قلنا في مقال سابق إن عدالة
النظام الاجتماعي رهن بتوفر الضمان القانوني للحريات الفردية. وهذا يتعارض إلى حد
كبير مع النظريات التي ترى أن القانون بطبعه قيد على الحرية. من المفهوم أن
القانون ضروري لسلامة الحياة الاجتماعية مثلما الحرية ضرورية لانسانية الانسان.
الاشكالية اذن تكمن في الموازنة بين متطلبات هذه ومتطلبات ذاك. وهذا يقودنا بالضرورة
إلى التساؤل عن كيفية ضمان القانون للحرية.
في الحقيقة فإن العدو الأول
للحريات الفردية هو التدخل الشخصي والاعتباطي في خصوصيات الناس ومصالحهم وإرادتهم.
في المقابل يتميز القانون
بالثبات وعدم التمييز بين شخص وآخر أو بين حالة وأخرى. وحسب تعبير مونتسكيو الفيلسوف
الفرنسي الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» فان الحرية هي أن «لاتكون مجبرا على فعل
شيء لم يأمر به القانون، وأن لا تمنع من شيء لم يمنعه القانون. ذلك لان القانون هو
الحاكم، نحن أحرار لاننا نعيش تحت قانون مدني».
في أي نظام اجتماعي ثمة فرص
لتدخل الأقوياء في حياتك. وفي غياب القانون فأنت مضطر لاستخدام قوتك الجسدية أو
المال أو العلاقات الشخصية لتحييد أو اعاقة التدخلات الاعتباطية والشخصية. لكن كم
من الناس ياترى يملك المال أو القوة أو العلاقات، أو يستطيع استخدامها لضمان
مصالحه ؟. في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إقامة نظام اجتماعي
سليم. وجود القانون هو الضمان الوحيد لمصالح الجميع بغض النظر عن قوتهم الشخصية.
عمومية القانون هي أبرز
الفوارق بينه وبين التدخلات الشخصية التي تصاغ عادة في صورة أوامر ادارية. تصدر
هذه الأوامر لمعالجة حالة خاصة، أما القانون فهو يقوم على مبدأ عام ويتوجه للجميع
دون النظر إلى أشخاص بعينهم أو حالات بعينها. ولهذا فان القانون يبقى ساريا إلى أن
يلغى بقانون مماثل، بينما ينتهي مفعول الأوامر الادارية فور انتهاء موضوعها الخاص.
من ناحية أخرى فان القانون
هو تقرير للأغراض المستهدفة. فهو يصدر بعد دراسة متأنية ويشرح في ديباجته العلل
التي اوجبت صدوره. ولهذا قيل إن القانون لا يطاع إلا إذا كان معلنا ومعروف
المبررات. أما الامر الاداري فيعبر عن إرادة المدير، وربما يصدر في لحظات انفعال
ومن دون دراسة متانية أو من دون أن تكون متوقعة من قبل عامة الناس. كما لا يتضمن
تعليلا قانونيا مفتوحا لنقد العامة وتدقيقها.
وقد تقرر في نظام أثينا القديمة أن
فهم الناس للقانون هو ما يوجب طاعتهم له. وكما يقول هانز- جورج غادامر الفيلسوف
الألماني، فإن أحد الأركان الكبرى في فكرة النظام القانوني هو أن أحكام القاضي
قابلة للتنبؤ مسبقا لأنها تقوم على مبررات وقواعد قانونية معروفة للجميع. وهذا هو
الذي يجعل القانون علة للاستقرار. كل محام أو مستشار قادر من حيث المبدأ على إعطاء
مشورة صحيحة، أي أنه قادر على التنبؤ بشكل صحيح بقرار القاضي بناء على القوانين
الموجودة.
يتميز القانون أيضاً بأنه
ضامن للحقوق والالتزامات التي أنشئت في ظله حتى بعد إلغائه. ذلك لأن القوانين
العادلة لا تكون رجعية، بمعنى أن مفعولها يسري منذ لحظة إعلانها، فلا تلغي حقا جرى
اقراره في ظل قانون سابق. فاذا حصل مواطن على حقوق أو مصالح أو التزامات في إطار
القانون، فإنها تبقى قائمة محترمة حتى لو صدر قانون جديد مختلف. ومن هنا يستطيع
الناس التخطيط لمستقبلهم بثقة واطمئنان، لأن أحداً لن يستطيع نقض مكتسباتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق