‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيرة ذاتية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيرة ذاتية. إظهار كافة الرسائل

03/01/2009

على باب الله: ذكريات من الايام الاولى


اكتشاف العالم : النجف

صيف العام 1970 وجدت نفسي في سيارة وانيت ، من تلك السيارات التي تحمل الخضار والتمر الى اسواق الكويت. انحشرنا اربعة في كابينة السائق ، انا وابي والسائق ومساعده ، الذي ترجل قبل قليل من وصولنا الى مركز الحدود الذي كان يسمى يومئذ "الزرقاني". بعدما تجاوزنا حدود الكويت ، توقفت السيارة برهة ورأيت المساعد يحث الخطى خارجا من قلب الصحراء لينضم الينا ثانية. فهمت لاحقا ان الرجل قد انتهت صلاحية جواز سفره ، ولم يسعفه الوقت لتجديده قبل السفر. كانت تلك المرة الاولى التي اشهد فيها عملية "تهريب". فيما سياتي من الزمن سأشهد عمليات اخرى وربما اكون جزء منها. بعد ثلاثة ايام وصلت مدينة النجف ، حيث بدأت مرحلة جديدة في حياتي ، بل ربما بدأت حياتي الاتية كلها.

النجف الاشرف كانت النافذة التي عرفت العالم من خلالها. كان هذا اول سفر في حياتي. اتيت الى هذه المدينة سعيا للالتحاق بالحوزة العلمية. في الثالثة عشرة لم اعرف ماذا اريد ، لكنها مشيئة الوالد الذي اراد واحدا من ابنائه مجتهدا في الفقه. كان رأيه ان من يعرف الفقه يعرف كل شيء : "افتح الرسالة العملية ، ستجد فيها بابا عن كل شأن من شؤون الحياة. اذا درست الفقه ستنفتح على كل ابواب الحياة " هكذا كانت رؤيته.
سكنت اولا في دار خالي المرحوم الشيخ احمد ال سيف. وكان اول ما لفت نظري فيها المكتبة التي تحتل الغرفة الوحيدة في الدور العلوي وتضم نحو مئتي كتاب ، معظمها كتب فقهية عتيقة. اقول انها لفتت نظري لأنها المرة الاولى التي اتعرف فيها على ما يعرف بالطبعات الحجرية ، وهي اسلوب في طباعة الكتب سبق ظهور المطابع الحديثة التي كانت يومئذ تسمى الاوفست. وتتميز الكتب المطبوعة بهذه الطريقة بانها كبيرة الحجم ، طولها نحو 40 سم وعرضها 30 سم. وكثير منها مدعم بحواشي هي عبارة عن شروحات وتعليقات على المتن. وقد تجد في كتاب واحد اربع او خمس تعليقات تتمايز عن بعضها باتجاه النص. فتجد متن الكتاب داخل مستطيل يتوسط الورقة ، وتجد تعليقة في الهامش تتجه سطورها افقيا ، وتجد تعليقة اخرى تتجه سطورها من الزاوية العليا اليمنى الى الزاوية السفلى اليسرى ، وثالثة بعكس اتجاه سابقتها ، ورابعة تتجه سطورها عموديا ، وتشكل مجموعها منظومة اقرب للزخرفة. وجميع هذه الكتاب مغلفة بغلاف من الجلد حسن الصناعة ، وحروفها اقرب الى خط اليد. وتسمى حجرية لان النص يكتب بالحبر على نوع خاص من الحجر يمتص السائل ضمن حدود الكتابة ، ثم ينقل منه الى الورق بالضغط. ويقول اصحاب مطابع قديمة ان هذه الطريقة مرهقة جدا وتتطلب رجالا اقوياء البنية. كما تتطلب وقتا طويلا. ان طباعة عشرة الاف ورقة ، اي ما يعادل 100 نسخة من كتاب ذي 100 صفحة تستغرق شهرا على الاقل. لاحظت ان معظم الكتب التي طبعت قبل منتصف القرن العشرين كانت على هذه الشاكلة. وطبقا لعدد من المؤرخين ، فان اول مطبعة "حجرية" اقيمت في النجف هي مطبعة "حبل المتين" التي استوردها محمد علي حبل المتين من كلكتا بالهند عام 1909.
نموذج عن الطباعة الحجرية: في الهامش كتابات باتجاهات مختلفة ، كل منها شرح للمتن لمؤلف مختلف
انتقلت لاحقا الى دار ابن عمتي عبد العلي آل سيف  ، وكان يومئذ يدرس في كلية الفقه. بعد عامين انضم الي اخوتي ووالدتي فاتخذنا سكنا في نفس البيت في محلة "المشراق" ، على بعد نحو ثلاثمائة متر شمالي مشهد الامام علي.

ثقافة ملتبسة

كان يسكن البيت المقابل لنا السيد محمد رضا نجل المرجع السيد محسن الحكيم. وهو من الشخصيات المثيرة للجدل. فقد عرف بعلاقاته الواسعة مع رجال السلطة. ويبدو ان والده كان يعتمد عليه في الامور التي تتطلب تواصلا مع السياسيين. لكن هذا الامر جعله موضع ارتياب ، وربما كراهية في المجتمع النجفي. وللمناسبة فهذا يكشف عن واحد من المفارقات الموروثة في الثقافة الشيعية التقليدية.  فرجل الدين النموذجي عندهم هو المنقطع عن الدنيا وعن اهل السلطان وعلية القوم ، المنغمس في كتبه وعبادته او المنصرف الى تلاميذه. فاذا واجهوا ازمات او مشكلات عتبوا على زعمائهم واهل الوجاهة فيهم ، وطالبوهم بالتواصل مع الحكام لحل مشكلاتهم. واذكر مقولة لزميل قديم فحواها ان وجهة الناس حين تتأزم الامور هو الفقيه المنفتح على العالم. فاذا انتهت الازمة ، اداروا له ظهرهم ، ويمموا صوب الفقيه المنعزل عن الحياة. فكأنهم يرون دنياهم في صوب وآخرتهم في صوب.
بعد سنوات رأيت مثالا آخر على هذه الثقافة الملتبسة. في 29 يونيو 1981، اليوم التالي لتفجير الحزب الجمهوري الاسلامي ، انتقد آية الله الخميني كبار رجال الدين الذين لم يعلنوا انكارهم للاستبداد. واستشهد بمثل عن فقيه استقبل زوجة شاه ايران وأهداها خاتما نقشت عليه الآية "يد الله فوق أيديهم"[1]. لم يذكر الخميني اسم الفقيه المشار اليه ، لكن بعض الناس يعلمون ان القصة تتعلق بالسيد ابو القاسم الخوئي ، أبرز مراجع الشيعة يومئذ ، الذي قابلته فرح ديبا ، امبراطورة ايران في 18 نوفمبر 1978 ، في اطار محاولات بذلتها لاقناع الزعماء الدينيين بالتدخل لوقف الثورة التي اطاحت لاحقا بالحكم البهلوي. وينقل ان السيد الخوئي سمع بهذا التعريض ، فرد عليه قائلا ان "الساعة اكبر من الخاتم". وكان يشير بذلك الى ساعة فاخرة ، قيل ان السيد الخميني اهداها الى الرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر ، يوم كان الخميني في النجف.
على اي حال فان هذه الحوادث الصغيرة لا تذكر ، لأن المفهوم السائد بين العامة ينبذ التواصل بين العلماء والحكام ، ويحاول كبار العلماء التكتم على تواصلهم اذا حدث ، كي لا يتعرضوا لنقد العامة.
نعلم بطبيعة الحال ان معظم اعضاء الطبقة العليا من العلماء بحاجة الى علاقة معقولة مع الحكومة القائمة ، حسنة كانت او سيئة. لا تسمح اي حكومة بقيام زعامة مؤثرة على اراضيها ، دون ان تكون مطلعة بقدر او بآخر على النشاطات الجارية في هذا الاطار. كما ان الزعيم الديني مضطر للانفتاح على الحكومة ، لانجاز حاجات لا يمكن ان تجري بالطرق الاعتيادية. بعبارة اخرى فان وضعه كزعيم ذي نفوذ ، يضطر الحكومة للتعامل معه على هذا النحو ، لكن هذا غير قابل للتحقيق فعليا دون ان يكون هو مستعدا للتعامل والتفاهم معها.
السبب الذي يجعل الزعماء الدينيين في حرج من الحديث عن علاقاتهم السياسية ، هو التراث القديم الذي يصور السياسة والسلطة كعالم لا أخلاقي وملوث ، لا يمكن ان تقترب منه وتخرج نظيفا من الآثام. وخلال دراستي لنظرية السلطة عند الشيعة وجدت عشرات من الروايات والقصص التاريخية التي تدور جميعا حول محور واحد ، هو الابتعاد عن السلطة باعتبارها تكثيفا لمساويء الدينا وآثامها. وأذكر على سبيل المثال ان السيد كاظم الحائري توقف عند هذه الروايات في كتابه "ولاية الأمر في عصر الغيبة" ولاحظ ان الأخذ بها يعني تحريم اي محاولة لتولي السلطة او المشاركة فيها بأي طريق. وهذا – بطبيعة الحال – يلقي شكا كثيفا على نظرية "ولاية الفقيه" التي خصص كتابه للدفاع عنها.
الحرج الذي واجه الحائري ، واجه باحثين آخرين من قبله. المخرج الذي اتبعه الحائري هو التشكيك في انطباق مضمون تلك الروايات على واقع المسلمين اليوم ، او التشكيك في صدقيتها لجهة المتن او السند. وقد أوضحت في سياق بحثي ان المخارج التي اختارها الحائري لا تفي بالغرض ، والصحيح هو طرح المبدأ الذي انطلقت منه الروايات كليا ، لأنه غير سليم منطقيا وغير متلائم مع مقاصد الشريعة الغراء وحاجات البشرية في هذا العصر.
على اي حال فان الغرض من هذه الاشارة ليس مناقشة هذا الموضوع ، ويمكن لمن اراد الاستزادة الرجوع الى كتابي "نظرية السلطة في الفقه الشيعي". غرضنا المحدد هنا هو بيان ان موقف علماء الشيعة من حكومات بلدانهم – ومع الحكومات بشكل عام - تأثر سلبيا بمفاهيم وتصورات موروثة ، يدعمها تراث مريض ، لا ينحصر أثره في النخبة وأهل العلم ، بل هو يؤثر بدرجة أعمق في الثقافة العامة وذهنية الجمهور ، فيولد – تبعا لذلك – نوعا من الجبر الاجتماعي الذي يحدد ويقيد حركة العلماء في مجالات كثيرة ، وبينها بشكل خاص تفكيرهم السياسي وموقفهم من السلطات الحاكمة وعلاقتهم بها.
كنت قد لاحظت خلال اقامتي في النجف ان هذا المجتمع العلمي الضخم ، يبدو بعيدا عن التحولات التي تجري في العالم ، بل حتى تلك التي تجري قريبا منه. ويقتضي الانصاف القول ان هذا لم يكن قاعدة ثابتة ، ولعله لم يكن مقصودا بذاته ، لكنه على الارجح غفلة عن الواقع يبررها تراث ملتبس وتقاليد عتيقة وقدر من الغربة عما جرى في العالم منذ اوائل القرن العشرين.
في حقب سابقة ، كان لعلماء النجف دور مشهود في صناعة احداث كبرى او توجيهها. ونذكر على سبيل المثال دورهم في انتفاضة التنباك والثورة الدستورية في ايران ، ثم ثورة العشرين التي استهدفت تعبئة الجهور لمقاومة الاحتلال البريطاني للعراق.كما ان بعض العلماء ، فيها أو في خارجها اتخذوا مواقف تدل على وعي معقول بما يجري. لكن هذه المساهمات المجيدة لم تعامل كمؤشر على الموقف المعياري للزعامة الدينية والمجتمع الديني في النجف. بل كانت أقرب الى حلقات منفردة او استثناءت.  أقول هذا لأن سنينا متمادية تمر على النجف دون ان يصدر عنها موقف واضح حول الاحداث الكثيرة التي يموج بها العالم من حولها. ولا نقصد هنا صغار المسائل ، بل تلك الاحداث التي تترك اصداء في شرق العالم وغربه. كما ان هذا التقدير لا يقتصر على المواقف من قضايا سياسية ، بل هو يشمل أيضا الموقف من تحولات العلم والثقافة والتقنية والاقتصاد ، فهذه جميعا كانت على هامش اهتمامات الحوزة العلمية النجفية ، بل قد لا أبالغ لو قلت انها اغفلت تماما.
ومن هنا فاني أشعر بالتفاؤل ازاء انخراط المرجعية والحوزة في الحياة السياسية بعد سقوط حكومة صدام حسين في 2003. ذلك اني لاحظت خلال ابحاث سابقة ان انفتاح العلماء على العالم وميولهم الاصلاحية ، ولدت – في اغلب الاحيان – بعد انخراطهم في الحياة السياسية. ولدي امثلة محددة من الماضي والحاضر ، تؤكد هذا المعنى.  

السيد الخوئي

بعد هذا الاستطراد اعود الى جارنا السيد محمد رضا ، الذي كان مديرا لمدرسة السيد الحكيم المعروفة بدار الحكمة ، وهي يومئذ احدث مدارس العلم الشرعي في النجف. وقد اعتقل في مايو 1983 مع 70 من عائلة الحكيم ، اعدم منهم ستة ، انتقاما – كما قيل – لعدم ادانتهم النشاط المعارض لأخيهم السيد محمد باقر ، الذي كان قد هرب وقتئذ الى ايران. وقد اطلق سراح معظمهم بعد اعدام الستة ، لكن محمد رضا بقي تحت الرقابة حتى 1991 حين اعتقل مرة ثانية ولم يعرف مصيره الا بعد سقوط صدام حسين في 2003 ، حيث علم انه قتل في السجن مع جمع من أقاربه.
وكان بين جيراننا السادة آل الرفاعي ، وهم من خدم الروضة الحيدرية المعروفين. على ان ابرز الجيران كان المرجع الأعلى يومئذ السيد ابو القاسم الخوئي. وقد اعتدت الذهاب الى مجلسه بين حين وآخر. ولاحظت ان داره صغيرة نسبيا. مع انها بمقاييس النجف ، سيما الجزء القديم منها ، تعد واسعة. بعد ان تعبر باب الدار يأخذك زقاق طويل مضاء بلمبة فلورسنت مستطيلة الى "البراني" ، اي الجزء المخصص لاستقبال الضيوف في البيت.
كانت مساحة "البراني" فيما اذكر نحو 90 مترا مربعا ، ويتألف من صالة مفتوحة تحيط بها ثلاث غرف او اربع ، احدها "المختصر" وهو غرفة صغيرة مساحتها تقارب 16 مترا يستقبل فيها المرجع زواره ساعة او ساعتين في كل يوم. وثمة غرفة ثانية خاصة بمساعدي المرجع ، وابرزهم يومئذ – فيما اذكر - اربعة ، هم السادة محمد رضا الحكمي الذي اشرف على تحرير ونشر كتب السيد ، وعبد الحسين وعبد الكريم القزويني ، واخيرا نجل المرجع السيد جمال ، وانضم اليهم لاحقا الشيخ عبد الله الخنيزي. وكان هناك في غرفة اخرى شيخ في العقد الرابع ، لا اذكر اسمه الآن ، مسؤول عن رواتب الطلبة والمساعدات الاجتماعية. اما الصالة ، وهي المجلس الرئيسي فمساحتها نحو 40 مترا مربعا أو اقل بقليل. وكنت تجد عشرات من رجال الدين وعامة الناس ، من مختلف البلدان ، يدخلون المجلس ويخرجون منه باستمرار ، وكان ثمة رجل عجوز يقدم الشاي الاسود في استكانات لكل الزائرين.
وليس كل الآتين الى دار المرجع من أهل العلم او ذوي الشأن. ثمة صغار مثلي ، اعتادوا زيارة المجلس بين حين وآخر.  وثمة زوار من مدن بعيدة أتوا لمجرد السلام على زعيمهم الديني. وثمة من يأتي لاستفتاء في مسألة ، او ربما طلب عون مادي او شفاعة لدى شخص او جهة او سعيا للتوسط في مشكلة. وهناك بالطبع شخصيات بارزة من كبار العلماء ووجوه المجتمع ورجال السياسة ، من العراق وخارجه.
عرف السيد الخوئي بدقته في مناقشة المسائل الحرجة في اصول الفقه ، كما كتب في علم الرجال والتفسير. ويعتبر واحدا من اعمق الفقهاء المعاصرين. اعتاد الخوئي الخروج كل صباح لتقديم "درس الخارج" وهو بحث في الفقه الاستدلالي ، يسير وفق الترتيب الذي اتبعه صاحب كتاب "العروة الوثقى".

ودرس الخارج او البحث الخارج هو الاسم المتعارف للدروس التي يقدمها من بلغ رتبة الاجتهاد. وتنطوي على مناقشة لاستدلالات الفقهاء الاخرين السابقين والمعاصرين ، ثم البرهنة على رأيه الخاص. ويتعرض البحث عادة لقضايا في اصول الفقه والمنطق والتاريخ والرجال والدراية واللغة العربية ، كما يشهد مناقشات يقدمها الطلبة المتقدمون ، وينظر الى جودتها – عادة – كمؤشر على بلوغ الطالب مرتبة الاجتهاد او اقترابه منها. ويوم كنت في النجف ، كان فيها حسب علمي اثنا عشر بحث خارج يقدمها فقهاء بارزون.
العلامة النائيني
ويهتم الطلبة النابهون بتحرير دروس الاستاذ ، اي كتابة ما يلقيه ، مع النقاشات والحواشي والمسائل الجانبية التي تثار في البحث من جانبه او من جانب الطلبة الآخرين. هذا التحرير يعد كنزا لا يثمن بمال لطالب العلم الراغب في مواصلة البحث العلمي. وثمة تحريرات لبحوث فقهية او أصولية تحولت بعد زمن الى مناهج تدرس او مراجع للبحث ، منحت كتابها شهرة واحتراما. ومما يجدر ذكره ان السيد الخوئي نفسه كان قد كتب تقريرات البحث الاصولي لاستاذه العلامة الميرزا محمد حسين النائيني ، وطبع باسم "أجود التقريرات" ويعد أبرز مرجع عن آراء النائيني في الاصول. ونقل عن الخوئي انه دون أيضا تحريرا لدروس استاذه الآخر في الاصول الشيخ محمد حسين الاصفهاني ، لكني لم اطلع عليه.  والعلامة النائيني من ابرز الباحثين في علم الاصول خلال القرن العشرين ،  بل رآه المرحوم مغنية ندا للشيخ الانصاري ، الذي يعتبر ابرز الاصوليين[2] ، وكان له دور بارز في الثورة الدستورية في ايران عام 1905 ، ويشار خصوصا الى رسالته الشهيرة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" ، وهي أول بحث يتناول الحكم الدستوري في فقه الشيعة. تكملة لهذا الاستطراد ، اشير الى ان عددا مهما من كبار الفقهاء كان تلميذا للعلامة النائيني. لكن هؤلاء جميعا تغافلوا عن رسالته "تنبيه الامة" وارائه السياسية ، ولم يذكرها احد منهم على الاطلاق ، حتى عند مناقشتهم لباب الولاية ، بمن فيهم السيد الخوئي والسيد الخميني.
يعقد درس الخوئي في المسجد المعروف باسم "جامع الخضراء" الملاصق للجدار الشرقي لمشهد الامام علي. ويعقد مثله لفقهاء اخرين في مسجد الشيخ الطوسي المجاور ، وفي مسجد الهندي ، في الجهة الجنوبية من المشهد ، وفي مساجد ومدارس اخرى. وبشكل عام فهناك بحث خارج يعقده كل من بلغ رتبة الاجتهاد من الطلبة. ويحضر بعض هذه الدروس بضع عشرات قد يصلون الى المئة ، بينما يقتصر الحضور في البعض الاخر على بضعة افراد. ان عدد الطلبة في بحوث الخارج مؤشر متعارف عن جودة تدريس الفقيه وحسن استدلاله.
كان السيد الخوئي يستعمل في تنقلاته بين البيت والمسجد سيارة مرسيدس قديمة ، موديل 1965 كما اظن. وكانت تقف في موقع لا يتغير عند مدخل الزقاق المؤدي الى داره ، وهو يبعد عنها نحو خمسين مترا. ورأيت السيد يمشي بين البيت والسيارة معتمدا على عكاز احيانا وعلى احد مرافقيه احيانا اخرى. ولاحظت ان السيارة كانت تقف في موقع ابعد قليلا خلال فصل الصيف ، لان فلاحا اعتاد فتح بسطة لبيع البطيخ الاحمر خلال موسمه في المساحة المحصورة بين الزقاق وشارع الامام زين العابدين المجاور.

ولد السيد ابو القاسم الخوئي سنة 1899م بمدينة خوي شمال غرب ايران ، وهي تتبع محافظة اذربايجان الغربية. وكان أبوه علي أكبر واعظا فيها. لكنه تركها الى النجف في 1910 بعد نزاعات اجتماعية اعقبت ثورة الدستور (المشروطة 1905). وانتقل ابو القاسم نفسه الى النجف في 1912.
تولى المرجعية بعد وفاة السيد محسن الحكيم في اول يونيو 1970. وعرف باتجاهه المحافظ اجتماعيا وسياسيا. كان الحكيم قد نجح – الى حد ما – في استقطاب التيار الرئيس في العالم الشيعي. ومع انه لم يكن مرجعا وحيدا كحال سلفه السيد البروجردي ، الا ان اصبح بالتاكيد مرجع الاغلبية الساحقة. وترتب على وفاته انقسام عريض في المرجعية الدينية ، وبرز في مدينة قم آيات الله محمد رضا الكلبايكاني ومحمد كاظم شريعتمداري وشهاب الدين المرعشي النجفي. وبرز في النجف الاشرف محمود الشاهرودي وروح الله الخميني ومحمد باقر الصدر ومرتضى ال ياسين ، وربما آخرون لا اتذكرهم الان. لكن مع مرور الوقت ، يبدو ان مرجعية السيد الخوئي نجحت في التحول الى الممثل الرئيس للتيار العام المحافظ ، على الاقل حتى العام 1979 ، الذي شهد تحولا كبيرا في رؤية الناس للفقهاء ودورهم وعلاقتهم بهم.

اظن ان السيد الخوئي اقرب الى صنف "كبار الاساتذة" منه الى الزعيم او القائد. فرغم شهرته العلمية ، لم يتمتع بصفات الزعيم التي عرفت عن الزعيمين الذين سبقاه في منصب المرجعية ، السيد محسن الحكيم (تولى المرجعية بين 1961-1970) والسيد حسين البروجردي (تولى المرجعية بين 1945-1961). اهتم الرجلان بالتعامل اللين مع مخالفيهم ، وتشجيع المبادرات الجديدة على المستوى الديني والاجتماعي. وينسب للبروجردي مثلا دعمه لمشروع التقريب بين المذاهب الاسلامية والاتجاهات الاصلاحية في التيار الديني الايراني. كذلك الحال مع الحكيم الذي نشأت في ظل مرجعيته مبادرات اصلاحية مؤثرة مثل جمعية منتدى النشر ، وكلية اصول الدين. كما برز عدد من الشخصيات التي تتبنى صراحة دعوة التجديد مثل الشيخ مرتضى ال ياسين والسيد محمد باقر الصدر. كما رفض كلا الرجلين الدخول في صراع التيارات التي كانت محتدمة في العراق وايران.
اما السيد الخوئي فلم يسجل له دعم اي مبادرة هامة على الصعيد الاصلاحي. ولعل النقاط التي تسجل له في هذا المجال ، وابررزها اقامة مؤسسة الخوئي الخيرية في اوربا والولايات المتحدة ، كانت في الحقيقة من اعمال ولديه الشابين ، محمد تقي وعبد المجيد. توفي السيد الخوئي في 1992 وخلفه في زعامة الحوزة النجفية تلميذه السيد علي السيستاني.

يوكل خبز؟

مضت الايام. اكملت كتاب "متن الاجرومية" الذي بدأته في البلد على يد المرحوم الشيخ الميرزا حسين البريكي (ت 1976)، وكتاب "تبصرة المتعلمين" للعلامة الحلي ، وهو رسالة مبسطة في الفقه ، أقرب الى ما اصبح يعرف لاحقا بالرسالة العملية. كنت اذهب كل صباح الى مسجد الهندي للانضمام الى حلقات الدرس ، وفي المساء الى متوسطة منتدى النشر الاهلية.
في النجف تختلط بالكثير من الناس ، من الاساتذة والتلاميذ ، لكن لا تجد من يديرك او يحاسبك على الوقت او العمل او الدراسة ، كل فرد رقيب على نفسه. واذا كان صغير السن حديث التجربة مثلي ، فهذا قد يعني ضياعا او غربة.
 اوقات الفراغ الطويلة قادتنى الى اكتشاف المكتبة. في جزيرتنا الصغيرة كان ثمة مكتبة وحيدة تبيع قصص الاطفال ، وكان الوالد ينجح احيانا في تهريب كتب دينية ، مثلت - وقتئذ - المورد الوحيد تقريبا للثقافة غير المدرسية. اكتشفت في النجف احسان عبد القدوس ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم وشعراء مثل بدر شاكر السياب ونزار قباني. كانت كتب الادب هذه تشغل حيزا بارزا في مكتبة ابن عمتى عبد العلي السيف الذي كان قد ذهب قبلي لدراسة علوم الدين ، ثم تحول الى الدراسة الدينية الاكاديمية في كلية الفقه. اكتشفت حينئذ نهمي الشديد للقراءة حين سهرت ليالي بكاملها كي اكمل جزءا من رواية يوسف السباعي "رد قلبي" او "يوميات نائب في الارياف" لتوفيق الحكيم او "النظرات" للمنفلوطي.
في مساء يوم كنت عائدا من المدرسة فاشتريت مجلة "العربي" الكويتية وديوان "شجرة القمر" لنازك الملائكة ، وكان قد نشر للتو. توقفت في طريقي عند مصور كهل ، فسألني عما احمل فقلت له انه كتاب شعر ، سأل : "يوكل خبز؟" اي هل يطعم خبزا ، قلت لا ، قال ببساطة " يعني ما يفيد".
تركت هذا التعليق وراء ظهري ، لكني بقيت اذكره  كلما وصلت الى حافة الافلاس ، وما اكثر ما حدث ذلك خلال العقود الاربعة التالية. تساءلت دائما عن فائدة هذا الجنون بالكتاب والكلمة ، مع ان الذين احترفوها ، معظمهم على الاقل ، عاش فقيرا او مات فقيرا. هل هو الولع بالذات ام الرغبة في اكتشاف حدودها ، ام الولع بالتمايز ، ام الفضول الى معرفة المجهولات ، ام هو الانسياق الاعمى. مرة سالتني جارتنا العجوز ، واجابت على السؤال: "تدري ليش الموامنة [اي طلبة العلم الديني] يموتون في الكتب؟.. لانهم مقرودين  [اي منحوسين] من اصلهم". ربما كان هذا تفسيرا للولع بشيء يقودك الى الفقر ، بينما يناضل الناس من اجل الثروة.

النجف المستورة

ظاهريا تبدو النجف مدينة ثانوية بالنسبة للعراق والعالم. مظهرها العمراني بسيط في الغالب ، اناسها متوسطو الحال ، وثمة شريحة كبيرة من سكانها تعيش في مستوى الكفاف. ورغم العدد الكبير من الزوار الذين يفدون اليها سنويا ، الا انها كانت – في ذلك الوقت على الاقل – تفتقر الى اي مرفق معقول لخدمة الوافدين. ولهذا السبب ربما يفضل الزوار قضاء معظم الوقت في كربلاء التي تبعد اربعين ميلا ، وتتمتع بطقس الين وخدمات افضل نسبيا.
لكن النجف هي مركز الحوزة العلمية ، اي – بالضرورة – مركز المرجعية العليا لشيعة العالم. وتحتضن حاراتها الضيقة عشرات من المدارس الصغيرة والكبيرة المخصصة لطلبة العلوم الدينية. الحوزة العلمية عنوان يطلق على المؤسسة الدينية اي مجموع المدارس ومن يسكنها او يرتادها من اساتذة وطلاب.
خلال تاريخها القديم والمعاصر حاول كثير من النافذين السيطرة على مسار الامور في النجف او التحكم في رأيها. لكن ايا من تلك المحاولات لم يفلح. فشلت محاولات البريطانيين في القرن التاسع عشر ، وفشل الشيوعيون في 1959 ، وفشل البعثيون في 1963 ثم في 1974 واخيرا في 1991. كما فشلت محاولات من داخلها استهدفت احيانا فرض مرجعية وحيدة او اعاقة مرجعيات صاعدة.
من الناحية المادية تجد المدينة خاضعة للحكم القائم في بغداد. لكنها في الواقع مشحونة بالتمرد ، السلبي احيانا والنشط احيانا اخرى. الحكومات تملك الاجسام والابنية والطرق ، اما القلوب والعقول فتبقى عصية على اي سلطان. تنطوي المدينة على قوة هائلة لكنها خفية ، لا يعرف تفاصيلها الا من انغمس في صراعاتها. لعل قوتها ترجع الى اتساع نفوذها واتصالها الوثيق بالعالم. او لعله يكمن في تعدد مراكز القوى داخلها. أو ربما لقدرتها على البقاء مستقلة في حياتها ومعيشتها عن اي حكومة او اي مجتمع او جماعة محددة. في كل الاحوال تبقى النجف عسيرة المنال. لا الدولة العراقية ولا الحكومة المحلية ، ولا المرجع الاعلى ولا النافذون في الحوزة العلمية نجحوا في القبض على قلب هذه المدينة.
الظاهر ان هذه الخاصية في النجف قديمة جدا. فقد لاحظها أيضا الشيخ محمد جواد مغنية خلال دراسته فيها (1925-1936م). وهو يقول في هذا الصدد "النجف لا تسيطر عليها جهة سياسية ولا هيئة معينة ولا شركة تجارية ، لا أحد على الاطلاق"[3]
محمد جواد مغنية (1904-1979)

تبعد النجف نحو سبعة كيلومترات عن الكوفة ، التي تقع شرقها وتحاذي فرعا من فروع نهر الفرات. ويقصدها كثير من سكان النجف في الاجازات ، لما تتمتع به من طراوة الهواء وكثافة الزراعة ، فضلا عن اطلالتها الجميلة على النهر.
وخلافا لمعظم مدن العراق التي تحاذي احد نهريه الكبيرين او فروعهما ، فقد اقيمت مدينة النجف على حافة الصحراء ، فوق هضبة ترتفع قليلا عن المستوى العام للصحراء المحاذية. ويبدو الفارق جليا في الطرف الجنوبي الغربي للمدينة التي حيث تطل من علو واضح على المنخفض الزراعي المسمى "بحر النجف". طبيعتها الصحراوية تظهر في طقسها المتطرف حرارة وبرودة بين الصيف والشتاء.
وذكرت مصادر عديدة ان بحر النجف كان في الماضي مليئا بالماء ، الذي يأتيه من منخفض مماثل غرب ناحية الحيرة الى الجنوب. وقيل ان مساحة المنخفض بين النجف والحيرة تصل الى 60 ميلاً طولاً و30 ميلاً عرضاً. ثم جف ماؤه في الفترة الفاصلة بين 1822 الى 1887م ، بعد انقطاع ماء الفرات عنه. ويقال ايضا ان الماء قطع عمدا في العهد العثماني ، حين اقيم سد على نهر الفرات في منطقة الحيرة ، لمنع الفيضانات التي كانت تغرق القوافل المسافرة بين الفرات الأوسط والديار المقدسة في الحجاز عبر النجف[4].
في اوائل السبعينات كان يسكن المدينة ما يقارب المئة الف نسمة ، نصفهم تقريبا في جزئها القديم حيث يقع ضريح الامام علي بن ابي طالب والاسواق التجارية ومدارس الحوزة العلمية. وكانت قد تمددت ، لا سيما بعد بداية العهد الجمهوري في 1958 في اتجاه الشرق حيث مدينة الكوفة ، وبني العديد من الاحياء الحديثة. ومنذ اوائل الثمانينات ، اتجه جانب من التمدد الحضري نحو الشمال[5].

يسع... يسع..!!

النسق العمراني للمدينة القديمة يتلاءم الى حد كبير مع طقسها القاسي ، فمعظم الدروب ضيقة لا تصلها اشعة الشمس الا لماما ، وجميع البيوت مبنية من الطابوق الطيني الذي يتمتع بكفاءة عالية في عزل الحرارة ، كما ان نوافذ البيوت صغيرة عادة. ويصنع الطابوق من الطين المستخرج من حواف نهر الفرات ، وثمة عديد من المصانع التي تشمخ مداخنها العالية على امتداد النهر ، لا سيما في الطريق بين النجف وكربلاء ، حيث يحرق الطين بعد صبه في قوالب خاصة ، وينشر بعدها في الهواء الطلق اياما قبل ان يستعمل في البناء.
وقت قدومي الى المدينة ، كان "السرداب" هو الوسيلة التقليدية لمواجهة القيظ الشديد. وهو عبارة عن غرفة تحت الارض تعادل ثلث مساحة البيت تقريبا ، تستعمل للقيلولة او جلسة ما بعد الظهر، كما تحفظ فيها الفاكهة لا سيما البطيخ الاحمر الذي يسمونه "الرقي". ومعظم البيوت في المدينة القديمة قليلة المساحة ، واظن ان معظمها يقل عن 200 متر مربع. وينقسم عادة الى قسمين : ما يسمونه البراني ، وهو غرفة صغيرة مع حمام لاستقبال الضيوف ، وما يسمونه الدخلاني ، وهو القسم الخاص بالنساء والعائلة.
 واذكر ان دار العالم القطيفي المعروف ، الشيخ منصور البيات في النجف ، كانت مساحتها دون 100 متر مربع ، وكان مجلسه في الدور الثالث ، تصعد اليه في درج ضيق يكاد ان يكون عموديا ، يتسع لشخص واحد فقط ، وكان المجلس نفسه صغيرا يتسع لعشرة اشخاص فحسب. كنت اذهب اليه بعض ايام الجمع ، حيث ينعقد مجلس صباحي للطلبة يحضره كثير من الزملاء.
رغم ضيق البيت والمجلس ، فان نفوس الناس هنا واسعة ، تحتمل الضيق والتزاحم دون تبرم. ومن طريف ما يذكر عن مجالس المشايخ في النجف قاعدة طريفة مشهورة سوف اسميها قاعدة "يسع" وهي كلمة يقولها صاحب المجلس او ضيوفه للقادمين الجدد الذين لا يجدون مكانا ، ويقصد بها دعوة القادم الى صدر المجلس ، ودعوة الجالسين لفسح مجال له. الذي يحصل عادة ان جميع الجالسين ينهضون لتحية القادم ويقومون بزحف جانبي بسيط ينتهي بايصال الشخص الاخير الى الباب ، وعندها يتوجب عليه ان يستأذن ويخرج. وهكذا يدخل اناس ويخرج غيرهم دون حرج على صاحب المجلس او القادمين. قاعدة "يسع" هذه ابتكار غرضه التعامل مع ضيق المكان.

المشهد

"مشهد" الامام علي بن ابي طالب ، هو بالتأكيد محور الحياة في النجف. ولعله سر وجودها كمدينة. حتى منتصف القرن العشرين ، كانت المدينة بكليتها تتموقع في دائرة قطرها نحو كيلو متر ومركزها المشهد. لكنها توسعت فيما بعد ، وامست المدينة القديمة التي تضم المشهد ، تشغل موقعا صغيرا في الجانب الغربي. يتميز المشهد بمئذنتين سامقتين وقبة كبيرة ، غلفت جميعا بالواح من الذهب. ترتفع القبة 42 مترا عن سطح الارض ، ويصل محيط قاعدتها الى 50 مترا ، ويكسوها 7777 طابوقة ذهبية ، وزنها جميعا 200 كغم. يومذاك كان المشهد اعلى بناء في النجف ، وكنت تستطيع رؤية مئذنتيه من اي مكان في المدينة.
يذكر المؤرخون ان أول عمارة للمشهد تمت على يد هارون الرشيد ، الخليفة العباسي ، حوالي العام 170 ه (787 م). بين هذا العام وعصرنا الحاضر اعيد بناء المشهد مرات عديدة. أذكر من بينها عمارة عضد الدولة البويهي في 369ه- (980م)  وعمارة الشاه عباس الصفوي التي بدأت 1032ه (1623م). واخيرا عمارة الشاه نادر افشار في  1156ه (1743م).[6]
اخترت هذه المراحل دون غيرها ، لانها تشكل ما أظنه علامات فارقة في تاريخ النجف. فمع العمارة الأولى ، أصبح مدفن الامام معروفا لعامة الناس. ومع العمارة الثانية بات مزارا تشد اليه الرحال ، ومع الثالثة تحول الى مركز للمدينة ونشاطاتها ، وحظيت – لهذا السبب – بنوع من الخصوصية والحصانة ،  تجاه الحكومات التي تسيطر عليها. اما عمارة نادر شاه ، فان اهميتها ترجع الى تحول المشهد معها الى معلم معماري ، مع تذهيب القبة وفرش الارضيات بالرخام. ومنذئذ بات هذا الطراز معياريا في بناء مشاهد الأئمة ، وبات المشهد رمزا للمدينة والعراق ككل.  
يجاور المشهد من الشرق "السوق الكبير" وهو ممر مسقوف تتوزع محلات الملابس والهدايا على جانبيه ويبلغ طوله نحو 350 مترا ينتهي بالميدان ، وهو ساحة كبيرة غير منظمة تتفرع عنها طرق تؤدي الى الاحياء الجديدة ، وتقام فيه في المناسبات الحكومية تظاهرات التأييد للحكومة. وقد حضرت احدها ، وكانت مناسبته عيد العمال في الاول من مايو ، وشارك فيه نحو الف من الناس ، كان هتافهم الرئيس "عمال وفلح فدوه لابو هيثم" اي العمال والفلاحون فداء لابي هيثم ، وهي كنية رئيس الجمهورية يومئذ اللواء احمد حسن البكر.
ويجاور المشهد من جهة الجنوب محلة الحويش ، التي تقع على مرتفع من الارض ، وتبدأ بسوق الكتب وهو زقاق متفرع من سوق الحويش يضم نحو عشرة محلات لبيع الكتب وتجليدها. وللمناسبة فالكتب من التجارات الرائجة في النجف ، طباعة وتجليدا وبيعا. لكنها تضررت كثيرا بعد الاجراءات التي اتخذتها الحكومة ضد الحوزة بدءا من 1971. وتقع مكتبة الامام الحكيم العامة على بعد امتار من سوق الكتب. وهي تجاور مسجد الهندي الذي كنت ادرس في احدى حلقاته. وكانت دار السيد الخميني تقع في هذه المحلة ايضا وتبعد عن السوق نحو 200 متر. وفي نهاية السوق تقع مكتبة الامام امير المؤمنين العامة ، ولعلها ابرز مكتبات النجف ، اسسها الشيخ عبد الحسين الاميني في منتصف القرن العشرين.

الحوزة العلمية

ياتي المدينة عشرات الالاف من زوار الامام من كل اصقاع العالم الاسلامي. ويقرر قليل منهم البقاء "مجاورا" للامام. يحدث هذا باستمرار ، الامر الذي جعل التنوع الديمغرافي – وتبعا له التنوع الثقافي - واحدا من اهم سمات المدينة. بعض من قرر الاقامة ينخرط في "الحوزة العلمية" ، حيث تدرس علوم الشريعة ، ويتدرب دعاة ومجتهدو المستقبل. وهناك بطبيعة الحال من ياتي قاصدا الدراسة بشكل محدد ، في المراحل الاولية او العليا. ثمة عديد من طلبة الشريعة المتقدمين ياتون النجف لسمعتها كمركز لكبار الاساتذة والفقهاء. وكان يقال ان اي مجتهد لن يستطيع اعتلاء سدة المرجعية ما لم يستوطن النجف. وثمة عديد من الفقهاء الايرانيين جاء النجف بعدما بلغ رتبة الاجتهاد أو قاربها. واظن ان هذا القول كان صحيحا حتى العام 1972 حين بدأت الحكومة العراقية تهجير الايرانيين والعراقيين من اصول ايرانية ، وهو قرار ادى الى نزوح عشرات من الاساتذة والفقهاء الى مدينة قم الايرانية ، التي اصبحت من ثم مركزا منافسا للنجف على المستوى العلمي وعدد الفقهاء المرشحين للمرجعية الدينية.

المرجعية الدينية والحوزة العلمية هما - على الارجح - ابرز ما يميز النجف الاشرف. يرجع تاريخ الحوزة الى العام 448 هج (1027م)، حين جاء اليها الشيخ ابو جعفر الطوسي الذي ضاقت به الحال ، بعدما انهارت دولة البويهيين في بغداد " وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية ، الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم ، والله المحمود أبدا على طول المدى. وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض ، لما كان تظاهر به الرفض والغلو فيه ، فقتل على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره".[7]
كان الطوسي احد المع تلاميذ الشيخ محمد بن النعمان العكبري المعروف بالمفيد. واعتقد ان الشيخين اضافة الى الشريف المرتضى، التلميذ الآخر للمفيد ، هم الاباء المؤسسون للمدرسة الفقهية للتشيع الامامي القائم اليوم[8].
تكمن اهمية الشيخ المفيد في دوره المحوري في ارساء منهج الاجتهاد - او "القول بالراي" كما سمي يومذاك - في المدرسة الشيعية ، بعد ما بقي منبوذا لزمن طويل ، بناء على فكرة فحواها ان ماورد في القران والسنة من احكام ، كاف لحاجات الناس ، وانه لا يصح وضع راي الفقيه في منزلة موازية لقول الرسول والامام. درس المفيد على رجلين ، احدهما هو الشيخ الصدوق صاحب المجموعة الحديثية المرجعية " من لا يحضره الفقيه" ، والحسن بن ابي عقيل العماني ، وهو من دعاة منهج الاجتهاد[9]. عاش المفيد معظم حياته في بغداد ، التي عرفت مدرستها بميل واضح نحو قبول دور العقل في استنباط الاحكام ، خلافا لمدرسة قم التي ينتمي اليها استاذه الصدوق ، والتي عرفت بميولها التقليدية ، ولاسيما في تاكيدها على محورية النص والتهوين من مكانة العقل ودوره. وقد برز تمايز المفيد عن استاذه بعد نشره كتاب " تصحيح الاعتقاد" الذي جاء ردا على كتاب الصدوق "اعتقادات الامامية".
تعتبر الاعمال العلمية التي خلفها المفيد والمرتضى قليلة ، بالقياس الى اعمال الطوسي. واظن ان هجرة الاخير الى النجف ، قد لفتت انتباهه الى نقاط الفراغ الكثيرة في المدرسة الفقهية الامامية. كما احتمل ان حياته في النجف - التي كانت يومذاك قرية صغيرة قليلة السكان - قد اتاحت له فرصة اوسع للبحث العلمي ، قياسا الى الحياة السريعة والكثيرة المشاغل في العاصمة. 
ينظر مؤرخو الحوزة العلمية الى الشيخ الطوسي كمؤسس لمدرسة النجف. وهو تقدير لا يبتعد عن الحقيقة. والمؤكد ان جهوده مع استاذيه المفيد والمرتضى هي التي صنعت التحول التاريخي في الفقه الشيعي من المنهج الاخباري الى منهج الاجتهاد والقبول بدور العقل في استنباط الحكم الشرعي. نجح الطوسي وتلاميذه في عبور حاجز الجدل الكلامي ، حول جواز الاجتهاد في الشريعة و "خرجوا من حدود الفقه المنصوص ، واعتمدوا على أساس القواعد الكلية والنصوص العامة من الكتاب والسنة ، بالإضافة إلى الأدلة العقلية … يعتبر هذا التحول الجديد بداية التكامل فى الاجتهاد ، وبعبارة أصح قيام الاجتهاد بمعناه الحقيقي بين الشيعة ، فى الوقت الذى كان الاجتهاد والاستنباط من هذا الطراز سائدا عند أهل السنة ، ولاسيما فى المذهب الحنفي من قبل حوالي قرنين ، أي من أواسط القرن الثاني الهجري" [10].
توفي الشيخ الطوسي في محرم 460 هج (1067م) ، ودفن في داره الواقعة شمالي حرم الامام علي ، ويقع فيها الان مسجده والشارع الذي يحمل اسمه.
تراجعت مدرسة النجف كثيرا بعد وفاة المؤسس. ومع انها شهدت قدوم المزيد من طلاب العلوم الشرعية ، الا ان الكاريزما الهائلة للطوسي تسببت في تعطيل الاتجاه النقدي ، فبقي الطلاب يرددون اراءه ويعيدون انتاج افكاره طيلة القرن اللاحق لوفاته[11]
انتقل مركز الثقل الحوزة العلمية الى الحلة في اوائل القرن الهجري السابع ، والى كربلاء في اوائل القرن الثاني عشر[12] ، والى سامراء في اواخر القرن الثاني عشر ، ثم الى قم في اوائل القرن الخامس عشر الهجري ، الامر الذي اثر بطبيعة الحال على مركزية النجف كعاصمة علمية للشيعة. الا ان هذه المدينة ـ كما لاحظت غيرترود بل [13] في الربع الأول من القرن العشرين ـ تبقى ذات جاذبية خاصة ، وجمال عميق الغور يصعب سبره ، يذهب عنها الناس ثم يعودون اليها ، تحت تأثير سحر يغري الانسان بكشف غموضه ، لكنه سرعان ما يتحول جزء منه.
يطلق اسم "الحوزة العلمية" على مجموع المدارس وحلقات الدرس الخاصة بعلوم الشريعة والعلوم المساندة لها ، مثل اللغة العربية والمنطق والفلسفة والعقائد الخ. اما المدارس فهي في الغالب مساكن للطلبة العازبين الذين قدموا من خارج النجف. وحين قدمت النجف كانت "دار العلم" التي اسسها المرحوم السيد محسن الحكيم احدث تلك المدارس. وكان بين اقدمها مدرسة المقداد السيوري ، التي عرفت لاحقا بالسليمية في محلة المشراق. وتقول بعض المصادر انها كانت قائمة في اوائل القرن التاسع الهجري. وبين المدارس التي لفتت نظري "جامعة النجف الدينية" التي تقع في بناء جميل خارج حدود النجف القديمة ، على الشارع الذي يربطها مع الكوفة. وكانت هذه المدرسة الوحيدة التي هيأت لطلبتها مواصلات منتظمة ، تأخذهم يوميا الى مواقع الدرس في النجف القديمة وتعيدهم منها.
وقد تكفل ببناء المدرسة والانفاق عليها في عام 1382 ه المرحوم محمد تقي اتفاق ، وهو تاجر ايراني ، وادارها الفقيه السيد محمد كلانتر ، واراد الرجلان ان يجعلا منها مثالا لنمط جديد من المدارس الدينية يتميز بالانضباط ، قياسا الى العرف السائد في المدارس الاخرى والذي يتميز بالتحرر واللانظام[14]. وقرات في كتيب عن هذه المدرسة انها تلزم طلابها بأوقات محددة واختبارات ، وتمنعهم من اقتناء الصحف واجهزة الراديو. بعبارة اخرى فقد كانت نموذجا لمدرسة تقليدية في المنهج والتوجه ، لكنها منظمة وحسنة الادارة.
مبنى جامعة النجف الدينية
ولاحظت ان التقشف هو السمة الغالبة على حياة الطلبة في الحوزة العلمية. وتجد هذا اكثر وضوحا في حياة الطلبة الذين لم يصلوا مستويات متقدمة. لكن الحال يميل الى التحسن بعد ذلك. الطالب الذي درس سبع سنوات او اكثر يستطيع ممارسة الخطابة والتبليغ في بلاده او غيرها ، فيحصل على بعض المال الذي يقيم أوده. كما ان الذين يبرعون في التدريس يجدون بين تلاميذهم من يمد لهم يد العون.
فيما عدا هذه الحالات ، فان الطلبة يعتمدون في معيشتهم على ما يرسله اهاليهم اضافة الى مكافآت بسيطة يوزعها المراجع الكبار. وهي تتفاوت بين مرجع وآخر بحسب قوة مداخيله وعدد الطلبة المسجلين في ديوانه. وحين كنت في النجف ، كان بعض زملائي يحصلون على ما مجموعه 15 دينارا اضافة الى 30 رغيف خبز في الشهر ، ومن يحصل على 50 دينارا فهو يعد من القلة الاثرياء. وكان الدينار يعادل يومئذ ثمانية ريالات سعودية. وعلمت لاحقا ان الاحوال تحسنت كثيرا في السنوات التالية.
ولمناسبة الحديث عن المعيشة ، اتذكر ان كلفتها كانت منخفضة في تلك الايام. واعتدت ان اذهب في صباح بعض الايام الى سوق العمارة الواقع غرب الروضة الحيدرية لشراء ما يلزم للافطار والغذاء ، ويسمى في النجف "المسواق". فكنت املأ السلة بما يصل الى 300 فلس ، ويشمل هذا قيمة الخبز والجبن وشيئا من اللحم والخضار والفاكهة. وكانت وجبة الغذاء في المطعم تكلف 90 فلسا. وافترض ان هناك من ينفق اكثر من هذا المبلغ وهناك من ينفق اقل منه. لكن المستوى العام لطلبة الشريعة ، لا سيما في المراحل الاولية والمتوسطة أميل الى التقشف والبساطة في كل جوانبها.

المرجعية الدينية

نستطيع وضع تقديرات معقولة عن ظروف تاسيس الحوزة العلمية وتحديد تواريخ قريبة من الواقع. لكن الامر مختلف في موضوع المرجعية الدينية ، حيث تتفاوت التقديرات بشان بدايتها.
يكمن السبب الرئيس لتفاوت التقديرات في تحديد المقصود بالمرجعية. ليس ثمة شك انه في مختلف الازمان لعب رجال الدين ، سيما المجتهدون منهم ، ادوارا اجتماعية وسياسية بارزة ، وربما عد بعضهم زعيما على المستوى العلمي او السياسي. لكن هذه الزعامة كانت في الغالب محلية ، على مستوى مدينة او اقليم ، او على المستوى العلمي ضمن اطار الحوزة العلمية. 
في اواخر القرن التاسع عشر ، حدث تطوران بارزان ، احدهما ذو طبيعة نظرية والاخر سياسي: الاول هو بروز نظرية الشيخ مرتضى الانصاري (1799-1864) التي تقرر وجوب التزام المكلف باراء فقيه واحد ، اذا اطمان الى تفوقه في العلم على غيره.  اما الحدث الثاني فهو فتوى الميرزا الشيرازي بحرمة التعامل في التنباك ، بيعا وشراء واستعمالا، وهي الفتوى التي شكلت بداية لتفارق حاد بين الحكومة القاجارية والمجتمع الديني.
تتمتع اعمال الشيخ الانصاري النظرية بتاثير خاص في الفقه الشيعي المعاصر. وكما لاحظ خوان كول فان رايه القائل بضرورة الاقتصار على مصدر واحد للفتوى ، قد حظي بترحيب بالغ بين طلبة العلوم الشرعية. وبالتالي فقد شكل الارضية التي اقيم عليها البناء النظري لمؤسسة المرجعية الدينية التي نعرفها اليوم. ظهور نظام المرجعية الدينية ، وتحول الفقيه من مصدر للفتوى فقط الى زعامة متمركزة ، يعتبر تحولا بالغ الاهمية في تاريخ الشيعة . وطبقا لملاحظة كول فان تنظير الانصاري للفكرة ، قد وفر الاساس الضروري لزعامة قوية في السنوات التالية[15].
كانت "انتفاضة التنباك" في ايران عام 1891 الفرصة الاولى لاستعراض القوة السياسية لمؤسسة المرجعية التي وضع الانصاري ارضيتها النظرية. فالفتوى التي اصدرها خليفته الميرزا محمد حسن الشيرازي ، بتحريم تداول واستعمال التبغ ، التزم بها اغلب الايرانيين ، فاضطر الشاه ناصر الدين القاجاري الى الغاء امتياز كان قد منحه لشركة بريطانية لاحتكار تجارة التبغ[16]. رغم محدودية اهدافها ، فان هذه الحركة كانت اول تعبئة شعبية عامة ضد الحكومة الايرانية. وقد اسهمت في بلورة الدور الخاص للمؤسسة الدينية في الحياة السياسية للشيعة ، حيث ظهر العلماء كممثلين طبيعيين لعامة الشعب ومصالحهم[17].
رغم الشعبية الواسعة التي كسبها الميرزا الشيرازي ، الا ان اصداره لفتوى التنباك اججت نزاعات على الزعامة. وعند وفاته في 1895م لم يكن في النجف زعيم قادر على ملء الفراغ الذي تركه. وساهمت الثورة الدستورية التي اندلعت في ايران سنة 1905 في توسيع تلك النزاعات.
لكن ليس كل الظروف السيئة سيئة بالمطلق ، فبعضها يلفت انظار الناس الى حاجاتهم. هذا ما حصل فعلا فيما يتعلق بالمرجعية. فالنزاع على النفوذ ، حمل خلفاء الميرزا على الاهتمام بالجانب المؤسسي لعلاقة الفقيه بالجمهور. واظن ان السيد محمد كاظم اليزدي (ت 1337 هج)، الذي كان معارضا للثورة الدستورية ، قد ساهم بدور هام في تطوير هذا الجانب بشكل خاص.
يمثل كتاب اليزدي "العروة الوثقى" النموذج الاول لما يعرف اليوم بـ "الرسالة العملية" ، وهي مجموع يضم فتاوى المجتهد في مختلف الامور العبادية والعملية ، موجه لعامة الناس وليس للمختصين كما جرت العادة في الماضي. في الوقت الراهن يعتبر المراقبون نشر احد الفقهاء لرسالة عملية بمثابة اعلان عن تصديه للمرجعية الدينية. وجميع الفقهاء المعاصرين لديهم مثل هذه الرسالة التي تمثل خيط العلاقة الرئيس بينهم وبين مقلديهم.  مع "العروة الوثقى" وما تحويه من فتاوى نهائية ، كتبت بلغة بسيطة نسبيا ، ارسى اليزدي علاقة مباشرة بين المرجع الديني ورجال الدين المحليين في مختلف الاقطار ، سيما اولئك الذين لم يحصلوا على نصيب وافر من العلم. هذه العلاقة ستكون عمودا هاما من اعمدة نظام المرجعية في السنوات التالية.
وتشير بعض المصادر الى ان اليزدي ارسل مبعوثين الى قرى ومدن العراق المختلفة ، كما اقام صلات مع العلماء المحليين في هذه المدن. ليس لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الاتصالات ، التي جرى معظمها في العقد الثالث من القرن العشرين. لكننا نعلم ان الفترة الفاصلة بين الحرب العالمية الاولى والثانية ، شهدت تحولا هاما في مكانة النجف وعلمائها. فقد تراجعت – لأسباب مختلفة – اهمية الزعامات الدينية المحلية ، ومال الشيعة بشكل متزايد الى "تقليد" احد المراجع البارزين في النجف الاشرف. واظن ان خمسينات القرن العشرين كانت هي الفترة التي اكتمل فيها بنيان المرجعية الدينية كمؤسسة ومركز للزعامة في العالم الشيعي.

نزاعات المراجع

يتمنى عامة الناس ان يكون الفقهاء المتصدون للمرجعية الدينية على وفاق وانسجام. ويفترض بعضهم ان هؤلاء يجتمعون بين حين وآخر وينسقون مواقفهم ويتعاونون في اعمالهم ..الخ.
لكن واقع الحال بعيد عن هذه الأمنيات. خلال العقود الأربعة الماضية التي كنت اتابع فيها مثل هذا الأمر ، لم اسمع عن لقاءات بين المراجع ، الا في حالات نادرة تعد على اصابع اليد. ولا أعني هنا الزيارات ذات الطابع الشخصي ، كما في حالات مرض بعضهم او عودته من سفر ، فهذه – على قلتها ايضا – متوقعة ، وهي لا تعني الكثير. المقصود بشكل محدد هي تلك اللقاءات التي محورها وموضوعها قضايا عامة. كان استاذنا السيد محمد الشيرازي رحمة الله عليه قد نشر بحثا عن "شورى الفقهاء" وهو طرحه البديل لنظرية "ولاية الفقيه" وزبدته ان يتولى لقيادة مجموعة فقهاء بدلا من واحد. لكن سيرة الفقهاء في المراتب العليا لا تقدم دليلا على ان بوسعهم الاجتماع والنقاش في القضايا العامة ، فضلا عن تشكيل قيادة جماعية لبلد واحد. 
استاذي المقدس آية الله الشيرازي رضوان الله عليه
ويغلب على ظني انه لا توجد اسباب للنزاع بين المراجع انفسهم. لكن التصدي للزعامة ، سواء كانت دينية او دنيوية ، او السعي اليها ، يولد – بالضرورة – موضوعات للتنافس الذي يمكن ان يبقى في اطاره الايجابي ، ويمكن ان ينقلب الى تنازع.
ويميل الجمهور – عادة – الى تعليق مسؤولية الخلافات بين المراجع على عاتق من يسمون بالحواشي ، اي مساعدي الزعيم الديني والعاملين في جهازه. وهذا صحيح تماما. لكنه لا يخلي ساحة الزعيم من المسؤولية. طالما كانوا يعملون معه ولأجله ، فهو بالتأكيد مسؤول سياسيا أو أددبيا عن تصرفاتهم. لأن من يشارك في الغنم فهو شريك في الغرم.
ومما أذكره في هذا الصدد ان الفترة اللاحقة لوفاة السيد محسن الحكيم قد شهدت موجة من الخلافات بين اتباع الفقهاء العديدين الذين تصدوا لخلافته ، حتى استقر الامر – بعد بضع سنوات – للسيد الخوئي ، الذي بات مرجعا للأغلبية حتى انتصار الثورة في ايران سنة 1979 ، حيث مالت شريحة عريضة من الشيعة لتقليد السيد الخميني ، ولا سيما في ايران نفسها ، التي – بسبب حجمها السكاني - تعتبر مركز الاستقطاب الشعبي الرئيس للمراجع.
وأشير في هذا الصدد الى ان صعود الخميني الى السلطة قد جذب اليه غالبية الشيعة. لكن ينبغي عدم الخلط بين التقدير الشخصي والتقليد الديني. على الرغم من ان الجميع نظر الى الخميني كزعيم لشيعة العالم ، الا ان التيار التقليدي – وهو يشكل اكثرية الشيعة – حافظوا على تقليدهم للخوئي في الأمور الدينية.
هذا يفسر بما سبق ان أشرت اليه. ان غالبية الناس يرغبون في زعيم فعال وناجح. لكنهم – في الامور الدينية البحتة – يفضلون الركون الى رجل دين تقليدي ، ويصطنعون لهذا مبررات ذات صبغة فقهية مثل القول بالاعلمية وغيرها. حقيقة الأمر ان الناس يفصلون بين امنياتهم التي تدور حول زعيم فعال ، وبين حياتهم الدينية التي ترتبط عادة بالسكون والاستمرار والمحافظة على الموروث والمألوف.
على اي حال فان العلاقة بين المراجع ، او اعلى الاقل بين اتباعهم ، لم تكن في الغالب ودية. وقد لاحظت ان اي فقيه يعلن تصديه للمرجعية ، يواجه حربا معلنة أو صامتة من قبل السابقين. وتزداد حدة الحرب بقدر ما يكون خطاب المرجع الجديد اقوى نفوذا في الاوساط الشعبية.
وأذكر في هذا الصدد ان السيد الخوئي اصدر فتاوى تشكك في أهلية السيد محمد الشيرازي واجتهاده ، ونقل انه نهى عن الرجوع الى السيد محمد باقر الصدر ، حتى اضطر الاخير الى التسجيل على الخوئي انخراطه في صراعات غير ضرورية ، واصداره فتاوى تشكك في ذمة اشخاص بعينهم ، او في كفاءتهم العلمية. وهو عمل غير مألوف من جانب كبار المراجع. ولعله انزلق اليه بتأثير بعض وكلائه او مساعديه.

وادي السلام

قد لا يكون شأن المقابر مهما في مدن العالم. لكنها في النجف حالة مختلفة. حتى اواخر الستينات من القرن العشرين ، كان بعض سكان البلدة القديمة يعدون قبورهم داخل بيوتهم ، ويوصون اهلهم بدفنهم فيها بعد وفاتهم. وتخصص لهذا الغرض غرفة خاصة محاذية للطريق او جزء من السرداب بمدخل وسلم مستقل. وكان بعض العلماء يوقف داره لتكون مكتبة عامة او مدرسة ، ويوصي بدفنه فيها. ودفن المرجع الكبير السيد محسن الحكيم في المكتبة المسماة باسمه وهي من اضخم المكتبات العامة في العراق. ودفن بعض العلماء والوجهاء في صحن حرم الامام علي (ع) ، ومن بينهم المرجع الراحل ابو القاسم الخوئي وولداه محمد تقي وعبد المجيد.
 وأقمت برهة في بيت يحوي قبر صاحب الدار ، وعلمت مرة ان احد ابنائه اراد التوصية بدفنه في المكان نفسه ، فلما علم المستأجر عارضه واخبره انه سيترك البيت ان اصر على عزمه ، لان اهله يكرهون الشعور بانهم يعيشون على سطح مقبرة. فاقلع المالك عن رغبته تعاطفا مع المستأجر. وأظن ان معظم الناس قد تركوا عادة الدفن في البيوت في  السنوات الاخيرة ، سيما بعد هدم جزء كبير من المدينة القديمة.
وتنتشر المقابر الفردية والعائلية على امتداد الجزء القديم من المدينة. لكن مقبرة النجف الكبرى المسماة بالغري او وادي  السلام تمثل عالما مختلفا تماما ، فهي تمتد على مساحة كبيرة ، قيل انها تجاوز 17 مليون متر مربع ، وتغطي واجهة النجف الشمالية باكملها وجزء من واجهتها الشرقية. ودفن فيها على مر السنين مئات الالاف من عامة الناس والعلماء والزعماء السياسيين. وحوت جنباتها رفات اشخاص من مشارب متباينة ، اصدقاء واعداء. فضمت جدث عسكري سفاح مثل اللواء ناظم كزار الذي قتل وعذب مئات من الناس خلال عمله ضابطا في المخابرات ، كما احتوت اجداث المئات ممن ماتوا تحت سياط ذلك السفاح وامثاله ، ومنهم اية الله محمد باقر الصدر الذي قتل مع اخته في مطلع ثمانينات القرن المنصرم.
حين تطل على المقبرة الشاسعة ، يغمرك شعور بالغربة والضآلة وربما الضياع ، فالاف القبور التي تمتد شواهدها على مرمى البصر ، وتلك التي اندثرت ، كلها تذكار لخطوط الانكسار التي هي ابرز سمات الحياة. هنا يرقد كثير من الشهود على عوالم كثيرة بادت بعدما سادت ، واصبح اهلها فريسة الدود بعدما كانوا يملأون الدنيا.

منتدى النشر

في مساء صيفي اخذني الوالد الى مدرسة "منتدى النشر" الاعدادية ، التي بقيت فيها اربع سنين ، هي مجموع الفترة التي عشتها في النجف. هذه المدرسة جزء من مشروع تعليمي طموح وضعت لبناته الاولى في 1935 ، حين تاسست جمعية منتدى النشر على يد مجموعة اصلاحية في الحوزة العلمية[18].
وطبقا للمعلومات المتوفرة ، فان فكرة تأسيس الجمعية ظهرت بعدما زار الملك فيصل الثاني النجف ، واعلن رغبته في إقامة جامعة دينية على غرار الأزهر. استغرق الامر 15 عاما حتى نضجت الفكرة على يد مجموعة من رجال الدين الشباب ، بينهم محمد رضا المظفر ، احمد الوائلي ، محمد تقي الحكيم ، عبد المهدي مطر ، هادي فياض ، مسلم الجابري ، محمد جمال الهاشمي ، عبد الحسين الرشتي ، محمد تقي آل صادق ، أحمد المقمقاني ، وعبد الحسين الحجار.
ارادت المجموعة انشاء نظام تعليمي حديث ، يمكن ان يشكل نواة لتنظيم وتحديث الدراسة في الحوزة العلمية ، التي اشتهرت بعدم نظاميتها. وكانت فكرتهم ان تفتتح مدرسة ابتدائية واخرى متوسطة وثانوية ، تجمع بين الدروس المعتادة في التعليم العام والدروس الدينية الاضافية. وكانت درة التاج في هذه المنظومة هي كلية الفقه. التي اعترفت الحكومة العراقية بشهادتها وساوتها ابتداء من العام 1958 بشهادات الكليات الادبية في جامعة بغداد.
 وكان المستهدف الرئيسي بالكلية طلبة الشريعة الذين يدرسون فيها ما يعادل المستوى المعروف بالسطوح في الحوزة التقليدية ، اضافة الى مواد غير متعارفة مثل القانون والبلاغة وعلم النفس والاجتماع ومناهج البحث. لكن يبدو انها توسعت في القبول فضمت عشرات من الطلاب من خارج الحوزة العلمية. كانت الكلية تفرض رسما على هؤلاء ، بينما تعفي الطلبة المعممين من الرسوم. واذكر ان الكلية استقطبت في اوقات مختلفة عددا من كبار الاساتذة مثل د. مصطفى جواد عالم اللغة الاشهر في العراق ، والشاعر د. مصطفى جمال الدين الذي درس فيها البلاغة والعروض ، ود. عبد الهادي الفضلي وهو فقيه من الاحساء ، والسيد محمد تقي الحكيم استاذ اصول الفقه ، ود. جواد علي وهو مؤرخ معروف ألف موسوعة فريدة عن تاريخ العرب قبل الاسلام ، وغيرهم. وعلمت فيما بعد ان حكومة صدام حسين قد سيطرت على الكلية وصادرت مبانيها ، مثلما صادرت العديد من المنشآت الاهلية المماثلة بحجة او باخرى. لكنها استعيدت بعد سقوط النظام في 2003.
كنت اذهب كل مساء الى المدرسة مرورا بشارع الصادق ، ثم شارع الخورنق ، الذي تقع عليه مدرستان هما الخورنق والسدير ، ثم امر على نادي المعلمين ، وهو ملتقى اجتماعي خاص بهذه الفئة ، زرته مرة فوجدته مكانا لطيفا ، يحوي مقهى وحديقة ، ويشكل وسطا اجتماعيا طبيعيا للتعارف بين اهل مهنة التعليم.
في نهاية شارع الصادق ثمة مكتبة صغيرة ، لعل اسمها كان مكتبة الفرات ، ولست متاكدا ، توفر الكتب الجديدة والعديد من المجلات التي كان اكثرها مواليا لحكومة بغداد. واعتدت شراء واحدة من هذه المجلات هي "الاحد" التي كان يراس تحريرها كما اذكر علي بلوط. ثم تركتها الى مجلة "الاسبوع العربي" ، التي كان يحررها فيما اذكر جورج ابو عضل ، وهي ارقى واكثر حرفية من السابقة ، وكان الذي لفتني اليها تحقيق عن ثوار ارتيريا كتبه جورج قرداحي. وكانت تلك اول مناسبة اتعرف فيها على الثورة الارتيرية التي انتهت باستقلال هذه البلاد عن الحبشة. اصبح قرداحي فيما بعد مقدم برامج تلفزيونية ، واشتهر خصوصا بتقديمه برنامج "من يربح المليون" على قناة ام بي سي.
درست في اعدادية منتدى النشر اربع سنوات من الصف الاول متوسط الى الاول ثانوي. وشهدت خلال هذه الفترة بداية تمدد حزب البعث الى المدرسة من خلال "الاتحاد الوطني لطلبة العراق" ، الذي افتتح مقره فيها حوالي العام 1974 ، وكان ابرز شخوصه زميل لي ينتمي لعائلة الرفيعي. وعلمت بذلك حين جاءني يوما وعليه سيماء الجد ، واخبرني ان هناك من ينقل عني كلاما ينطوي على سخرية من حزب البعث ، وان هذا قد تكون له عواقب سيئة: "انا صديقك وانا بعثي.. ولهذا احذرك من المشاكل" ، هكذا شرح الامر بوضوح وبساطة. علمت ان بين الطلاب من لا يرغب في الانضمام للاتحاد لانهم لا يحبون الحزب. لكن نادرا ما تجرأ احد على التصريح بذلك. فقد كان الحزب متداخلا مع جهاز المخابرات ، وكان يطلب من اعضاء الحزب وانصارهم التبليغ عن اي شخص معاد ، او يمكن ان يكون معاديا. وحين تصنف كعدو للحزب او حتى غير متعاطف ، فان عالمك ينقلب راسا على عقب.
***
بين نادي المعلمين ومدرستي ، يلفت نظري كل يوم سيارات نقل الرمل القديمة ، التي يسمونها هناك "القجمة". لم اكن قد رأيت هذه السيارات من قبل ، ولم ارها بعد ذلك. وهي تتميز بحجمها الصغير قياسا الى الشاحنات الاخرى ومقودها الواقع على اليسار كما هو المعتاد في بريطانيا. وعلمت فيما بعد انها من سيارات الجيش البريطاني التي تركها بعد جلائه ، وهي من صناعة فورد موديل 1938. وقد نجح الفنيون العراقيون في ابقائها على الطريق رغم ان عمرها يتجاوز ثلاثة عقود.
سيارة "القجمة" 
وقصة المحافظة على السيارات والاجهزة القديمة امر ملفت حقا. حين جئت العراق كانت الحكومة تطبق سياسة اشتراكية ، وتفرض رسوما باهضة على الواردات ، من اجل تشجيع الصناعة المحلية كما قيل. ويبدو ان هذه السياسة كانت متبعة منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في 1963. لكني اميل الى الظن بان ضيق ذات اليد ، هو الذي جعل العراقيين حريصين على الاحتفاظ بما يملكون ، من سيارات وتجهيزات وامثالها.
ولمناسبة ذكر السيارات ، فقد كان طريقي الى المدرسة يمر ايضا بورشة لصناعة الباصات الخشبية. وهذه ايضا لم اكن قد رايتها قبل ذلك ، لكني وجدتها في السنوات التالية في باكستان واقطار اخرى. كان العراق يستورد موتور السيارة من طراز فولفو السويدية ، وتقوم ورش متخصصة ببناء جسم الباص من الخشب الصلب. واذكر ان بعض الباصات العاملة على طريق النجف – كربلاء كانت تحوي مقاعد من الخشب ايضا. بل ان حافلات النقل العام الحكومية كانت هي الاخرى مقسومة الى درجتين اولى ذات مقاعد مريحة وثانية ذات مقاعد خشبية. واظن انهم قد تخلوا عن تلك الباصات وهذا النظام الان.
ومما لفت نظري في شاحنات العراق وحافلاته ، مداخنها التي تتجه الى الاعلى ، وليس الى الاسفل كما هو شان كافة السيارات والشاحنات في البلاد الاخرى. وقيل لي ان تلك المركبات تعمل على الديزل وهو ليس صافيا ، ولذا فهي تقذف بكمية كبيرة من الدخان ، ففضلوا ان يجعلوا مدخنتها موجهة الى السماء كي لا تقذف مخرجاتها في وجوه الناس او ثيابهم. والحقيقة ان كل شاحنة او حافلة كانت تشبه مصنعا صغيرا ، بما تقذفه من دخان اسود كثيف.

بعض التحولات 

لعل اكثر التحولات التي اثرت في نفسي خلال السنوات الاربع التي قضيتها في النجف هي انتصار العرب في حرب رمضان (اكتوبر 1973). وقد تابعت الحرب من خلال الصحف المحلية التي كان معظم اخبارها مكررا يختلط فيه الخبر بالتحليل والتوجيه الحزبي ، فلا تعلم صحيحه من كذبه. لكني استفدت من المجلات اللبنانية ولا سيما مجلة "الاسبوع العربي" التي لا زلت اتذكر صورة غلافها في الاسبوع الذي تلا هجوم المصريين والسوريين على القوات الاسرائيلية. وبقيت وزملائي نتبادل الحديث عما جرى اياما طويلة ، ويغمرنا شعور بالفخر والاعتزاز.
ومن بين الحوادث التي عاصرتها قصة الانقلاب الذي اتهم بتدبيره اللواء ناظم كزار مدير الامن العام (المخابرات) في 30 يونيو 1973، وقتل فيه وزير الدفاع حمادي شهاب ، وجرح وزير الداخلية سعدون غيدان. وسمعت لاحقا ان صدام حسين ، الذي كان يومئذ نائبا للرئيس ، دبر المسالة كلها كي يتخلص من الثلاثة معا ، وكانوا يعتبرون يومها من اقوى رجال الحكم في العراق. وقيل ان كزار هو الذي اراد الخلاص من الرئيس ونائبه والوزيرين. على اي حال فقد اعتقل كزار وعشرات من الزعماء البعثيين واعدموا دون محاكمة. وهذي هي العادة الجارية بين النخبة السياسية العراقية.
كان كزار بمثابة كلب الصيد لدى صدام حسين. وقد عرف دوره منذ اغتيال حردان التكريتي ، نائب الرئيس ووزير الدفاع السابق في الكويت ، حيث يقال انه هو الذي أدار العملية ، أو انه تولى "تنظيف" تبعات تلك العملية.
حردان التكريتي وعلاقته مع صدام حسين قصة تستحق ان تروى. فهي مثال على الطريقة التي اتبعها صدام حسين في تثبيت مكانته. القاعدة التي عرفها الجميع هي ان كل من اختلف مع صدام فليستعد للموت ، سواء كان قريبه او صديقه او رفيق حياته.
ولد حردان في تكريت سنة 1925. وفي 1949 عين ضابطا في سلاح الطيران. وفي 1963 ساهم بدور بارز في الانقلاب الذي قاده ضباط قوميون وبعثيون ضد اللواء عبد الكريم قاسم ، وأثمر عن استلام عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية ، كما عين احمد حسن البكر رئيسا للوزراء ، بينما حصل حردان على منصب قائد سلاح الطيران.
بعد تسعة أشهر من انقلاب فبراير 1963 اختلف الانقلابيون ، فقام عارف باقصاء البعثيين عن السلطة ، بدعم من حردان الذي حصل في المقابل على منصب وزير الدفاع. لكن عارف لم يكن مطمئنا لولائه ، فعزله في السنة التالية وأرسله سفيرا في العاصمة السويدية ستوكهلم.
انتقم حردان من شقيق عارف الذي خلفه في الرئاسة بعد مقتله في ابريل 1966[19]. في يوليو 1968 شارك في الانقلاب الذي قاده البعثيون وأتى بأحمد حسن البكر الى رئاسة الجمهورية ، فكوفيء بمنصب وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة ، ثم تكررت القصة القديمة فجرد من مناصبه نهاية 1970 ، فاختار الهرب الى الجزائر ظنا بحياته.
انتهت قصة حردان في 30 مارس 1971 ، حين اطلق عليه اربعة مسلحين وابلا من الرصاص فور نزوله من سيارة السفارة العراقية امام المستشفى الاميري في الكويت العاصمة. كان حردان قد جاء الكويت للقاء عائلته التي افترض انها ستاتيه من بغداد. وشعر بالمرض فرافقه صديقه سفير العراق الى المستشفى ، حيث لقي منيته. لا نعلم ان كان السفير جزء من خطة الخلاص من حردان. لكنا نعلم انه استدعي على الفور الى بغداد وعين مديرا في وزارة الخارجية.
قامت الكويت بالتحقيق في القضية ، لكنها – كالعادة – لم تستطع القبض على القتلة ، مع ان الجميع يعرفهم. اما القتيل فقد اخذت جثته على طائرة عراقية خاصة الى بغداد ، حيث اقيم له تشييع رسمي. ويقال ان القتلة الاربعة كانوا على متن الطائرة نفسها. واذا صح هذا ، فهو بلا شك من سخريات القدر.

تبع اغتيال حردان سلسلة من التصفيات المماثلة ، طالت جميع المشاركين في انقلاب 17 يوليو 1968 ، فلم يبق منهم الا العضو الاصغر صدام حسين. ويبدو ان حزب البعث كان قد قرر منذ البداية اقصاء كل من لم يكن في التنظيم قبل الانقلاب ، وكل مشكوك في ولائه او منافس فعلي او حتى محتمل لقيادة التنظيم. وفي البداية جرى الاعتماد على حلقة صغيرة من الاقارب. ومن أوائل من قتل فؤاد الركابي ، الذي كان امين القيادة القطرية لحزب البعث ، وكان قد اعتقل عند استيلاء الحزب على السلطة في يوليو 1968 ، وقتل في السجن قبل موعد خروجه بنصف شهر في نوفمبر 1971 ، وتم اعدام القاتل. لكن الجميع يعلمون انه قتل بأوامر من فوق. ونشرت صحيفة "الاحد" البيروتية التي تمولها وزارة الاعلام  العراقية ما وصفته بمقابلة خاصة مع القاتل مع مانشيت على الغلاف يقول "هكذا قتلت فؤاد الركابي". 

على أي حال فان الجميع كانوا قد عرفوا القاعدة التي وضعها القادة البعثيون: من يختلف معنا فلينتظر الموت. هذا بالتحديد ما قاله تايه عبد الكريم ، العضو في القيادة القطرية لحزب البعث: "كنا نعيش حالة من الألم من عدم قناعة. حالة توجس وخيفة، حالة من الرعب والخوف، إن حالة من الرعب اجتاحت الجهاز الحزبي والقيادة إذ لم يكن أحد منا يطمئن أو يعرف متى سيكون شاهداً؟ ومتى سيزج به كمتهم"[20] . لقد حصرت الوظائف الرئيسية في الدولة والقوات المسلحة في المنتمين الى حزب البعث ، اما الوظائف الادنى مرتبة فقد توزعت بين بعثيين جدد (كانوا يسمون بالانصار) أو متعاطفين مع البعث. لقد تعلم قادة البعث درساً بليغا من المأساة التي حلت بهم حين شاركوا القوميين السلطة في 1963. هذا الدرس هو ببساطة ان السلطة ليست غنيمة يمكن اقتسامها مع أحد. اذا استوليت على شيء فاقتل كل منافس محتمل. هذه هي القاعدة التي شكلت عقيدة السلطة في حزب البعث حتى سقوطه في 2003.
الملا مصطفى البرزاني وصدام حسين
ومن الحوادث البارزة التي اذكرها من تلك الفترة ايضا ، انفراط اتفاق 11 اذار (مارس) 1970 الذي حصل الاكراد بموجبه على الحكم الذاتي للمحافظات الشمالية التي تسكنها اغلبية كردية. في سبتمبر 1971 ارسلت الحكومة وفدا من رجال الدين لمقابلة الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني. وقيل ان المخابرات فخخت سيارتهم وجهاز تسجيل يحمله احدهم. لكن البرزاني نجا وقتل الضيوف[21]، وكان بينهم رجل دين مقيم في النجف ، مشهور بعلاقته القوية مع المخابرات.  وادى الحادث الى عودة التوتر في اقليم كردستان.

قضايا صغيرة

بعض الحوادث التي اتذكرها عن تلك الحقبة تبدو صغيرة في سياق التاريخ. لكنها – في وقتها – كانت تبدو اشياء في غاية الاهمية. ربما كانت علامة على تحول ما. المهم ان اهتمامي بها نابع من شعوري باهتمام الناس الكبير بها في لحظتها.
من ذلك مثلا افتتاح فرع لشركة "اورزدي باك" ، وهي شركة عراقية - اجنبية مختلطة متخصصة في استيراد وتوزيع الاجهزة المنزلية ، وقد صادرتها الحكومة مثل كثير من الشركات الاخرى. وافتتح الى جانبها فرع لشركة "باتا" المتخصصة في صناعة الاحذية. وكان افتتاح المحلين حدثا مشهودا ، تحدث عنه اهل النجف. ربما لانها المرة الاولى التي تتوفر للناس فرصة الحصول على اجهزة كهربائية منزلية ، ذات مستوى جيد وباسعار معقولة.
ومن طرائف ما حدث في تلك الايام ، انضمام اول سيارة لكبس الزبالة الى اسطول بلدية النجف. وقد اعتنت البلدية بتعليق لافتة كبيرة كتب عليها "هدية حكومة الثورة الى بلدية النجف". وقد وجدت فيها اشارة على بساطة اولئك الناس ، او قلة لياقة الحكومة ، التي تعتبر شراء شاحنة لمدينة رئيسية ، شيئا يستوجب الاشادة على هذا النحو. واذكر للمناسبة ان القمامة في النجف كانت تجمع بواسطة عربات يدوية كبيرة ، ربما لان طرقات المدينة القديمة لا تتسع لمرور سيارات ، او لان البلدية لا تملك العدد الكافي من السيارات. ومررت يوما في سوق العمارة بجامع قمامة يحدث ابنه الصغير ويمنيه بانهم "ربما" يذهبون يوما الى بغداد. فسأله الطفل: "اذا سافرنا الى هناك فاين ستضع مكنستك؟". كان الذهاب الى بغداد امنية عند فقراء النجف ، نظرا لافتقارها الى اي مرفق ترفيهي من اي نوع.
واذكر من الطرائف ايضا خبرا نشرته صحيفة اسبوعية على صفحتها الاولى ، واثار ضجة في البداية وسخرية في النهاية. يقول الخبر ان باحثا عراقيا توصل الى علاج لنوعين من السرطانات ، اطلق على الاول اسم بكرين – نسبة الى الرئيس احمد حسن البكر – واطلق على الثاني اسم صدامين نسبة الى نائب الرئيس صدام حسين. وقد تساءل بعض الناس عن سر اختيار هذين الاسمين بدل الاسماء العلمية كما هو المعتاد في حالات كهذه ، فقيل لهم ان الاسماء تقهر اي معارض محتمل ، سيما في الوسط الاكاديمي المعروف بالتحفظ. الانطباع القائم هو ان اي استاذ او عالم لن يجرؤ على التشكيك في صحة او فاعلية دواء يحمل اسم الرئيس او النائب.
ومما اذكره ايضا انعقاد مهرجان المربد الشعري عام 1972 ، وهو في ظني اعظم ملتقيات الشعر العربي يومئذ، وقد حضره عدد كبير من فحول شعراء العرب ، واذكر منهم محمد مهدي الجواهري الذي القى قصيدة مطلعها :
حييت سفحك عن بعد فحييني  يادجلة الخير يا ام البساتين
ومصطفى جمال الدين ، الذي القى قصيدة مطلعها :
بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر الا ذوت ووريق عمرك اخضر
ونزار قباني والقى قصيدة مطلعها:
مرحبا ياعراق جئت اغنيك وبعض من الغناء بكاء
ومما اذكره عن تلك الحقبة زيارة برفقة الشيخ عبد الله الخنيزي للسيد شبيب المالكي ، الذي عين للتو محافظا لكربلاء ، ولا اذكر الحديث الذي دار سوى كلمات المجاملة الاعتيادية. وهذا هو اول لقاء لي مع مسؤول حكومي رفيع. كما رافقت والدي في زيارة الى مدير مصنع حكومي في كربلاء ، لعله مصنع معجون الطماطم (الصلصة) ، وتحدث عن مشروعات تنفذها الحكومة في المنطقة. وبعد خروجنا رغب الوالد في الجلوس في مقهى على ناصية الشارع ، وصادف ان جلسنا قرب كهل يقرأ في صحيفة ، فحييناه ثم دخل الوالد في حديث معه لا اذكر شيئا منه. وبعد قيامنا قال الوالد ان الرجل كان بعثيا ناضجا ، بخلاف مدير المصنع الذي كان – حسب انطباعه – يتكلف الكلام ، ولا ينبيء حديثه عن معرفة بما يخوض فيه.
ورافقت يوما خالي الشيخ احمد الى السفارة السعودية في بغداد لتجديد جوازه ، وركبنا حافلة النقل العام. وبعد قليل جلست الى جانب الخال فتاة سافرة ، فادار وجهه نحو النافذة وبقي كذلك حتى وصلنا مقصدنا. وخلال جلوسنا في غرفة انتظار السفارة دخلت سيدة اوروبية المظهر تلبس تنورة قصيرة ، وجلست فانشغل معظم الجالسين بالتحديق فيها.
وخرجت يوما مع جارنا المرحوم ابو حسين قيس الى سوق الكاظمية ، وهي احد احياء بغداد الكبرى ، وكان قد جاء للعلاج ، وحين دخلنا في سوقها المزدحم ، قال لي ما فحواه ان ازدحام الناس هنا يؤكد الانطباع بانها بلد حقيقي ، بخلاف "تاروت" التي بالكاد ترى بضعة افراد في سوقها. ولمناسبة ذكر العلاج فقد كان بعض الناس يقصدون العراق لهذا الغرض ، ولم يكن في بلدنا يومئذ اطباء مرموقون او مستشفيات مجهزة ، او لعلهم يثقون في البعيد اكثر من القريب الذي الفوه واعتادوا عليه ، وهذه من السمات البارزة في ثقافتنا العامة. وأذكر في هذا الصدد ان استاذي الميرزا حسين البريكي اعتاد زيارة طبيب في مدينة الديوانية لفحص بصره ، وتقع الديوانية على مسافة 70 كم شرق النجف ، وكان يصحبه في اسفاره الحاج عباس الجصاص وهو من اظرف الناس والينهم جانبا.  

النجف القطيفية

بعد اسابيع من وصولي الى النجف ، (اوائل شوال 1390 هج = ديسمبر 1970) ، حل علينا ضيوف مختلفون ، اكتشفت معهم عالما مختلفا. لم يأت السيد حسن العوامي والاستاذ عبد الله الخنيزي للدراسة الدينية. فقد كان كل منهما وجيها مرموقا في البلاد. ولم تجر العادة ان ينضم طالب الى الحوزة العلمية في سن متقدمة. كان الرجلان قد تجاوزا الثلاثين من العمر ، بينما يبدا معظم الطلبة تحت العشرين. ومع الرجلين بدأت ارى شبابا من القطيف يدرسون في جامعات العراق. وعلمت لاحقا انهم جزء من محاولات حزب البعث الحاكم لانشاء تنظيم حزبي في المملكة. كلفني السيد حسن يوما بتبييض مقالة وجدتها بعدئذ منشورة في مجلة "صوت الطليعة" المعارضة للحكومة السعودية. اكتشفت عند ذاك هذا الجانب المختلف في الحياة : المعارضة السياسية. وبدأت افهم فحوى الاخبار التي اسمعها في المجالس ، عن اعتقالات متواصلة في البلد لأشخاص يتهمون بمعارضة الحكومة.
اقام الاثنان الخنيزي والعوامي ، في اول امرهم ، في دار ابن عمتي عبد العلي ال سيف ، الذي كان يومها طالبا في كلية الفقه. و ربما لهذا السبب عرفت بوجودهم ، ولعل غيرهم قد لجأ مثلهم الى النجف ولم اعرف عنه. وفي وقت لاحق انضم اليهم محمد رضي الشماسي وكان – بالقياس الى سابقيه – شابا في مقتبل العمر. وقد تعلمت على يديه مقدمات اللغة الانكليزية.
فهمت لاحقا ان جهاز الامن يشن حملة اعتقالات في القطيف ، وان الثلاثة هربوا بعدما علموا انهم مطلوبون للاعتقال. كانت هذه هي المناسبة الاولى التي اتعرف فيها بشكل مباشر على الاوضاع السياسية في المملكة. فيما بعد لاحظت ان عدد الهاربين من المملكة كان كثيرا نسبيا ، وان بعضهم قد اقام في العاصمة بغداد.
من بين هؤلاء اذكر خصوصا المرحوم عبد الرسول الجشي (1926-2008) ، وهو شاعر عذب ، والده الشيخ علي الجشي قاضي القطيف واحد ابرز زعمائها الدينيين في النصف الاول من القرن العشرين. كان الجشي مقيما في بغداد ، وقدر زرته مرة في منزله بحي المنصور. كان الجشي ياتي الى النجف في المناسبات ، ويحرص على زيارة السيد حسن والشيخ عبد الله. وكنت استمع احيانا لما يذكر في هذه الجلسات من اخبار البلد ، ولا سيما اخبار الاعتقالات الجديدة. كما اطلعت للمرة الاولى على مجلة "صوت الطليعة" التي لا تنشر اسماء كتابها او مديريها ، لكني فهمت ان للجشي علاقة وثيقة بها. وفي وقت لاحق ، علمت ان الاعضاء السعوديين في حزب البعث ، هم الذين يصدرونها. في ذلك الوقت كانت المجلة تعتبر رزينة جدا وذكية في طروحاتها. وقد عرفت من خلالها معلومات كثيرة عن التاريخ السياسي لبلدنا ، وما يدور فيه وحوله من صراعات.
واطلعت يومئذ على بعض قصائد الجشي ، وبينها ملحمة شعرية عظيمة ، تصف احتفالا فولكلوريا يقام في القطيف في ربيع كل عام ، شاركت فيه في طفولتي ، وكنا نعرفه باسم "واصفيروه". ولا اعلم ان كان هذا هو اسمه الصحيح ام انه مجرد تصور ذهني رسخ في ذهني بسبب الاغنية الخاصة بالمناسبة والتي تبدأ بهذه الكلمة. وقد اندثرت هذه المناسبة ولم يبقى من ذكراها سوى مهرجان "الدوخلة" التراثي الذي يقام سنويا على ساحل سنابس ، شرقي جزيرة تاروت. والدوخلة اناء من سعف النخل المجفف يستعمل لزراعة بذور القمح في منتصف الشتاء ، فاذا جاء الربيع وبرز النبات من ترابه ، حمله الاطفال الى ساحل البحر والقوا به في الماء وهم ينشدون اناشيد تراثية ، اذكر من بينها اغنية مطلعها "دوخلتي حجي بي" اي خذيني الى الحج ، وغيرها مما لم أعدت اذكره الان.
بعد سنوات اخبرني السيد حسن العوامي عن قصة هروبه الى العراق. وخلاصتها انه كان يقيم مجلسا تأبينيا للمرجع الاعلى السيد محسن الحكيم في يونيو 1970، فحضر مدير جهاز المباحث في القطيف ليخبره انه مطلوب ، فخرج السيد فورا الى الكويت ، حيث عمل لمدة شهرين في مجلة "صوت الخليج" التي كان يصدرها المرحوم باقر خريبط. وبعدها توجه الى العراق. وتظهر هذه القصة ان علاقة الناس مع بعضهم ، كانت ألين من علاقة الحكومة معهم ، أو لعل مدير المباحث لم يكن مقتنعا بالتهم التي كانت توجه يومها لمثقفي البلد ونخبتها ، وهي في العموم لا تخرج عن الاتهام بالشيوعية.
وفي تلك الفترة سمعت باسم السيد علي غنام ، وهو مناضل من مدينة الجبيل التي تبعد عن القطيف نحو 50 كم. فهمت انه عضو في القيادة القومية لحزب البعث ، وهي من ارفع الهيئات الحزبية.  وقد قابلت غنام للمرة الاولى في 2008 كما أظن ، في حفل عشاء أقامه على شرفه الصديق د. حسن البريكي. كان غنام قد عاد الى البلد بعد سقوط النظام البعثي في 2003 واستقر في مدينته الجبيل. ولاحظت ان حالته الصحية لم تكن مواتية ، ثم علمت لاحقا انه يميل الى اعتزال اي نشاط عام.
 عبد الله الخنيزي كان شخصية معروفة قبل قدومه. فعائلته مشهورة بالعلم والادب ، وظهر فيها العديد من الشخصيات المحترمة. والده الشيخ علي ابو الحسن الخنيزي كان فقيها مرموقا ذا ميول اصلاحية (ت 1363 هج)، واظنه كان من تلاميذ الآخوند الخراساني[22] ، واخوه الشيخ عبد الحميد كان قاضيا للقطيف. واشتهر الخنيزي خصوصا حين اعتقل في اوائل الستينات الميلادية ، بعد نشره كتابا بعنوان "ابو طالب مؤمن قريش"[23]. وكاد ان يعدم بحكم مفتي الديار السعودية ، الشيخ محمد بن ابراهيم ال الشيخ ، الذي قال ان الكتاب يحوي مخالفات جسيمة للعقيدة الصحيحة. والمشهور ان نجاته من القتل كانت ثمرة لتدخل من جانب المرجع الاعلى يومئذ السيد محسن الحكيم ، الذي ناشد شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي بذل مساعيه الحميدة لدى السلطات السعودية.
عاد الخنيزي الى القطيف في اواخر 1980 ، حيث نجح في تحسين علاقته مع الحكومة. وعين قاضيا للقطيف بعد وفاة اخيه الشيخ عبد الحميد في ابريل 2001 حتى 2005.
حين جاء الخنيزي الى النجف تلقاه وجوه المجتمع الديني باحترام. وفيما بعد اصبح من الشخصيات الدائمة الحضور في مجلس المرجع السيد ابو القاسم الخوئي. وقد اعتدت زيارته بعد ظهر كل يوم لدراسة المقدمات. ولفت نظري اعتداده الشديد بنفسه وحدة طبعه. كما لفت نظري شدة اهتمامه بالادب والبيان ، وتاثره بكتابات جبران خليل جبران وطريقته في التعبير. واذكر له جودة تدريسه وحسن شرحه لفكرة الدرس. وقد استفدت كثيرا من علاقتي بالشيخ الخنيزي في جوانب مختلفة ، وتعلمت منه الاهتمام بحسن التعبير عن الفكرة وجمال الاسلوب.
اما السيد حسن العوامي فهو – على الارجح – ابرز وجهاء القطيف في الربع الاخير من القرن العشرين. وقد حظي بمكانة اجتماعية رفيعة وكلمة مؤثرة ، ترجع في ظني الى ثقافته الواسعة وسعة صدره وتعامله اللين مع مختلف الاطراف والاطياف. وكان مجلسه مجمعا لمختلف الناس ، يلتقي فيه المثقفون والناشطون ، ولعله بين الاماكن القليلة التي نجحت في جمع المتنافسين والخصوم.
اطلعت لاحقا على مجموعة كبيرة من الرسائل التي وجهها اعيان القطيف الى الملك وكبار المسؤولين حول مطالب المجتمع ومشكلاته ، فوجدت اسم السيد حسن حاضرا فيها جميعا. وقد اخبرني ان كثيرا من هذه الرسائل كانت من انشائه. عمل السيد حسن محاميا يترافع امام المحكمة الشرعية ، واشتهر بخبرته في قضايا النزاع حول المواريث ، سيما المزارع والعقارات ، واختير عضوا في لجنة اهل الخبرة التي تكلفها المحكمة الجعفرية بتقدير قيمة الاملاك قبل تقسيمها على الورثة. ولاحظت انه يتمتع بذاكرة حادة ومعرفة تفصيلية للعائلات رجالا ونساء ، وقدرة لا تنافس على ابتكار الحلول التوافقية بين المتنازعين.
مثل كثير من الوجهاء ، درس السيد حسن اللغة العربية والعلوم الدينية على يد رجال دين مرموقين مثل المرحوم الميرزا حسين البريكي. الا انه امتاز على نظرائه بعدم انقطاعه عن القراءة والمناقشات العلمية. ولهذا كان – ربما – الوجيه الوحيد في القطيف ، الذي كان قادرا على منافسة رجال الدين المحترفين في النقاشات العلمية.
اذكر للمناسبة ان السيد حسن والشيخ عبد الله ، انضما لدرس في اصول الفقه عند السيد علي السيد ناصر السلمان ، وهو من طلبة العلم البارزين من الاحساء ، وقد عاد في 1976 واقام بمدينة الدمام. ولاحظت في السنوات الاخيرة ان علاقة الشيخ عبد الله مع استاذه السابق لم تكن طيبة. وسمعت عن احتكاكات بين الرجلين في مجالس عامة ، ولم اشهد ايا منها بنفسي.
وممن تعرفت عليهم في تلك الحقبة المرحوم سلمان بن صالح بن أحمدآل إبراهيم الصفواني. وقد زرته مع الوالد بداره في احدى ضواحي بغداد. وكان محكوما بالاقامة الجبرية ممنوعا من مغادرة داره ، حتى رفع عنه الحكم في اواخر السبعينات او بداية الثمانينات. و في يناير 1981سمح له بمغادرة العراق لحضور عزاء اخيه الحاج حسين بن صالح الذي توفي بمدينة صفوى.
سلمان الصفواني
والصفواني واحد من الشخصيات المؤثرة في تاريخ العراق الحديث. وطبقا لما نقله السيد علي العوامي عنه ، فقد ولد في صفوى ، من مدن محافظة القطيف ، في 1899 وتعلم في احد الكتاتيب ، ثم درس الابتدائية في البحرين ، ثم هاجر الى النجف فانضم الى مدرسة السيد محمد كاظم اليزدي ، وهو من الفقهاء البارزين يومئذ. وعند اندلاع ثورة العشرين (1920) شارك فيها. ثم رحل الى الكاظمية ، شمال العاصمة العراقية بغداد ، فانضم الى مدرسة الشيخ مهدي الخالصي. وكانت يومئذ ملتقى لعلية القوم من علماء وشيوخ عشائر وسياسيين وأدباء. وفي هذه الأجواء انضم الى الحركة الوطنية المعارضة لمعاهدة 1922 التي تضع العراق تحت الانتداب البريطاني ، فنفي مع الخالصي وعائلته الى الحجاز. بعد رحيل الخالصي الى ايران ، عاد الصفواني الى العراق متخفيا ، حيث أقام بين اقاربه في منطقة المشخاب الزراعية. وفي سبتمبر 1924 اصدر جريدة "اليقضة" التي تواصلت بين السماح والمنع حتى 1959 حين هاجم الشيوعيون مكاتبها ودمروها فتوقفت نهائيا. في 1936 سجن لمدة اربعة اشهر بتهمة التحريض على سلطات الانتداب ، كتب خلالها مجموعة رسائل مؤثرة الى زوجته ، جمعها فيما بعد وطبعها عام 1937 في كتاب بعنوان "محكوميتي".
كان الصفواني يوم زرته شيخا كبير السن ، لكنه حاضر الذهن ، شديد التهذيب. ولاحظت كثرة اصيصات الزهور في منزله وعددا ملفتا من الحيوانات الاليفة ، ويبدو ان رعايتها كانت أنسه الوحيد في ذلك الحبس المزمن. لم اسمع منه شكوى ولا تبرما ، بل كان بشكل عام لطيفا لبقا. وكانت تلك المرة الوحيدة التي لقيته فيها.[24]
نعود الى النجف. ففي ديسمبر 1972 او حواليه شنت السلطات العراقية حملة اعتقالات طالت عددا من طلاب العلوم الدينية السعوديين. ولم نعلم السبب على وجه التحديد ، لكن شائعات قالت انهم اتهموا بالتجسس لصالح المملكة. وجاء هذا بعد فترة وجيزة من حملة مماثلة على الطلبة الايرانيين ، اثمرت عن ابعاد المئات منهم. وعلمت لاحقا انها طالت ايضا الافا من العراقيين الذين اعتبرتهم السلطات ايرانيي الاصل.
وللمناسبة فمسالة الجنسية والاصل كانت واحدة من القضايا الغريبة في العراق. واظن انها ترجع الى عهد العقيد عبد السلام عارف ، الذي استولى على السلطة في 1963 بعدما اطاح باللواء عبد الكريم قاسم. طبقا لما سمعت. فقد اقرت الحكومة في تلك الحقبة نظاما يقضي بان على العراقيين ان يحملوا وثيقتين: الجنسية وشهادة الجنسية. شهادة الجنسية تشير الى الاساس الذي صدرت وفقه الجنسية العراقية. بالنسبة لمن كانت جنسيتهم السابقة عثمانية ، او صنفتهم الدولة كرعايا عثمانيين ، فانهم يعتبرون عربا ، اي عراقيين اصيلين ، ومن لم يحملوا الجنسية العثمانية ، فانهم يصنفون في الجملة كـ "تبعية" ويقصد بها انهم يرجعون الى اصول ايرانية.
 هذا التقسيم كان من ابرز ادوات القهر السياسي التي اتبعتها الحكومة. وهو مثال على عملية تطييف الدولة ، التي جرت خلال الفترة التي كانت الحكومة تتالف من اعضاء في حزب البعث العربي الاشتراكي. فقد جرى تهجير مئات الالاف من الاكراد والعرب باعتبارهم "تبعية". والطريف ان بين المهجرين الاف ممن يوصفون في العراق بـ "العرب" اي سكان الريف في جنوب العراق ، وهم ينحدرون من قبائل بدوية استقرت في هذه المناطق. وقد لقيت واحدا من هؤلاء في ايران حوالي العام 1977 فوجدته لازال عراقي اللسان والهوى ، غريبا في موطنه الجديد.
عودة الى اعتقال طلبة العلوم الدينية السعوديين ، فقد افرج عنهم بعد اسابيع. وسمعنا من بعضهم انهم اجبروا على توقيع اقرارات بانهم ضباط في المخابرات السعودية وانهم يحملون رتبا عسكرية.. الخ. لكن الغريب في الامر ان معظم هؤلاء بقي في النجف الاشرف لمواصلة الدراسة ، رغم توقيعه على تلك الاقرارات ، الامر الذي يشير الى عبثية ذلك الاجراء. فلو كانت السلطات مقتنعة حقا بصدقية تلك الاقرارات ، لابقتهم في السجن او على الاقل ابعدتهم من البلاد.
واذكر للمناسبة قصة جرت لصديقي الاستاذ عبد الله قريش في بغداد. كان الرجل في حافلة للنقل العام في العاصمة ، حين سأله شاب عراقي عن اسمه وبلده وعن كاميرا من طراز ياشيكا كان يحملها. فلما ذكر له انه من عائلة القريش ، سأله الشاب عما اذا كان له اقارب من العائلة المالكة السعودية. لم تثر المسالة كبير اهتمام عند الصديق ، لكنه بعد نصف ساعة توقف الباص وصعد اليه اشخاص مدنيون اخبروه انهم ينتمون لجهاز المخابرات وطلبوا منه النزول ، حيث اخذوه الى مركز امني وحققوا معه حول عائلته وقرابته مع العائلة المالكة والكاميرا التي يحملها ، وكانوا مندهشين خصوصا لان الكاميرا تحوى عدستين ، واشياء من هذا النوع ، ثم اخلوا سبيله. سمعنا امثال هذه القصة تكرارا ، وهي تكشف عن اجواء القمع والخوف التي كانت تسود العراق في تلك الحقبة.
كان جهاز المخابرات العراقية غبيا جدا وقاسيا جدا. لكنه تمدد في مفاصل الدولة العراقية حتى اصبح واياها شيئا واحدا. هذه الحكومة التي يختلط فيها العمل الاداري بالامني ، وصفها الاستاذ حسن العلوي ، الاعلامي والكاتب العراقي المعرف بـ "دولة المنظمة السرية". وهو يعتقد – كما في كتابه الذي يحمل هذا الاسم ان "الدولة" بمعناها المتعارف في العالم ، قد تلاشت في ظل حزب البعث ، وحل محلها نظام هو اشبه بمنظمة سرية. تدار مركزيا ، وتعمل على  طريقة العصابات المنظمة ، لكنها تسيطر على دولة وتستعمل اموال امة وتدير بلدا بكامله.
عرفت الكثير من ضحايا هذه المنظمة السرية. وبينهم السيد حسن القبانجي ، وهو فقيه وخطيب مفوه ، زرته مرات كثيرة ، وكان يسكن دارا صغيرة انيقة تطل على مشهد الامام من مرتفع في الحي المعروف بمحلة العمارة ، ويتوسط الدار شجرة برتقال مثمرة. وكان السيد حسن قد جاء الى بلدنا مرات كثيرة للخطابة والوعظ. وكان يقيم عادة في بيتنا ، وقد نعمت بخدمته ورفقته واحاديثه الظريفة. في منتصف السبعينات اعتقلت السلطات نجله الاكبر عز الدين وقتل في السجن بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة ، ثم اعتقل السيد حسن نفسه في اوائل التسعينات ، وعلم لاحقا انه قتل في السجن مع طائفة كبيرة من اهل العلم والناشطين.
ولا انسى ان والدي المرحوم قد ذهب ضحية لهذه المنظمة السرية القاسية. هاجر الوالد الى النجف في منتصف الثمانينات ، حيث اشترى بيتا واقام عملا تجاريا مع اشخاص من اهل المدينة. وحين اعتقل ، سمعنا ان بعض شركائه التجاريين ، او ربما اشخاصا اخرين قد وشوا به ، ولعلهم استغلوا علاقته السابقة مع الشهيد محمد باقر الصدر. وبقي حبيسا دون محاكمة حتى اندلاع حرب الخليج الاولى في 1991 ، حين اطلق سراحه مع طائفة كبيرة من السجناء العرب ، وابعد الى سوريا. كان رحمه الله في غاية الضعف ، مريضا ، عاجزا عن التركيز حين وصل الى دمشق ، وقد بكى كثير من معارفه حين رأوه على تلك الحال البئيس.

حلاق المؤمنين

استذكر احيانا "حلاق المؤمنين" الذي كنت امر به يوميا في طريقي الى المدرسة. وكان الحلاق المفضل للمشايخ. ويقع على الزاوية الجنوبية الغربية من الطريق المحيط بالمشهد ، قريبا من مدخل حي العمارة. واشتهر بانه لا يحلق لحية ولا يستقبل حليقي اللحى. وفي تلك الايام كان العرف الجاري بين المشايخ ومن حولهم ، يعتبر حليق اللحية فاسقا. والفسق وصف يطلق في العرف الخاص كمقابل للايمان. وكان مما درسته ايام الصبا ان "كاشف الرأس" قد يلحق بالفاسق ، فلا يؤم الجماعة ولا تقبل شهادته ، ومثله من يأكل في الطريق ، لانه يعتبر ناقص المروءة. وسمعت قبل مدة ان بعض القضاة في بلدنا لا يقبل شهادة او تزكية ممن لا يغطي رأسه.
هذه بالتأكيد مسائل فرعية وصغيرة جدا. لكنها – وكثير من امثالها – تحولت عند بعض الناس ، في بعض الاوقات على الاقل ، الى صراط مستقيم ، او ربما حدا فاصلا بين الكفر والايمان. وحين يمر الزمن ويستذكر الناس المعارك التي اثارتها هذه المسائل ، يأسفون على الوقت الذي انفقوه فيها ، والعداوات التي اكتسبوها من ورائها ، ثم يسخرون من انفسهم او يسخرون من زمنهم.
بعد سنوات نستذكر – على سبيل التلطف – عدد المحرمات التي اصبحت حلالا ، مثلما نستذكر اليوم فتاوى تحريم ركوب الدراجة واكل الروبيان والعمل في البنوك والجمارك وجوال الكاميرا وتحية العلم وكثير من امثالها.
التوسع في التحريم ظاهرة معروفة في المجتمعات التقليدية. فهو احد السمات الرئيسية لثقافتها التي تتسم بميل حمائي ، يتمظهر غالبا على شكل مبالغة في اصطناع خطوط دفاع عما يعتبرونه جوهريا او ضروريا. وهذا هو السبب الذي يحملهم على الباس التقاليد ثيابا دينية او التعامل معها كأخلاقيات مرتبطة بالدين.
بعبارة اخرى فلسنا ازاء سلوك ديني ، بل ميول اجتماعية تلبس رداء الدين. ومن هنا فليس معيبا ان يقف فقيه ليقول انه قد تراجع عن رأي او فتوى سابقة له ، لان علمه اتسع ، او لأن الفهم العام والعرف الاجتماعي تغير. كما انه ليس مطالبا بالاعتذار لمن اخذوا برأيه السابق ، فقد فعلوه باختيارهم ، وكانوا – مثل ما هم اليوم – عقلاء ومسؤولين عن خياراتهم الخاصة.
ليست هذه مشكلة على اي حال. المشكلة هي قسر الناس على رأي او فتوى ، نعلم – اجمالا – انها قابلة للتغيير. هذا القسر قد يكون مخصصا حين تتبناه جهة حكومية مثل الوزارات او هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يكون عاما حين يوصف معارضو ذلك الرأي بانهم فسقة او ملحدون او معادون للدين ، وامثال تلك الاوصاف الفارغة.

الكويت

في 1974 او ربما 1975 هجرت النجف عائدا الى حياتي القديمة . لكن اقداري قادتني الى الكويت فاعادتني الى ذات السلك الذي زهدت فيه. في طريقنا الذي يمر بالكويت ، ذهبت مع الوالد لزيارة صديقه القديم اية الله الشيرازي. وحين دخلنا المجلس نهض الحضور احتراما واجلسني "السيد" بجانبه وتلطف في الحديث معي ، الى درجة عجزت معها عن التفكير فيما يجري. في حقيقة الامر لم يسبق لروحاني كبير ان عاملني بهذا القدر من اللطف ودماثة الخلق . وقد وجدت نفسي وانا اصغر القوم محل احترام لا يقل عن باقي الحضور. طيلة السنوات التالية اكتشفت في الشيرازي مربيا ومعلما ومصدر الهام. كان السيد محمد الشيرازي نموذجا مختلفا تماما عن الروحانيين الذين عرفتهم في النجف ، في لطفه وتواضعه وثقافته واهتمامه بعامة الناس ، وتركيزه الشديد على أولوياته .
في مدرسة الشيرازي تعرفت عن قرب على رفيق الدرب الاتي الشيخ حسن الصفار ، واظنه قد اقنعني بعدم الرحيل. وهكذا وجدت نفسي راغبا في مواصلة الدراسة هنا بعدما قررت هجرانها. اختلف الحال هنا عما كان عليه في النجف. في المدينة المقدسة كان الولد الصغير متروكا لشأنه ، يدرس ما يريد ويقرأ ما يريد ويعيش كما يريد. لكنه هنا ملزم بمنهج محدد في ساعات محددة ، كما كان عليه ان يلتزم بسلسلة من القراءات والجلسات التربوية والنشاطات الدعوية خارج المدرسة. اكتشفت بعد عام او نحوه ان الحياة في هذه المدرسة تسير وفق تقدير محسوب ، وان هدف الدرسة هنا لا يقتصر على اعداد امام جماعة او خطيب منبر ، او استاذ شريعة او فقيها يفتي الناس ، كما كان الامر في النجف الاشرف. تعلمت للمرة الاولى الجواب على اسئلة مثل "من انا" و "ماهو العالم الذي يحيط بي" و"اين موقعي من هذا العالم" ، بعبارة اخرى بدأت تتشكل في ذهني صورة اولية عما سيكون لاحقا هويتي كانسان ، كمثقف ،  كناشط في المجال السياسي ، وكاصلاحي في المجال الديني.
هنا ايضا تعرفت للمرة الاولى على التشيع الاخر المختلف عما عرفته في بلدنا في العراق. قرات عن الحركة الاسلامية الايرانية التي تعارض حكومة الشاه . قرأت لعلي شريعتي ، مجاهدين خلق ، مهدي بازركان ، واية الله الخميني . وتعرفت على اسلام يختلف جوهريا عن الاسلام التقليدي الذي اعتدت عليه ، بعدما قرأت حسن البنا وسيد قطب وزينب الغزالي وسعيد حوا وفتحي يكن. وفهمت لماذا تختلف هذه المدرسة عن التيار السائد في التشيع من خلال كتابات اية الله الشيرازي ، محمد تقي المدرسي ، هادي المدرسي ، رسول اللاري ، صاحب الصادق .. الخ. تعرفت لاحقا على عوالم اخرى من خلال رسائل جواهر لال نهرو الى ابنته "لمحات من تاريخ العالم" ومذكرات غيفارا وتشرشل وهتلر .. الخ.
كنت في النجف اتلقى العلم واقرأ واستمع ، ولم يسألني احد يوما ان كنت افهم شيئا . اما هنا فالطالب جزء من عمل قائم ، فهو مطالب بالمشاركة في توجيه الاخرين ، بالحديث معهم وتشجيعهم على القراءة واقناعهم بالمشاركة في نشاطات دينية وثقافية. وجدت نفسي اذن منجذبا دون وعي الى تيار حركي محور اهتمامه هو اعادة صوغ الثقافة الدينية ، واعداد كادر قادر على ايصال رسالة الحركة الى الناس.

الحركة

رغم شغفي القديم بالصحافة ومتابعتي لاحداث العالم ، الا ان السياسة التي تعلمتها في اطار "حركة الرساليين الطلائع" كانت شيئا مختلفا تماما. معرفة العهد القديم كانت معلومات تتراكم في الذهن . اما المعرفة الجديدة فهي سعي وراء تفسير ما يجري. انت هنا لا تكتفي بمعرفة ما حدث ، بل تسعى لفهم خلفياته وتداعياته المحتملة . والاهم من كل ذلك موقعك منه وموقفك ازاءه. بعبارة اخرى فانت لا تتفرج على ما يجري في العالم بل تضع نفسك فيه ، تصبح جزء منه .
الكتاب الاول من برنامج الحركة التربوي "رسالة الانبياء" يعيد قراءة تاريخ الرسالات السماوية مستخلصا رؤية لتاريخ البشرية . تدور هذه الرؤية حول ثلاثة محاور اولها : حتمية الصراع ، فالرسالات تثير صراعات وهي لا تتقدم الا عبر الصراع . الثاني : تحديد جبهات الصراع . في كل الاحوال كانت الطبقات الدنيا وصغار القوم هم انصار الرسل ، وكان الكبار اعداءهم . والثالث : دور الفرد . بدأت جميع الرسالات بافراد تمردوا على واقعهم وانفصلوا عن نظام المصالح القائم في مجتمعاتهم وحملوا الرسالة وكافحوا من اجلها فصنعوا التاريخ . البشرية – في هذا الكتاب – امة واحدة ، وتاريخها سجل للصراع بين المستضعفين والمستكبرين . الوحي السماوي هو برنامج الضعفاء لاستعادة التوازن المفقود ، ولترسيخ العدالة واطلاق حركة التقدم . الرسالة النهائية للكتاب هي دعوة للفرد كي يحدد موقعه في جبهة المستكبرين او المستضعفين ، ويحدد دوره متفرجا او شريكا او فاعلا. في نهاية المطاف يجد الفرد نفسه متصلا بكل ما يجري في العالم من صراعات . من يقبل الدعوة فسيكون في صف المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل ، مع الفيتناميين ضد امريكا ، و الارتيريين ضد اثيوبيا ، مع المؤتمر الوطني الافريقي ضد العنصريين في جنوب افريقيا ، ومع الحركة الاسلامية في ايران وتركيا ومصر الخ ..
يقدم الجزء الثاني من البرنامج التربوي للحركة صورة مختلفة لعلاقة الشيعة بالسياسة . فيما مضى كان التشيع حركة هروب من الواقع . التركيز على العمل العلمي والجدل الفلسفي ، المبالغة في تعظيم شأن الفقه والتشديد على الالتزام الدقيق بفتاوى الفقيه ، تخفي انسحابا من مواجهة الواقع . الانسان الصالح في الفهم التقليدي هو الانسان الملتزم حرفيا بتفاصيل المعتقدات وما حولها من جدل . كان الدين ملخصا في نوعين من الكتب : كتب الجدل مثل "الغدير" و"المراجعات" و"النص والاجتهاد" واسلافها ، والرسالة العملية التي تضم فتاوى الفقيه المرجع في قضايا العبادات والمعاملات.  سؤال السياسة مسكوت عنه وسؤال المجتمع مؤجل . تجد الناس يعظمون ثورة الامام الحسين لانها احيت الدين ، لكنهم يفضلون موقف ابنه زين العابدين الذي اختار اعتزال السياسة والصراع .
 اذا بحثت عن جواب علمي لهذا الموقف المزدوج فسوف تسمع العشرات من الروايات عن عبث الدخول في السياسة وحرمة التمرد على السلطان قبل قيام المهدي الغائب. السياسة - في التصور الديني التقليدي – محصورة في احتمالين : حكم شرعي مستحيل الا عند عودة الامام الغائب ، وحكم ظالم هو الواقع السائد في كل مكان . الشيعي - في هذا التصور– كائن سلبي ، لا يصارع الظالم لان الفشل محتوم ، ولا يسعى للاصلاح في دولة الغاصب لان الدخول فيها عون على الظلم وترسيخ للغصب .
يتتبع هذا الجزء حركات المعارضة الشيعية منذ عاشوراء حتى اوائل القرن العشرين ، كي يستنتج ان التشيع ليس مذهب الهروب من الواقع ، وان الشيعة لم يكونوا مجتمعا سلبيا يتفرج على حركة التاريخ .  قام التشيع كتعبير عن الاعتراض على الواقع السلبي ، واستمر معارضا له ، وحقق نجاحات في احيان كثيرة . يعرض الكتاب فكرة انتظار الامام الغائب بصورة مختلفة ، فهو يركز على مفهوم "التمهيد" لخروج القائم ، كجوهر لفكرة الانتظار. انتظار الفرج ليس قعودا سلبيا ، فالامام لن يعود الا في ظرف مناسب . اعداد الظرف المناسب يعني تحديدا اقامة المجتمع النشط والدولة العادلة التي تجسد رسالة الامام . يتجاوز الكتاب الروايات المنتشرة في كتب الحديث الشيعية ، ويركز في استدلاله على سيرة الشيعة المناضلين خلال التاريخ . انه بعبارة اخرى دعوة لتحديد نوعية التشيع الذي تريد الايمان به : تشيع الانتظار السلبي ام تشيع التمهيد والاعداد . انت هنا امام خيار سيحدد حياتك القادمة : في صف قراء الحديث القاعدين ، او في صف المكافحين من اجل العدالة.

تاثير شريعتي

في بداياتها ، تأثرت حركة الرساليين الطلائع بالمنهج الفكري الذي طوره المرحوم علي شريعتي. درس شريعتي علوم الدين في خراسان ، ثم درس الاجتماع والتاريخ في فرنسا خلال النصف الاول من ستينات القرن العشرين. وفيها تاثر بفلسفة التمرد التي حملها يومئذ مفكرون مثل فرانز فانون. بدلا من الاهتمام بالتصوير الفقهي للدين ، اهتم شريعتي بفهم القرآن الكريم ، وتاثر في هذا المجال بالذات بوالده محمد تقي شريعتي وهو ايضا مفكر ومفسر للقرآن . كمت تعرف على رفاق ابيه ، وهم حركيون حاولوا في منتصف القرن العشرين اطلاق حركة تجديد ديني متوازية مع النشاط السياسي . بين اعضاء هذه المجموعة تبرز اسماء تركت تاثيرا عظيما في مسار الاسلام السياسي الايراني ، مثل اية الله كاشاني ، اية الله طالقاني ، مهدي بازركان ، ويد الله سحابي . في اول الامر عمل هؤلاء ضمن الجبهة الوطنية ، بقيادة محمد مصدق . وبعد اسقاط حكومته في 1953 وجهوا اهتمامهم الى طلبة الجامعات ، مستهدفين طرح نموذج جديد للتدين يعيد ربط القيم الدينية السامية مع الحياة اليومية ، ويفسح مجالا واسعا للناس كي يشاركوا في صياغة رؤيتهم الخاصة لدينهم وعالمهم ، خلافا للتقليد الموروث الذي يحصر التفكير في الدين والنشاط الديني في طبقة الروحانيين .٠
في 1969 اسست المجموعة "حسينية ارشاد" واتخذتها مقرا لنشاطاتها ، التي كان من ابرزها محاضرات الدكتور علي شريعتي. كانت هذه الحسينية نموذجا جديدا لمراكز التبليغ الديني ، تركز على الشباب وتقصر برامجها على المحاضرات التي تدعوا لتجديد الثقافة الاسلامية.
 اجتذبت محاضرات شريعتي الساخنة الافا من طلبة الجامعات الذين سمعوا للمرة الاولى تفسيرا لتاريخهم ورؤية لمذهبهم تناقض تماما ما اعتادوا سماعه في اماكن اخرى. قدم شريعتي الدين الاسلامي كحركة ثورية تستهدف تحرير المستضعفين ، وصور الاثرياء والساسة وكبار الروحانيين وعلية القوم كعقبات تعيق انجاز المهمات الكبرى التي يريدها الدين. في كل محاضراته كان ثمة اشارة الى ما اعتبره تحالفا ابديا بين ثلاثة اطراف "ملك ، مالك ، ملا" او "زر=الذهب ، زور = السلطة ، تزوير = التحريف". وكان يرى ان مشكلة العدالة تكمن في قدرة هذا التحالف على اقناع الجمهور البسيط بمشروعية السلطة ، وسيطرته في الوقت ذاته على معيشة الناس وعلى مصادر السلطة والقوة في البلاد.
حركة التاريخ عند شريعتي هي حلقات في صراع ابدي بين هذا التحالف وبين المصلحين وانصارهم المستضعفين. من بين ابرز ما تركه كتاب "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" الذي يقارن بين منهج ديني يكافح من اجل انصاف الضعفاء ، ومنهج يركز على الشكليات والمظاهر ، ويقدس السلطة. قدم شريعتي تفسيرا للتاريخ يقترب من التفسير الماركسي . لكنه نجح في تجاوزه من خلال التركيز على تبيئة الفكرة واعادة انتاجها ضمن شروط الواقع الثقافي الخاص. وفي هذا السياق رسم شريعتي صورة جديدة لعشرات من الشخصيات التاريخية المناضلة التي اعتبرها نماذج للمسلم الحق.
في تلك الحقبة التي عزز الماركسيون مواقعهم بين الجيل الايراني الجديد ، نجح شريعتي في استعادة عشرات الالاف الى دائرة الاسلام . لكن طروحاته الناقدة جعلته العدو الاول للروحانيين الذين نسبوا اليه نفور الناس منهم . لكن الحقيقة ان سوق الروحانيين كانت – في ستينات وسبعينات القرن العشرين – قد بارت بتأثير الشعور العام بالفشل الذي ساد ايران اثر سقوط حكومة مصدق الوطنية في 1953، ولا سيما شعور الجيل الجديد بان جانبا من الفشل يرجع الى انسحاب الروحانيين من الصراع وعدم دعمهم للحركة الوطنية.
بعض الازمات تطلق حركة تجديد معاكسة ، تعيد ترتيب البيت الوطني على اسس جديدة. وبعضها يطلق حركة جلد للذات ، تعزز الشعور بان البلد كله معطل ، وان المجتمع كله فاشل ومقيت . وهذا ما حصل في ايران يومذاك. في خضم هذا الشعور القاتل ، كان فكر شريعتي المتمرد وخطبه البليغة مصدر الهام لعشرات الالاف من الشباب ، فانتشلهم من حمأة الحيرة بعدما هيمن عليهم اليأس ، او وجدوا انفسهم يبحثون بلا جدوى عن بديل يبرر القطيعة الضرورية مع النسق الديني التقليدي ، وما يسوده من ثقافة وقيم ونظام علاقات.
ترك شريعتي مئات من المحاضرات والمقالات ، وطبع من كتبه ما يتجاوز 15 مليون نسخة حتى العام 2000 . وبلغ عدد الدراسات التي اهتمت باعماله وتاثيرها في ايران نحو 150 دراسة علمية.

الصراع

محاولاتنا الاولى لنقل تجربة الحركة الى مجتمعنا كانت اقرب للتجريب منها الى العمل الفعلي. بدأ رفيق دربي الشيخ حسن الصفار احاديث مع شباب يسكنون في الجوار ، وكررت لاحقا نفس التجربة ، لكن تصورنا للعمل يومئذ كان يدور في الغالب حول النشاط العام ، رغم ان برنامج التربية الحركية موجه الى الفرد في المقام الاول. انشأنا ندوة اسبوعية اقتصر حضورها على خطباء ومثقفين وكانت قدرتنا على التاثير فيها محدودة. لحسن الحظ فقد تعرفنا مبكرا على طلبة في السنة التمهيدية لجامعة البترول والمعادن ، وكان العمل معهم فرصة ، تعلمنا خلالها كيف نصحح اولوياتنا ، ونصوغ افكارنا على نحو جذاب ومؤثر. معظم الذين تعرفنا عليهم في تلك المرحلة اصبحوا فيما بعد من صناع الحركة وقادتها ، وقد تعلمت من كل فرد فيهم بقدر ما تعلم مني وربما اكثر.
الكلام في السياسة والخروج عن خط "المرجعية" كان العقبة الاصعب في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الحركة. وجدنا اناسا كثيرين يتساءلون: اذا كان علينا ان نتدخل في السياسة ، فلماذا لا يفعل المرجع ذلك؟. المرجع المقصود هو المرحوم اية الله الخوئي الذي اتبعه معظم الناس يومذاك. برز الخوئي كزعيم للمدرسة الفقهية التقليدية وتميز عن اقرانه ببحوثه المعمقة في اصول الفقه ولا سيما الادلة العقلية. وتولى سدة المرجعية بعد وفاة السيد محسن الحكيم في 1970. وعرف بميوله المحافظة ، واصطدم بالمجموعات التي سعت الى التجديد في الدراسة او العمل الديني ، ومن بينهم الشهيد محمد باقر الصدر ، والسيد الشيرازي ، كما اتخذ موقفا متشككا من الثورة الايرانية ، وقيل انه اظهر تعاطفا مع الشاه ، لكنه لم يتخذ موقفا علنيا رغم محاولات عقيلة الشاه فرح بهلوي التي زارته في 1978 طلبا للدعم.
في تلك الحقبة ، كان اهل بلدنا ينظرون الى موقف المرجع كمعيار وحيد لما يصح وما لا يصح. وكان سكوته عندهم موقفا. وقد جرت عادة المراجع ، معظمهم على الاقل ، على اختيار السكوت حتى حين يتطلب الامر موقفا معلنا. اما التبرير الضمني للسكوت فهو الخشية من التورط في صراعات تتجاوز حدود سيطرتهم. والحقيقة ان النفور من السياسة والابتعاد عنها هو المسار المتعارف في النجف الاشرف وفي الحوزة العلمية بشكل عام.
نحن اليوم نرى في كل رجل دين مشروعا سياسيا ، لكن هذا السلوك لم يكن مألوفا قبل 1979. واذكر ان الشيخ محمد علي التسخيري، الذي كان يعمل في مكتب مرشد الثورة اية الله خامنئي ، حل ضيفا علينا في منتصف 1978 ، وراى بعض ما لدي من اوراق وكتب حول الثورة الايرانية ، فقدم نصيحة مخلصة بالابتعاد عن "هذه الامور" لان ما يجري في ايران لعبة شيوعية ، وان "السيد" – اي الخميني – بعيد عن الساحة ولا يعرف حقيقة ما يجري. زرت الشيخ التسخيري في ابريل 1980 فوجدت صالون بيته مغطى بصورة للخميني طولها متران. وقد حدثنا نحو نصف ساعة عن فضائل "الامام" الخميني ، وما جرى على يديه من خوارق.
في 1979 انكسر النسق التقليدي المعتاد في المجتمعات الشيعية ، النسق الذي ينفي الاخلاق عن السياسة ، ويرتاب في النشاط السياسي ، ويعتبر معارضة الحاكم عبثا او طغيانا. كان الدين منفصلا عن السياسة ، وكان التنكر للدنيا وتجنب الصراع عليها ، فضيلة تسجل لصاحبها. لكن الامر انقلب راسا على عقب بعد ثورة ايران ، فاصبح انخراط رجل الدين في الصراع السياسي ، تمهيدا ضروريا لنيل الزعامة وكسب قلوب الاتباع .
لم يعد الناس يسألون عن موقف المرجع ، فقد اصبحت السياسة خبزا يوميا لعامة الناس . بل اصبح المخلصون للمرجع في حرج من امره ، مضطرين للبحث عن مبررات لموقفه او لا موقفه . بالنسبة للعالم كان انتصار الثورة الايرانية زلزالا سياسيا ، اما بالنسبة للمجتمعات الشيعية فقد كان زلزالا ثقافيا وعقائديا ، حطم الى الابد اساطير ثقافية ، تجذرت في العقول والقلوب ومنظومات القيم الاجتماعية ومضى عليها مئات السنين.








[1] روى محمد صادق طباطبائي في ذكرياته ان لقاء الخوئي مع فرح ديبا استمر نحو ساعة  ونصف ، وان فرح ارادت اقناع الخوئي باصدار بيان يدعو علماء ايران لتأييد الشاه. لكن الخوئي لم يصدر بيانا كهذا. غير ان وسائل الاعلام الايرانية قالت انه دعا للشاه بالصحة وانه اهدى فرح ديبا خاتمه الشخصي. http://goo.gl/DYroR0
ويقول مصدر آخر ان زيارة فرح كانت مفاجئة ولم يكن ثمة ترتيب مسبق ، وان الخوئي كان يومها في سرير المريض ، وقد ركز في حديثه معها على ضرورة اطلاق سراح السجناء السياسيين والحد من نشاط البهائيين في ايران. لكن وسائل الاعلام الموالية للشاه حاولت استغلال الحادثة وتصويرها كتعبير عن تأييد ابرز فقهاء الشيعة للشاه. http://manmote.com/post/71714285 . انظر ايضا راديو زمانه (12 آذر 1387) http://www.zamaaneh.com/revolution/2008/12/post_148.html 
ونقل موقع بعض التفاصيل التي تدعم فكرة ان الخوئي لم يدعم الشاه في ذلك اللقاء ، وان الذي ادعى دعمه هو السيد حسين نصر مدير مكتب فرح ديبا الذي رافقها في تلك الزيارة. ، انظر صفاءالدین تبرائیان: پاسخ به شبهات تاریخی / در دیدار آیت‌الله خوئی و فرح چه گذشت؟/ واقعیت ماجرای انگشتر اهدایی به محمدرضا پهلوی (7-اغسطس-2018) https://irdc.ir/fa/news/3285/
[2] محمد جواد مغنية: تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، أنوار الهدى ، قم 1425. ص 45
[3] محمد جواد مغنية: تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، ص 71
[4] لبعض المعلومات انظر محسن المظفر: بحر النجف ، نشاته وخصائصه ، تاريخه واهميته. موقع مؤسسة النور للثقافة والاعلام (27-3-2017) http://www.alnoor.se/article.asp?id=318286
انظر ايضا سرحان الخفاجي: بحر النجف دراسة جيومورفولوجية. جامعة المثنى ، كلية التربية (2013) http://eps.mu.edu.iq/wp-content/uploads/2017/02/%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D9%812.pdf
[5] لمعلومات اكثر حول تاريخ النجف واحوالها ، راجع مكتبة الروضة الحيدرية ، http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/21/fehres.htm
[6] For details, see Yasser Tabbaa & Sabrina Mervin: Najaf, The Gate of Wisdom, UNESCO Publishing (2014), PP.72-81 http://unesdoc.unesco.org/images/0022/002283/228324e.pdf
([7]) اسماعيل ابن كثير : البداية والنهاية 21/86 ، تحقيق علي شيري ، ط1 دار احياء التراث العربي ، بيروت 1988
[8] Said Arjomand, The Shadow Of God and the Hidden Imam, (Chicago, 1984), p. 211
Also: Heinz Halm, Shi‘a Islam : From Religion to Revolution, (Princeton, 1996), p. 108 
[9] القمي ، عباس : الكنى والالقاب 1/199
  أيضا الامين ، محسن: اعيان الشيعة 1/124
  أيضا الامين ، حسن: مستدركات اعيان الشيعة 5/277
([10]) واعظ زاده الخراساني : حياة الطوسي وآثاره ، في رسائل الشيخ الطوسي 48
([11]( محمد باقر الصدر : المعالم الجديدة للاصول (بيروت 1981) ص 62
([12]) لبعض التفاصيل ، انظر علي البهادلي : الحوزة العلمية في النجف 72 ط1 ، دار الزهراء ، بيروت 1993
([13]) كانت مس بل عضوا في الطاقم السياسي البريطاني في العراق ، ولعبت دورا هاما في صناعة الدولة العراقية الحديثة ، وزارت النجف ومعظم المدن المهمة في العراق وكتبت انطباعات عنها ، لتفاصيل انظر جعفر الخياط : الكاطمية في المراجع الغربية . في الخليلي : موسوعة العتبات المقدسة ، قسم الكاظمية 280
([14] ) لبعض المعلومات حول المدارس الدينية في النجف ، انظر: محمد الخليلي : مدارس النجف القديمة والحديثة.  موقع  مكتبة الروضة الحيدرية. http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/21/book_24/main.htm
[15] Juan Cole, ‘Imami Jurisprudence and the Role of the Ulema’ in   Nikki Keddie, , Religion and Politics in Iran, Yale University Press, (New Haven 1983), p. 34
[16] حول حياة الميرزا الشيرازي وزعامته ، انظر:
 Litvak, Meir, Shi‘i Scholars of 19th Century Iraq, (Cambridge 1988), p. 84
[17] Keddie, N, “Iran, Understanding the Enigma: A Historian’s View”, Middle East Review of International Affairs Journal, V 2, No. 3, September 1998. retrieved from (www.ciaonet.org/olj/meria/meria98_keddie.html)
[18] لتفاصيل حول الجمعية ، انظر د .رحيم عبد الحسين العامري: جمعية منتدى النشر .. صفحة لامعة من تاريخ التعليم في النجف ، جريدة المدى 25 اغسطس 2013.   http://www.almadasupplements.net/news.php?action=view&id=8346
ايضا : محمد الخليلي: مدارس النجف القديمة والحديثة ، مكتبة الروضة الحيدرية (اطلعنا عليها في مايو 2015) http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/21/book_24/main.htm
[19] قتل عبد السلام عارف حين سقطت طائرة هليوكبتر استقلها مع عشرة من الوزراء والمسؤولين في المنطقة الواقعة بين القرنة والبصرة يوم 13 أبريل 1966 وخلفه اخوه عبد الرحمن عارف. ويقال ان سقوط الطائرة كان عملا مدبرا ، لكن لم تتوفر ادلة على هذه الفرضية.
[20] ماذا قال تايه عبد الكريم عن مجزرة قاعة الخلد 1979؟ ، جريدة المشرق 15 ابريل 2018 http://www.almashriqnews.com/inp/view.asp?ID=124922
[21] لتفاصيل عن هذه الحادثة واسماء رجال الدين المتورطين ، انظر صلاح الخرسان: التيارات السياسية في كردستان العراق ، مؤسسة البلاغ (بيروت 2001)، ص 196 ن. إ: https://archive.org/details/abualialkurdy_gmail_20140517_0928
أيضا  : محاولة اغتيال مصطفى البرزاني ... صور نادرة لمنفذي العملية ، الغاردينيا (14 سبتمبر 2013)
https://www.algardenia.com/tarfiya/menouats/6369-2013-09-14-19-48-58.html :   
[22] كان الاخوند الزعيم الروحي للحركة الدستورية في ايران (1905-1908) ومؤلف كتاب "كفاية الآصول" وهو من المراجع الكلاسيكية في أصول الفقه حتى اليوم. وهو معروف اجمالا بميوله الاصلاحية.
[23] طبع الكتاب للمرة الاولى في بيروت ، دار مكتبة الحياة 1961
[24] لمعلومات اضافية حول  الصفواني ، انظر علي باقر العوامي: رجـال عـاصـرتـهم ( 9): سلمان صـالح الصفواني ، مجلة الواحة (1 مارس 2011) http://www.alwahamag.com/?act=artc&id=985

نشر جزء منه في جريدة الوقت 3 يناير 2009

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...