، او طريقة حياته  ، فذلك كله حق طبيعي له.
لكل انسان الحق في اختيار الحرية او اختيار العبودية ، وبطبيعة الحال فان غالبية الناس يأبوا ان يكونوا عبيدا لغيرهم ، لكنهم يستمرئون العيش كأتباع ، تبعية لا تختلف – من حيث الجوهر – عن العبودية. وقد يرون في هذا القدر من العبودية راحة نفس او سعادة او مصلحة. هم احرار في ان يفعلوا هذا لانهم احرار في اختيار نوعية حياتهم ، وغيرهم – بنفس القدر - حر في مخالفة هذا السبيل ولنفس الاسباب. تلك هي اولا واخيرا فلسفة الحرية.

[1] محمد مجتهد شبستري: الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
   الايام - الاسبوع الاول من يناير 2006

مقالات ذات علاقة


 ان تكون عبدا لغيرك

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...