اظن ان ابرز عيوب المنهج الفقهي الموروث هو خلطه
بين دورين مختلفين تماما: تشخيص الموضوع ، واستنباط الحكم الشرعي المناسب له.
الفقيه يفتي بجواز الافطار في رمضان للمريض ، مثلا . لكنه لا يامر شخصا معينا
بالافطار. لانه حكم في خارج اختصاصه. نحن نتبع فتوى الفقيه بوجوب الصوم او عدمه ،
لانه مختص باستنباط الاحكام. اما تشخيص من يلتزم ومن يمتنع عن الصوم ، فهو مهمة
الطبيب.
لاخلاف اذن حول التمييز بين الحكم وموضوعه. محل
الخلاف هو تدخل الفقيه في تشخيص موضوعات الاحكام. وقد جرى العرف بان يفتي الفقهاء
في كل مسألة ، من احكام الطهارة والصلاة الى السياسة مرورا بالاموال والتجارات ،
فضلا عن التعليم وتحديد المواقع الجغرافية والاثار .. الخ.
هذا العرف القديم لم يعد مفيدا. في ماضي الزمان
كان الفقهاء علماء في كل فن ، وكانت المدارس الدينية واسعة الافق. وعرفنا بين
قدامى الفقهاء اطباء وفلاسفة ومؤرخين ، وكان حجم العلوم ضئيلا ، وفروعه متداخلة ،
ربما بسبب بساطة الحياة ومحدودية اسباب المعيشة والتعاملات.
اختلف الحال اليوم فتشعبت الحياة وتعقدت. واتسعت
لهذا السبب العلوم والتخصصات ، فاصبح مستحيلا على اي شخص الاحاطة بكل العلوم. حتى
علم الفقه نفسه اتسع وامسى عصيا على شخص واحد ان يتعمق في كل فروعه ، فضلا عن ان
يحيط بغيرها. استقلال العلوم عن بعضها ، وتنوع المدارس والمناهج ، والتفريع
المستمر الذي يؤدي بالضرورة الى ظهور تخصصات جديدة ، جعل الدقة والتبحر رهنا
بالتخصص الدقيق في فرع من فروع علم واحد. ولهذا قيل ان "تقسيم العمل" هو
اعظم اكتشافات البشر ، وانه هو مفتاح التقدم العلمي والحياتي. ولولا تقسيم العمل ،
لربما كنا لانزال نركب البغال ونستضيء بالشموع ونعالج مرضانا بالحديد المحمي او
روث الابل.
من المفهوم ان تشخيص الموضوع سابق للحكم عليه.
ولهذا قيل ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره. لكن انى للفقيه ان يتصور موضوعا في
السياسة مع تعقيداتها وتداخلها مع الاقتصادي والقانوني والامني. وكيف يستطيع تصور
المعاملة البنكية مع شدة تعقيد قضايا المالية وتداخلها مع الاقتصاد الجزئي والكلي
وارتباطها بحركة السلع والخدمات ومعدلات البطالة ومستوى المعيشة واتجاهات السوق
داخل البلد وخارجها. هذه امثلة بسيطة عن التعقيد الشديد في الموضوعات التي يسأل
الفقيه عن احكامها.
يستحيل على اي فقيه ان يتبحر في هذه الموضوعات.
فاذا حكم فيها دون علم عميق ، فسياتي حكمه – على الارجح – سطحيا لا يلامس جوهر
القضية محل السؤال. الحل الوحيد ، كي يأتي الحكم الشرعي متناسبا مع موضوعه ، هو
احالة الموضوع الى اهل الاختصاص فيه ، وتخصص الفقيه في استنباط الحكم ، وهو دور
لاحق لبيان رأي صاحب الاختصاص العلمي وتشخيصه لطبيعة الموضوع وموضع الاشكال فيه.
الاقتصادية 18 مارس 2014
http://www.aleqt.com/2014/03/18/article_834172.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق