12/06/2025

تخيل: عام واحد بلا كهرباء ولا آلات!

نحن الآن في عصر "الثورة الصناعية الرابعة". اطلق هذا الاسم في 2016 كتعريف للتحول العميق ، الناجم عن ثورة الاتصالات والذكاء الصناعي ، وتوسع التقنيات الرقمية الذي قلص المسافة بين المادي والافتراضي.

هذا ليس مجرد اسم يطلق لغايات إجرائية او بلاغية. تنسب "الثورة الصناعية الأولى" الى اختراع المحرك البخاري في 1765. ومنذئد شهد العالم آلاف الاختراعات والكشوف العظيمة. لكننا نتحدث عن اربع ثورات صناعية فحسب. لأن مسمى الثورة الصناعية لا يطلق الا حين يتيقن العلماء ان حياة البشر بكاملها تتغير.

نسمي التحولات الكبرى "ثورة" لايضاح طبيعتها الواسعة والسريعة. فهي ليست نموا تدريجيا ، بل تحول انقلابي شامل ، يتحرك بتسارع ملحوظ ، على مدى زمني قصير نسبيا. اما وصف الثورة بالصناعية ، فمبرره أن حقيقة التقدم تتجلى – وفقا للمفكرين - في تحول البشر من استعمال الأشياء الموجودة ، الى ابتكار وصناعة أشياء جديدة. فالفتوحات الصناعية هي جوهر فكرة التقدم. لا بأس بالإشارة هنا الى ان هذا المفهوم يقترب كثيرا من نظرية توماس كون ، المفكر الأمريكي المعاصر ، الذي جادل بان العلم يتطور على نحو انقلابي ، وليس تدريجيا ، وأنه حين تحدث الثورة العلمية ، فانها تجرف معها البنى العلمية والاجتماعية والمعايير التي كانت سائدة قبل ذلك.

نحن إذن نطلق مسمى "الثورة الصناعية" على السنوات التي شهدت تحولا جذريا وكاملا ، في وسائل الإنتاج ومحاور الاقتصاد في كل بلدان العالم ، تحول لامس تفاصيل حياة الافراد والجماعات دون استثناء. الثورة الصناعية الأولى أدخلت الآلة في الحياة اليومية ، فتغلبنا على قيود الجغرافيا ، مع القطار والباخرة. كما استطعنا حمل الاثقال التي كانت مستحيلة في الماضى. وفهمنا العلاقة بين الماء والهواء وما يترتب على تحويل الماء الى ما يشبه الهواء او العكس.

حسنا.. اسأل نفسك الآن: كيف ستكون حياتك لو لم نعرف الصين واليابان وامريكا واوربا ، كيف ستكون حياتك من دون المنتجات التي تأتينا من تلك البلدان ، وهل كان هذا ممكنا لو لم نعبر المحيطات؟.

ربما نحتاج لتخيل الحالة المعاكسة ، كي نفهم الصورة بشكل أوضح: تخيل انك استيقظت صباح غد ، فأخبرك الناس ان مصادر الوقود والطاقة ستنقطع مدة عام واحد فقط ، وبالتالي فلن يكون في البلد كهرباء ولا آلات. اقترح عليك ان تنفق 3 دقائق في الإجابة على سؤال: كيف سأعيش عاما كاملا من دون كهرباء او وسائل نقل او أجهزة اتصال او وقود. ثلاث دقائق تكفي للتوصل إلى جواب.

كان كارل ماركس قد اكد على اختلاف ذهنية الفلاح عن زميله العامل في المصنع. واعتبر عمال الصناعة قوة تغيير ، لانهم تغيروا فعلا او أنهم في طريق التحول. وارجع هذا الاختلاف الى التفاعل اليومي للعامل مع قنوات الحداثة ، من خلال المكائن وما تعنيه من مفاهيم ونظم عمل تنتمي للعصر الحديث ، بخلاف الفلاح الذي كان– حتى ذلك الوقت – يقوم بعمله مستعينا بالحيوانات فحسب.

كرر هذه الفكرة أيضا عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ، حين لاحظ الفرق بين عمال المصانع البروتستنت ، ونظرائهم الكاثوليك الذين احتفظوا بالحرف التقليدية. ورأى ان العالم يتغير بوضوح في الجانب الأول ، بينما يبدو ساكنا في الثاني.

نعلم الآن ان كل نظام اقتصادي ينتج ثقافته الخاصة ومنظومة معاييره. كما ينتج نظام العلاقات الداخلية بين أعضائه. وبالاعتماد على هذا وذلك ، فانه يقيم عرفه الخاص ونظام توزيع مصادر القوة والسلطة فيه. الاقتصاد الصناعي له ثقافته واعرافه ، مثلما كما لسلفه الرعوي والزراعي اعرافه.

لا يمكن استعادة العصر السابق للآلة ، ولا العصر السابق للكهرباء او الهاتف. كما لا يمكن استرجاع العصر السابق للكمبيوتر ، لأن الأعراف التي سادت فيها ، تلاشت فعليا أو ما عادت قادرة على الحياة في ظل التحول الجاري.

انا وانت وكل الناس يتغيرون ، لأننا جميعا نريد العيش في عصرنا. ولو حاول احدنا ان يصطنع نظام معيشة يشبه العصور السابقة ، فلن يكون سوى شيء قريب مما يفعله رسامو الكاريكاتير ، حين يتخيلون شيئا يشير الى الواقع لكنه بعيد عنه جدا.

الشرق الأوسط الخميس - 16 ذو الحِجّة 1446 هـ - 12 يونيو 2025 م  https://aawsat.com/node%20/5153417

مقالات ذات صلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تخيل: عام واحد بلا كهرباء ولا آلات!

نحن الآن في عصر " الثورة الصناعية الرابعة ". اطلق هذا الاسم في 2016 كتعريف للتحول العميق ، الناجم عن ثورة الاتصالات والذكاء الصناع...