ليس من واجبات الكاتب ان
يقول للناس ما يحبون ، والا كان حديثه اعلانا عن نفسه ، لا دعوة الى الفكرة ،
والاصل ان المهمة الكبرى للكتاب والمثقفين ، هي دعوة الناس الى تبني الافكار أو
المواقف التي يظنونها صحيحة ، ولهذا قال اهل العلم في سالف الزمان ، ان العلم حجة
على صاحبه ، كما ان الدعوة اليه وظيفة ، يقوم بها شكرا لله الذي انعم عليه بهذا
القدر من المعرفة
.
بناء على هذا ، فقد يظن
الكاتب نفسه قادرا على قول ما يشاء حين يشاء ، لكن الفرق عظيم بين الحقيقة والواقع
، فما هو صحيح قد لا يكون ممكنا ، وما هو ممكن قد لا يكون صحيحا ، وقد يجد الكاتب
نفسه مخيرا بين السكوت ، أو التحول الى رجل علاقات عامة ، يقول للناس ما يرغبون في
سماعه ، بدل اخبارهم بما ينبغي لهم معرفته ، البديل الصحيح هو التسلح بالقدر
الممكن من الشجاعة لقول ما يراه صحيحا ، ان كان الامر يستحق العناء ، أو كان
العناء قابلا للتحمل.
لو سألت الناس عن الكاتب
الذي يفضلونه ، فسيخبرك معظمهم ـ إذا لم نقل جميعهم ـ بانهم يريدون كاتبا يتحدث
بصراحة وتجرد ، ولعلهم يغتنمون الفرصة لذم كتاب العلاقات العامة ، الذين يفصلون
المادة على مقاس الشخص الذي يتوجه اليه الخطاب ، لكن إذا تعلق الامر باشخاصهم ،
فان هؤلاء الناس انفسهم ، لا يرغبون في كاتب يقول لهم ما لا يعجبهم ، أي ما لا
يتفق مع رأيهم الحاضر أو مصلحتهم الراهنة أو ميولهم .
ويبدو لي ان هذا هو الامر
الطبيعي ، فكل انسان يريد من الآخرين ان يكونوا موضوعيين ومنصفين ، شرط ان لا تؤدي
تلك الموضوعية وهذا الانصاف ، الى الاضرار به أو ايذاء مشاعره ، وعلى أي حال فلكل
انسان الحق في ان يحمي مصالحه وما يراه من حقوقه ، وله الحق في ان يدافع عن آرائه
، بعض النظر عن مواقف الاخرين ومصالحهم ، فاولئك ايضا لن يقفوا مكتوفي اليدين إذا
اقتربت النار من خبزهم .
اقول ان هذه ممارسات مقبولة
، ينبغي تفهم ما يترتب عليها ، ولو كان غير مريح ، لكن من ناحية ثانية فان الافراط
في التمسك بالاراء والمواقف ، ولا سيما الضجر من آراء الاخرين المخالفة ، يجعل
الانسان معزولا عن محيطه الثقافي ، ويحرمه من ثمرات التفاعل مع اراء الغير وحاصل
عقولهم ، وخير للانسان ان يتحمل اذية الخلاف البسيطة من ان يبقى اسيرا للجهل .
ويكره الناس ان يوصفوا
بالجمود والانغلاق والعاطفية ، ويحبون ان يوصفوا بالمرونة والانفتاح والعقلانية ،
لكن الى أي حد يا ترى يستطيعون تلبية المتطلبات النفسية والسلوكية ، التي تؤهلهم
للاتصاف بتلك الاوصاف المرغوبة ؟ .
الجمود يعني التمسك بالاراء
والافكار المعتادة ، ومقاومة أي محاولة لتغييرها او تعديلها ، والانغلاق هو اقامة
جدار بين الذات والاخرين ، يمنع وصول اراءهم وتاثيرهم ، هذا الجدار عبارة عن
تصنيفات مسبقة لكل شخص ، تجعل افكاره موصومة ومعيبة ، قبل ان يكلف المتلقي نفسه
عناء البحث فيها او تحليلها ، اما العاطفية فهي بناء الاراء والمواقف على اساس قرب
الموضوع من الذات وبعده عنها ، لا على اساس مقومات الموضوع ، والقواعد العقلانية
والمفاهيمية ، التي يسميها اهل العلم (بناء العقلاء) والتي يشترك في الايمان بها
كل ذوي العقول .
وعلى العكس من هذا فان
الانفتاح والمرونة والعقلانية ، هي الاستماع الى الاراء المختلفة ، بغض النظر عن
الموقف النهائي منها ، ثم الاخذ بعين الاعتبار احتمال ان تكون صحيحة حتى لو خالفت
ما هو مقبول سلفا لدى الشخص المعني ، فالانسان المنفتح يقبل بالاستماع الى الاراء
المختلفة بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ويعلم ايضا ان الزمن فعال سلبا
وايجابا في المعلومات والافكار ، معلوماته ومعلومات الاخرين ، افكاره وافكار
الاخرين .
لكي تنطبق صفة الموضوعية
والانفتاح والمرونة على شخص ، فانه مطالب باحتمال مخالفة الغير لارائه ، ومطالب
باحتمال التخلي عن بعض هذه الاراء ، أي التخلص من الاعجاب بالذات ، الذي يضفي على
المتبنيات الذاتية نوعا من العصمة والمصونية من التغيير والتعديل ، فالعاقل لا
يرفض فكرة دون تمحيصها ، ولا يرفض فكرة لأنه يبغض صاحبها ، ولا يشكك في فكرة لانها
دارت حول موضوع ثقيل على نفسه ، او ارتبطت شواهدها بمواقف تباين ما يميل اليه ،
وقد ورد في الاثر عن نبي الله عيسى عليه السلام ان الحكمة كالجوهرة تؤخذ ولو كانت
في فم الكلب .
كما تحترم افكارك فان
الاخرين يحترمون افكارهم ، ومثلما تتوقع من الغير ان يقبل بارائك فان اولئك
يتوقعون منك موقفا مماثلا ، ولو ان كل الناس اختاروا التمسك بآرائهم ، وطرح ما
يقوله الاخرون ، لما قام للعلم بنيان ، ولما تطورت معارف البشرية ، ينبغي للعاقل
ان يعامل الناس بمثل ما يحب من المعاملة ، فاذا ارادهم ان يقبلوا بما عنده ، فلا
بد له ان يقبل بعض ما عندهم ، والا كان من المطففين الذين توعدهم القرآن بالويل ،
لانهم (اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) .
الموضوعية والعقلانية هي ان
تقول الحق ولو كان مرا ، وتقوله ولو كان خلاف ما ترغب ، وتقوله ولو انتهى الى قناة
من لا تحب ، فالحق مجرد في ذاته ، لا يتكيف بحسب الميول والرغبات ، والموضوعية
تقتضي النظر في أبعاد الموضوع ذاته ، دون قياس للمسافة التي تفصله عن المتبنيات
الشخصية .
يستطيع الكاتب ان يقول للناس
ما يحبون ، لكنه لن يكون صادقا معهم ولا امينا ، ويستطيع ان يتحول الى كاتب عرائض
يكيل الأوصاف بحسب المناسبة ، لكنه لن يكون صادقا مع نفسه .
الى جانب هذا فهو يستطيع
احيانا قول ما يؤمن به ، والتعبير عما يعجز الاخرون عن التعبير عنه ، بعض الحقيقة
ليست زيفا ، فهي القدر المستطاع ، فان قدر على الحقيقة كلها ، وجب عليه اظهارها ،
وان عجز عنها كلها ، فخير له ان يعتصم بالصمت كي يريح ويستريح ، فليس اسوأ من قتل
الحقيقة غير تزييفها
.
نحن بحاجة الى توسيع مساحة
التعبير ، بحاجة الى فضاء يخلو من العقبات التي تجعل الكاتب عاجزا ، نحن بحاجة الى
ان نحتمل بعضنا ، وان نسمع اراء بعضنا ولو خالفت اراءنا او اضرت بمشاعرنا ، ذلك هو
السبيل الوحيد الذي اذا سلكه الناس ارتقت معارفهم واصبح للعلم شأن ومكان .
عكاظ 27 اغسطس 1998
مقالات ذات علاقة
-------------------