يفخر المسلمون عادة بأن دينهم اختص العلم بمرتبة عالية ،
كما احترم العقل ومجد "اولي الالباب" وخصهم دون بقية الخلق بجانب من
الخطاب القرآني.
لكن لو أردنا الغوص في معنى هذا الكلام ، أي مكانة العلم
والعقل في حياة المسلم وفي التشريع الديني ، فربما نجد ان ما نفخر به لفظيا ،
نتحاشاه او حتى ننكره ونرفضه على مستوى العمل.
اذا كنا نقبل بمكانة سامية للعقل وما ينتجه من علم ،
فالمفترض ان يظهر برهانه في نقاط الاشتباك وموارد التنازع ، وليس في تدبيج الكلام.
ونقطة الاشتباك الأولى هي تحديد مكانة العقل مقارنة ببقية مصادر التشريع ، ثم
الموازنة بين دور العقل ودور المصادر الاخرى في وضع او اختيار الاحكام.
ويذكر ان فقهاء المسلمين متفقون على مصدرين للتشريع هما
القرآن والسنة. لكنهم اختلفوا في العقل والاجماع. والميل الغالب يتأرجح بين انكار
كون العقل مصدرا للتشريع ، وبين اعتباره ملحقا بهما ، وان دوره هو الكشف عن الحكم
الذي يفترض ان يحويه النص ، وليس اصدار الحكم بشكل مستقل عن النص.
الفرق بين الاثنين يتضح في الأمثلة التالية: يأمرنا النص
باقامة حد القتل ، ويخبرنا العقل بناء على معطيات علمية بحتة ، بان هذا الحكم لا
يؤدي غرضه الرئيس اي استئصال الجريمة ، او ان تطبيقه يسيء لصورة الاسلام او مجتمع
المسلمين. مثال ثان: يخبرنا النص بالصوم
اذا شهد شهود بانهم رأو هلال رمضان ، ويخبرنا العلم ان الرؤية مستحيلة في ذلك
اليوم. مثال ثالث: يخبرنا النص بان الفائدة على القروض حرام مطلقا ، ويخبرنا العقل
بان الاقراض والاقتراض ، سبيل لازم للنمو الاقتصادي وتحسين معيشة الناس.
الغالبية العظمى ممن واجهوا هذا التعارض ، قرروا تقديم ما
فهموه من النص على حكم العقل المستقل. ولهم في ذلك حجج معتبرة ، كالقول بان الخطأ
محتمل من العقل وغير محتمل من النص ، فلا يقدم المحتمل على المؤكد. وان الشارع
امرنا بالرجوع الى أمره ، اي النص. وان الانسان يريد ابراء ذمته أمام الله ،
واتباع كلام الشارع محقق لبراءة الذمة.
هذه الحجج التي يبدو ظاهرها معقولا ، تضعنا – في بعض
الاحيان على الاقل - امام مفارقات غير معقولة. من بينها مثلا تعارض الحكم الشرعي
مع الواقع ، ومن بينها انفصال الحكم عن علته او حكمته ، او المصلحة المنظورة فيه.
في المثال الثالث نعرف ان علة تحريم الفائدة على القرض هي منع الاستغلال. ونعرف
ايضا ان الاستغلال غير مؤكد في كثير من القروض المعاصرة. كما نعرف ان اقتصاد
المجتمعات ومعايش الناس لا تقوم الا بالقرض والاقتراض. هذا امر واقع يعيشه جميع
الناس.. فما الذي نختار؟.
وفي المثال الثاني: نحن نأتمن الحسابات الفلكية على
حياتنا ، حين نسافر بالطائرة او السفينة ، ونعتمدها في مختلف جوانب حياتنا. اي
انها ليست مجرد احتمال نظري. فما العمل حين يقول لنا النص: اتركوا هذا الدليل الذي
يعتبره كافة العقلاء حقيقة موضوعية ، واعتمدوا مفاد النص المعارض؟.
هذه الأمثلة والعشرات من أمثالها تستدعي مراجعة معمقة
لفلسفة التشريع ، ولا سيما مكانة العقل ودوره في إنشاء الاحكام الشرعية. صحيح اننا
نطيع أمر الله كي نبريء ذمتنا. لكن الأصح هو ان غرض الدين هو مساعدة المؤمنين به
كي يحيوا حياة طيبة. وهذه ليست ممكنة مالم يكن الحكم الشرعي متصلا بالواقع ومنبعثا
من حقائقه ومتفاعلا معها.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوال 1439 هـ - 11 يوليو
2018 مـ رقم العدد [14470]
http://aawsat.com/node/1327286
مقالات ذات علاقة
في رثاء د. طه جابر العلواني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق