مهما كان رايك في النموذج
اللبناني فانه يكشف عن عمل سياسي متقدم على معظم نظائره في البلدان الاخرى . واريد
الاشارة خصوصا الى القدرة الباهرة على الانتقال من حالة الشقاق الى حالة الوفاق.
قبل شهر تقريبا رأينا ممثلي حزب الله على طاولة واحدة مع زعماء سلفيين . مثل هذا
التلاقي كان مفاجئا ومدهشا لانه جمع بين فريقين يقفان على طرفي نقيض . لم ينجح ذلك
الاتفاق لكنه شكل اختراقا غير مسبوق.
بعد ذلك بايام ، فوجئنا بمفاوضي حزب الله
على طاولة واحدة مع ممثلي وليد جنبلاط ، الذي يعتبر المحرك الرئيس للصراع بين
الموالاة والمعارضة . والواضح ان لقاء حزب الله مع السلفيين في طرابلس ومع جنبلاط
في الجبل قد جعل اللقاء بين الحزب وتيار المستقبل الخطوة التالية المتوقعة . وهذا
ما حدث فعلا . من يقارن الكلام الدائر في الساحة اللبنانية خلال الاسبوع الاخير من
رمضان بذلك الذي كنا نسمعه في اول الشهر
سيصاب قطعا بالدهشة ، او سيفهمه كتعبير عن حيوية النموذج السياسي اللبناني وقدرة
رجاله على الانتقال – من دون مقدمات احيانا – بين المواقف المتناقضة .
الامر يبدو محرجا بعض الشيء
للمراقبين خارج لبنان وللسياسيين المهتمين بالشان اللبناني او المتعاطفين مع احد
اطرافه. المتعاطفون مع المعارضة تكلموا عن رموز الموالاة كاعداء وعملاء ، والمتعاطفون
مع الموالاة تحدثوا عن المعارضين كاطراف في مؤامرة تستهدف العرب باجمعهم . لكن
السياسيين اللبنانيين كانوا ينظرون الى هذا الكلام كاوراق قوة يجمعونها كي
يطرحونها في الوقت المناسب على طاولة التفاوض مع منافسيهم . بالنسبة للسياسيين
اللبنانيين فان اي طرف من اطراف الصراع هو قوة سياسية محلية اولا واخيرا ، مما كان
لونها ومهما كانت تحالفاتها الخارجية . وهم يتصارعون فيما بينهم من اجل كسب مواقع
او تعزيز مواقف ، وهم يستثمرون الكلام الذي يقوله المراقبون والسياسيون خارج لبنان
، لكنه لا يهمهم جديا ولا يعتبرونه دليلا لهم .
استغل اللبنانيون فرصة رمضان
المبارك لترتيب اوراقهم مع بعضهم البعض . تصالحت الموالاة والمعارضة ، او بدأوا
مشوار المصالحة ، وتراجعت حملات التخوين والاتهام ، لتحل محلها ادبيات التوافق
والسلام . جميع الفرقاء ينظرون الى استحقاقات العام القادم حين ياتي موعد
الانتخابات النيابية ، ويحتاج كل طرف الى الاخر لضمان موقعه في الساحة السياسية .
في مقابل هذا التوجه
الايجابي ، استغل الشيخ يوسف القرضاوي فرصة رمضان لاطلاق حملة تخويف عنوانها
"الاختراق الشيعي للعالم السني" . كانت هذه فرصة لعدد ملحوظ من الباحثين
عن فرصة لاسماع اصواتهم من الفريقين الشيعي والسني . الشيخ راشد الغنوشي الذي
يكافح منذ سنين للحفاظ على اسمه في التداول السياسي علق قائلا ان جماعات شيعية
استغلت غياب حركة النهضة التي يتزعمها لاختراق المجتمع التونسي .
بعض السلفيين
السعوديين الذين كانوا يعتبرون القرضاوي عدوا لدودا ، اعاد النظر في هذه الاوصاف
واكتشف انه رجل المرحلة وزعيم الحركة الاسلامية الذي لا ينازع. على الجانب الاخر ،
استغل عدد من المشايخ والكتاب الشيعة تصريحات القرضاوي فاطلقوا حملة تشهير بالرجل
واتهموه بالانزلاق الى مواقف منسجمة مع الصهيونية والامبريالية ، وما الى ذلك من
الكلام المعتاد في ادبيات السجال الطائفي.
ما يدعو للعجب ان كثيرا من
هذا الكلام كان تموجا لما سمعناه من سياسيين ورجال دين لبنانين اثر اجتياح
المعارضة التي يتزعمها حزب الله لغرب بيروت في مايو الماضي. ويعتبر غرب العاصمة
اللبنانية منطقة نفوذ لزعماء الطائفة السنية ، ولا سيما تيار المستقبل الذي يقوده
سعد الحريري.
كثير من الذين تناولوا ذلك الحادث بالتحليل او اتخذوا مواقف منه ،
اعتبروه انقلابا شيعيا على السنة او اختراقا موسعا للمجتمع السني وما الى ذلك .
وهذه الاوصاف والتحليلات جاءت اولا على لسان سياسيين لبنانيين . لكن هؤلاء سرعان
ما تجاوزا هذا الكلام وانصرفوا لترتيب البيت من خلال الحوار مع من كانوا اعداء .
لكن جماعتنا لا زالوا يكررون
الكلام الاول الذي قيل في مايو ويونيو . اللبنانيون نجحوا خلال اربعة اشهر في
تغيير سكة القطار من التصارع الى التفاهم . اما الجماعة الذين حجزوا مقاعد
المتفرجين فالواضح انهم لازالوا مشغولين بانهاء فروض الصراع . ولعلهم يريدون
استنفاذ ذخيرته قبل ان ينتهي زمنها .
خرج اللبنانيون من رمضان وهم
اقرب الى بعضهم ، وخرجنا من رمضان ونحن ابعد عن بعضنا ، فكرمى لهم ونعم ، واسفا
علينا وعلى شيوخنا وزعمائنا . اني آمل ونحن في العيد ان نستعيد معناه الابرز ، اي
التراحم والتعاطف وان نتحدث حديث المحبة والسلام ولو تكلفا وتصنعا . في نهاية
المطاف فان الكلمة الطيبة تطيب الخواطر والنفوس حتى لو كانت مصطنعة ، بخلاف كلمة
الفراق المؤذية والمؤلمة ، حتى لو صدرت عن فم مخلص.
يناير 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق