‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرب الاهلية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرب الاهلية. إظهار كافة الرسائل

09/01/2025

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 

مطالعة النظريات السياسية ليس هواية رائجة في العالم العربي ، حتى بين نخبة البلد ، فضلا عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي اعنيها هي التحول الجاري في سوريا ، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة ، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية ، الى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور ، فضلا عن العوامل المادية ، لا سيما الاقتصادية والعسكرية ، التي تسهم في صنع او توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلا مفهوم "العدالة الاجتماعية" الذي أجده غائبا عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاما يلقى على عواهنه ولا هو جلد للذات. وان اردت التحقق من صحته ، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم ، او يوم امس ، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاجه جميعا ، الآن وغدا وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصا ، نابع من كونها جوهر عمل الدولة ،  إضافة الى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. استذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر ، الذي رأى ان إدراك حقيقة "العدالة الاجتماعية" مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: افترض انك مكلف بوضع قانون للبلد ، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي) وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين او الثقافة او الجنس او العرق او العقيدة السياسية ، الخ.  فكيف ستعاملهم ، هل ستعطيهم حقوقا تساوي ما اخذته لنفسك ، ام تقرر ان الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟.   الواقع ان هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس ، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة ، او ينتمون الى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي) ، فهؤلاء جميعا يرون ان للأكثرية حق الانفراد بالقرار ، وعلى الأقلية ان تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر ان هذا خداع للذات ، وان علاجه بسيط: تخيل ان ظروفك انقلبت ، فأمسيت في مكان الأقلية ، في بلدك او في بلد غريب ، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل اليها سابقا ، ام ستراها غير عادلة. اظن ان كثيرا من انصار الحكم السابق في سوريا ، سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى الم يكن الأفضل لهم ان يقيموا سياسات البلد على اصل المساواة والعدالة ، أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية ، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟.

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة ، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال ، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: ايهما خير لهم.. ان يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم اقصاء أي شريك وطني ، مهما خالفهم سياسيا او أيديولوجيا او عرقيا او غيره ، او ان يواصلوا سياسات من كان قبلهم ، ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟.

اما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري ، فهي الحاجة الى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي ، وذهب احدهم الى انكار سيادة لبنان ، واعتبر ان ضمه الى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وامثالها تنم عن حالة انفعالية ، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار ، ان يتجنبوا الانسياق اليها. ان اهم أولويات النظام السوري الجديد – في رأيي – هو ضمان الأمن للجميع ، حتى المجرمين والسفلة ، فضلا عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعا للجميع وملجأ للجميع ، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط ، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

الخميس - 09 رَجب 1446 هـ - 9 يناير 2025   https://aawsat.com/node/5099400

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية
الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

هكذا انتهى زمن الفضائل

19/12/2024

دعوة للخروج من قطار الكارثة

أود في هذه السطور التأكيد على الرؤية التي تبنتها مجموعة الاتصال العربي حول سوريا ، في اجتماعها بمدينة العقبة ، جنوب الأردن ، يوم الجمعة الماضي. الرؤية حظيت بدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا ، فضلا عن الأمم المتحدة. وهي تشدد على إعادة بناء الدولة السورية ، بما يجعلها أوسع تمثيلا للمجتمع الوطني ، وجعل السلام خيارا وحيدا في العلاقة بين أطياف المجتمع.

يهمني جدا دعوة النخب العربية ولا سيما الاشقاء السوريين ، لدعم تلك الرؤية ، والاسهام في إعادة توجيه القطار السياسي نحو السلام واستئناف الحياة الطبيعية ، بعد عقد ونصف من التنازع الذي خلف دمارا هائلا في هذا البلد الجميل.

الداعي لهذا هو ما اسمعه من دعوات للانتقام ، أو تقاسم الكعكة ، او محاسبة المنتصرين ، او البحث عمن يتحمل المسؤولية عما جرى في السنوات الماضية. اعلم ان بعض هذه الدعوات منبعث من حمية صادقة ، لكني اعلم ايضا ان اكثرها هوس بالملاحم والصراعات ، والحماسة للفتن بمبرر وغير مبرر.

طيلة عقد ونصف تورطت سوريا في قطار الحرب الاهلية ، فترك 17 بالمائة من سكانها بيوتهم قسرا ، وانخرط مليون شخص في الحرب والنشاطات المتصلة بالحرب. وتعطلت جميع المدن الصناعية وسرقت معدات المصانع ، حتى القديمة منها. كما توقفت الاستثمارات الجديدة في مختلف القطاعات ، الصناعية والزراعية والخدمية. ونتيجة لهذا كله ، انخفض مستوى المعيشة ، فأمسى نصف السكان تقريبا في حالة فقر مدقع ، بدخل شهري يصل بالكاد الى 50 دولارا.

غرضي من هذا الكلام ليس بيان حجم الكارثة ، بل اقناع المترددين بأن اختيار السلام بعد عقد من التنازع ، ليس أمرا هينا ولا كلاما يلقى على عواهنه.

في زمن الحرب ، تتحول الحرب الى مصدر عيش لشريحة كبيرة من الناس ، وتمتليء النفوس بالحماسة والرغبة في الانتقام. كما توفر الفرصة للطامحين للزعامة كي يظهروا كفاءتهم في الحشد والتعبئة. وثمة – إضافة الى هذا – حكومات وجماعات ، تستفيد من الحرب اقتصاديا او سياسيا.

هذه العناصر التي تتبلور في ظرف الحرب ، لا تتحول بين عشية وضحاها الى مكونات سلام. لا يتخلى الناس عن مصادر عيشهم دون تمهيد مناسب. ولا تبرأ النفوس من أوهام الغلبة والرغبة في الانتقام ، دون قيام ظرف جديد ، يجعل الظرف السابق مستحيلا او غير مفيد ، بحيث يضطر المقاتلون والمستثمرون في الحرب للبحث عن مصادر عيش بديلة. الحقيقة ان علينا المساعدة في توفير مصادر العيش البديلة هذه ، ومساعدة المقاتلين وغيرهم على استثمارها. كذلك الامر بالنسبة للزعماء والمستفيدين من الحرب ، والجهات والدول التي كانت صاحبة مصلحة. كل هذه الأطراف يجب ان تحصل على بدائل مكافئة ، او على الأقل قريبة مما كانت تحصل عليه في الماضي ، كي لا تجد ان مصلحتها محصورة في إعاقة قطار السلام.

 فيما يخص النظام الجديد الذي لم تتضح صورته ، أرى ان المسألة الأكثر أهمية في هذه اللحظة ، هي تشجيع القوة السياسية المسيطرة على صيانة جهاز الدولة ، حتى لو كان فاسدا او ضعيف الفاعلية. تجارب الحروب والنزاعات الاهلية ، تخبرنا ان تفكيك الحكومة يجعل إعادة البناء مستحيلة ، كما يجعل الارتياب المتبادل حاكما على العلاقة بين أطياف المجتمع الوطني. لابد في ظرف كالذي تعيشه سوريا من "اللفياثان" بحسب منطق توماس هوبز ، أي القوة الرادعة للجميع والحاكمة فوق الجميع ، ولو كانت غاشمة. هذا ضرورة لسوريا ولدول الجوار أيضا. فاذا استقرت الأمور ، بات ممكنا فتح الباب لنقاش حر حول النظام الأكثر ضمانا للعدالة ، والأدق تمثيلا لمصالح كافة المواطنين.

اختم بدعوة الدول العربية جميعا الى الوقوف ماديا ومعنويا مع سوريا ، ودعم اقتصادها بشكل فوري ، كي ينخرط السوريون في مسيرة بناء بيوتهم ومزارعهم واعمالهم ، وبالتالي يوقفون امدادات الوقود التي كانت تغذي ماكنة الحرب.

الشرق الأوسط الخميس - 18 جمادى الآخرة 1446 هـ - 19 ديسمبر 2024

https://aawsat.com/node/5093110

مقالات ذات علاقة

 اجتياح الحدود

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة
عرب اوكرانيا وعرب روسيا
مصير المقاتلين الامميين
الواعظ السياسي

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

 
  

04/04/2024

جندية تحمل طفلا

في ابريل من العام الماضي 2023 نشرت قناة سي ان ان الاخبارية الامريكية ، صورة الجندية السعودية "أمل العوفي" وهي تحتضن طفلا وصل للتو الى ميناء جدة ، مع امه التي فرت به من الحرب الاهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: "أمن وأمان وحنان.. مجندة سعودية تخطف القلوب". هذه الصورة جابت العالم شرقا وغربا ، نشرها العديد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأثارت تعاطف الملايين من القراء ، لما تظهره من حنان ورحمة ، يتمنى كل البشر ان تكون السائدة في علاقتهم ببعضهم.

تخيل انك مررت بهذا المشهد ، فهل سترى فعل الجندية حسنا ام قبيحا؟. ماذا لو مر بها شخص مسيحي او بوذي او هندوسي او وثني او ملحد ، هل سيحبها ام يبغضها؟.

لننظر الآن في الوجه المعاكس.. تخيل ان هذا الطفل كان غريبا جائعا تائها عن أهله ، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه ، فكيف سيكون رد فعلك ، كيف سيكون رد فعل أصحاب الاديان الاخرى والذين لا دين لهم ، هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع ، ام سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده.

اضف الى هذا.. هل سألت انت عن دين الطفل الذي حملته الجندية أمل ، هل سأل الذين شاهدوا صورته في اي صحيفة أخرى عن هذا ، ام فرحوا بفعلها لانه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الانسان كانسان ، أيا كان دينه وعرقه وموطنه.

ماذا عن الطفل الآخر ، هل ستسأل عن دينه قبل ان تعطيه شربة ماء ، هل سيسأل اتباع الاديان الاخرى عن ذلك؟.

لقد اخترت هذين المثالين ، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته في الاسبوع الماضي ، اي فعل الخير كجزء من علاقة البشر ببعضهم ، لا باعتباره جزء من اي شريعة او قانون.

-         لكن لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلح عليه... ألا تأمر كافة الاديان بعمل الخير؟.

الواقع ان الاديان – في عمومها – تأمر بفعل الخير لكل انسان ، وتعتبره صفة ملازمة للايمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظم سلوك الأفراد ، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الاحسان للضعفاء ، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها احسنت الى كلب ، واخرى دخلت النار لانها حبست قطة حتى ماتت جوعا. هذا في التوجيه العام. فماذا عن الاحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمن يتبع مذهبا او دينا مخالفا ، ويصنف عندهم كافرا او مبتدعا او غير مؤمن. بل ثمة من يفتي بعدم رد السلام عليهم ، او الاكل من طعامهم او التبسم في وجوههم او افساح الطريق لهم او مشاركتهم في الاعمال.. الخ.

 لا ينبغي الظن ان هذا يقتصر على مذهب دون آخر ، فهي موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الاسلامية. وموجود مثلها واكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان ، على مستوى التنظير او التوجيه. خذ مثلا تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689-1755) للرق ، حيث يقول:

"لا يلقى في الذهن كون ﷲ البالغ الحكمة قد وضع روحا طيبة في جسم تام السواد.... محال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى". مع العلم بان تعاليم السيد المسيح تعتبر بني آدم كافة اخوة في الله.

الاحظ دائما ان الناس يذكرون المباديء العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم ان المبدأ العام يعبر عن الايمان وينسب الى الله ، أما الفتوى فتعبر عن هوية الجماعة/المذهب وتنسب الى الفقهاء او الائمة. لهذا اقول ان الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الايمان بالله ، بينما الخير المخصص (واحيانا الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة/المذهب.

الشرق الاوسط الخميس - 25 رَمضان 1445 هـ - 4 أبريل 2024 م     https://aawsat.news/w24dd

 مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دين الانسان

الـدين والمعـرفة الدينـية

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

21/06/2023

ماذا جرى للسودان ، اين الميل للمسالمة واللين؟




لو سألني أحد عن أكثر العرب ميلا للتسالم وابعدهم عن التنازع ، لما اخترت غير السودان. لا اقصد بطبيعة الحال كل فرد في هذا البلد ، ولا كل فرد في غيره. انما أشير الى السمة العامة التي نطلقها على البلد كمجموع ، دون خشية الاتهام بالمبالغة او التفريط. اظن ان كثيرا من القراء يوافقني في هذا.

مع ذلك ، فان هذا البلد ينزلق الان نحو حرب أهلية ، لا سمح الله.

هل الميل للتسالم مجرد صبغة خارجية ، هل الذي امامنا واقع لا نعرف تفاصيله: مجتمعات عديدة بعضها خشن وبعضها لين ، بعضها ظاهر وبعضها مجهول؟.

هذا سؤال يتعلق بطبائع المجتمعات. وهي – كما نعرف - ليست صفات تنتقل عبر الجينات ، من الآباء للابناء ، كما اعتقد كتاب الازمنة القديمة ، بل هي انعكاس للعقل الجمعي أو الذهنية العامة ، أي محصلة التفاعل المتواصل بين مستخلصات التجربة التاريخية والتوجيه الثقافي او الديني ، إضافة الى تأثيرات الواقع المعاش ، لا سيما الوضع الاقتصادي والسياسي.

حسنا.. لو افترضنا ان الذهنية العامة تتشكل بتأثير عوامل عديدة ، فما هي هذه العوامل وما هو نصيب كل منها في تكوينها النهائي؟. هذا السؤال ضروري كي نفكر في اهداف المعالجة وكيفيتها.

أعلم ان بعضنا سيبادر بتوجيه اللوم للتراث ورواته ودعاته. ولعله يندد بتقصيرهم في حث الناس على التسالم ونبذ العنف. وفقا لهذا الرأي ، فالميل للمسالمة او العنف حالة ذهنية ، واعية او عفوية ، قابلة للتعديل بواسطة التوجيه والإرشاد. البعض الآخر سيختار الاتجاه المعاكس ، فيكرر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". وهذا يربط الميول العنفية بالتوتر النفسي المتصل بالفقر المدقع. أي ان الميل للعنف تعبير عن ضعف سيطرة العقل على المشاعر. ثمة فريق سيربط التوتر بالانقسام الطبقي ، لاسيما جمود الحراك الطبقى وفشل الشريحة المتعلمة في انهاء التصنيف القسري ضمن الطبقة الدنيا.

والحق ان هذه جميعا احتمالات واردة. لكن يصعب تحديد أي منها كمؤثر تام. ان السوداني مشهور بالميل للمسالمة واللين. لكن دراسات اجتماعية تظهر ان السودانيين يختزنون – على المستوى الفردي – ميلا قويا للمنازعة. في نهاية 2017 مثلا أظهرت احدى الدراسات ان 60% من السودانيين يفكرون في الهجرة ، وهي نسبة تتجاوز حتى البلدان المنخرطة فعليا في نزاع داخلي ، مثل اليمن والأراضي الفلسطينية وليبيا. ولاحظت الدراسة ان حوالي نصف الذين يفكرون في الهجرة ، لا يمانعون من السفر دون وثائق رسمية ، بعبارة اخرى فهم غير متحفظين ازاء مغامرة ربما تودي بهم للسجن أو الموت ، كما حصل تكرارا لقوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط ، والمتسللين عبر الحدود الشمالية الغربية الى ليبيا.

هذا النوع من التفكير لا يعبر عن "عقل جمعي" بل عن شعور فردي بالاحباط واليأس. لكن المشكلة ان هذا الشعور ينتشر بين مئات الآلاف  ، سيما الشباب ، بحيث يتحول تدريجيا الى ظاهرة عامة ، يمكن ان تغير الصورة اللينة التي ذكرتها سابقا ، او على الاقل تشكل ظاهرة فرعية موازية لها.

ما يحدث اليوم في السودان من عنف متصاعد ، قد يكون ثمرة لتفاقم الشعور الفردي بالاحباط. واذا صح هذا الاحتمال ، فان البلد مقبل على انهيار تام للأمن الداخلي ، وتفاقم الاعتداءات على الاملاك الشخصية والعامة ، بشكل غير مسبوق.

الفارق بين التحولات النفسية العامة والفردية ، ان المجتمع يحافظ في الحالة الاولى على قدر من التضامن بين الجميع ، بحيث لا يعتدي احد على الاملاك الخاصة للاخرين. اما في الحالة الثانية فان الانفلات الاخلاقي يجعل الفرد متجردا من اي قيد ، لا يردعه سوى الخوف من السلاح المقابل. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 03 ذو الحِجّة 1444 هـ - 21 يونيو 2023        https://aawsat.news/b4gz5

مقالات ذات صلة

 استعادة الايمان بالذات

استمعوا لصوت التغيير

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 بحثا عن عصا موسى

تفكيك التداخلات

حق الأكثرية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

الفقر والإحباط والغضب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

المال كوسيلة لتبريد التوترات المحلية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

من الحلم الى السياسة

من تديين السياسة الى تسييس الدين

من جيل الى جيل

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

 

07/04/2021

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

 ثمة خبر نقلته الصحف في الأسبوع المنصرم ، لكنه لم يثر سوى القليل من اهتمام المراقبين. وفحواه ان الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان- فرع الشمال ، توصلا الى وثيقة مباديء ، تمهد الطريق أمام اتفاق نهائي للسلام. والمعتقد ان قبول الحكومة بتعديلات دستورية ، من بينها ضمان حرية الاعتقاد والعبادة للجميع ، وفصل الدين عن الدولة ، هو الذي سهل الاتفاق على التسالم ، بعد نزاع مسلح استمر نصف قرن.

محمد محمد طه

لا اظن ان هذا سينهي التوترات الاثنية في السودان ، مع انه خطوة واسعة جدا ، نظرا لاقرار الحكومة بان جوهر المشكل يكمن في النظام والثقافة السياسية  المهيمنة ، وليس في تدخلات الأجانب كما كان يقال دائما.

اعتقد ان تازمات الهوية ليست من نوع الازمات التي تملك وقودا ذاتيا. فهي ليست قابلة للتفجر حيثما وجدت. ثمة مثل شعبي مشهور ، يبدو ان رجال الدين عملوا على تكريسه ، يقول "الذي ليس على دينك لا يعينك" وفحواه ان العقيدة الدينية هي العامل الحاسم في توجيه سلوك الأشخاص. لكن هذا غير صحيح ، الا اذا تمت ادلجة الافراد ، أي اقناعهم بان الفريق الذي ينتمون اليه ، هو الوحيد المستقيم ، وان غيرهم مشكوك.

تحولات السياسة (ومعها توازنات القوى) والاقتصاد وربما الثقافة ، هي العامل الذي يوجد الفرصة لتحويل خطوط التنوع الى خطوط اختلاف ومن ثم تنازع. 

قد تختلف عوامل التأزيم بين وقت وآخر. لكني اود الإشارة الى عامل مشترك يعرفه جميع الناس ، لكنه لم يدرس على نطاق واسع. اعني به ما اسماه د. برهان غليون "الاستئثار بالراسمال الرمزي المشترك وادعاء الانفراد بملكيته".

هذا العامل مهم لانه يعطي القوى السياسية أداة قوية لقهر المختلفين في المقام الأول ، ثم المشابهين في مرحلة تالية. في السودان مثلا ، استعملت القوى السياسية  التنوع الديني والاثني كوسيلة استقواء. وقد شارك في هذا حركيون إسلاميون ، وجماعات صوفية ، وقوميون عرب ، ومجموعات قبلية ، وأخرى مسيحية تناضل للاعتراف بحقوقها المتساوية ، وربما أصناف أخرى لا اعرفها.

دعنا نأخذ السلوك السياسي للإسلاميين كمثال (وهم عدة اتجاهات كما نعرف) فقد ادعوا أولا انهم الحراس الوحيدون للاسلام. والإسلام راسمال ثقافي يشترك فيه جميع السودانيين ، بمن فيهم غير المسلمين. في الحقيقة فان الخطاب الذي حظي بالغلبة ، قد نجح في تحويل مفهوم الانتماء للاسلام بالمعنى الاجتماعي-الثقافي ، الى انتماء بالمعنى الفقهي والايديولوجي ، الذي يؤدي بالضرورة الى اقصاء غير الملتزم بالمذهب الفقهي الخاص بالقوة الغالبة.

في اول الامر كان المتضرر هو المسيحي والوثني والملحد. لكنه مع الوقت بدأ يطال المسلم الذي يتبنى مذهبا مختلفا ، او يأخذ باجتهاد مختلف. (نتذكر هنا المرحوم محمود محمد طه الذي اعدم في يناير 1985 بعدما اتهم بالردة). بعبارة أخرى ، فان نجاح أصحاب القوة في اقصاء المختلفين (الذين صادف انهم اقلية في معادلات القوى) أدى تاليا الى اقصاء المشابهين ، الذين يشكلون أكثرية عددية لكنهم يفتقرون الى القوة المادية او السياسية.

قد يبدو ان المشكلة تكمن في اقحام الإسلام في الحياة السياسية ، وهذا هو الذي يبرر دائما الدعوة لفصل الدين عن الدولة. لكني اميل الى الظن بان المشكلة تكمن في ميل بعض الأطراف الى استعمال الهوية في السياسة. وهو ميل يدعمه انزعاج قوى اجتماعية معتبرة ، من التنوع والتعدد الديني والثقافي ، والإصرار على الوحدة التي تفسر عندهم بإلغاء الألوان المختلفة ، وتحويل الناس جميعا الى نسخ متشابهة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شعبان 1442 هـ - 07 أبريل 2021 مـ رقم العدد [15471]

https://aawsat.com/node/2903931/

مقالات ذات صلة

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...