في كل مجتمع تلعب التقاليد دورالناظم
للعلاقات بين افراده ، كما تحمي القيم والثوابت الاخلاقية الضرورية لسيرورة لينة
للحياة الاجتماعية .
التقاليد ليست تشريعات دينية او
قوانين رسمية ، بل هي اقرب الى الاتفاقات الجمعية غير الصريحة ، على الرغم من ان
تاثيرها العملي في غاية الوضوح والصراحة ، ومتى ما اصبحت محمية بقوة القانون او
بضوابط الشريعة ، فانها تخرج من صفتها
الاولى كتقاليد تتمتع بديناميكية استمرار وتاثير ذاتية .
ومع انها كذلك فان لها من القوة
والفاعلية ، مايجعلها قادرة على الحلول محل القانون المحمي بوسائل الضبط
المادية ، ذلك انها تتحول مع الزمن الى
جزء من النسيج الثقافي للمجتمع ، يتلقاها الانسان منذ نعومة اظفاره ، من خلال
التلقين احيانا ، وبمحاكاة الاكبر منه سنا في اغلب الاحيان ، بحيث يضحي الالتزام
بمضمونها ارادة واختيارا للفرد ، بغض النظر عن وجود قوة ضغط خارجية توجب عليه الامتناع
عن تحديها .
ولاتلعب التقاليد هذا الدور البارز في
كل التجمعات الانسانية ، فاتساع المجال الحيوي لفاعليتها ، وقوة تاثيرها ، انما
يرجع لوجود استمرارية لنمط محدد في الحياة الاجتماعية ، تتحقق من خلال استمرارية
موازية لعلاقات القرابة العائلية او التجاور الجغرافي ، بين اعضاء جماعة بشرية معينة ، ولمدة طويلة
زمنيا ، يتأسس بموجبها مانطلق عليه اسم المجتمع ،
أو المجتمع التاريخي كما أسماه الاستاذ مالك بن نبي ، وهو العنوان
الاصطلاحي للجماعة التي ينتظم جميع افرادها في نسق ثقافي وقيمي واحد ، وهذا مالا يصدق على المجتمعات الحديثة التشكل
والتي ماتزال العلاقة بين افرادها سطحية او محدودة بالقرابة والجيرة ، كما انه
لايصدق على المجتمعات التي تعرضت للتفتت بسبب الهجرة ـ على سبيل المثال ـ حيث لم
تعد قادرة على صيانة تقاليدها في المهجر ، على الرغم من ميل كبارها ـ خاصة ـ للحفاظ
على المستطاع منها ولو بصورته الشكلية .
التقاليد كحاجة نفسية :
ان المجتمع التاريخي هو الظرف الطبيعي لتبلور
التقاليد ، لكونه الاطار الذي يوفر فرصة للحياة المشتركة ، بل يوجبها في اكثر
الاحيان ، بما ينطوي عليه معنى الشراكة من استثمار مشترك للطاقات ، ومواجهة مشتركة
للهموم والتحديات .
من ناحية أخرى فان قيام نظام مقبول
للسلوك في المجتمع التاريخي ، ليس وليد اتفاق صريح بين افراده ، بل هو تشكل عفوي
لمنظومة قيمية متناسبة مع بعضها ، تمثل في مجموعها الوسيلة المختارة لتلبية حاجات
المجتمع او طموحاته ، او مجابهة التحديات التي يتعرض لها خلال تاريخه .
ويلعب الزمن دورا فاعلا في انضاج هذا
النظام ، من خلال مايوفره التقارب بين الاسر والافراد لفترة طويلة ، ضمن النطاق
الجغرافي للقرية اوالمدينة الصغيرة ، والتي تتوج بالتداخل القرابي بين العائلات ـ
عن طريق الزواج خاصة ـ بحيث يصبح كل فرد في هذا النطاق الاجتماعي (نسيبا) للاخر.
هذا التداخل ومايترافق معه من تركيز
للتقاليد ، يعتبر بالنسبة لمعظم الناس وعاء للقيم الاجتماعية ، لاينبغي التفريط
فيه لاي سبب ، فوجوده يوفر على الفرد جهدا كبيرا ، يجب عليه بذله لكي يعيش الحياة
، التي يشعر فيها بالامان النفسي والاستقرار العاطفي ، كما يوفر عليه مجهودا
مماثلا في تربية الابناء الذين يود ان يراهم ـ كما هو طموح معظم الاباء ـ يترسمون
الفضائل الاخلاقية التي تعارف عليها المجتمع .
وهذا هو تفسير النزوع الشديد عند معظم
الناس ، للعيش ضمن اطارهم الاجتماعي القديم ، في المنطقة الشرقية من المملكة ـ على
سبيل المثال ـ نجد ان اسعار الاراضي السكنية في القرى ، مرتفعة الى درجة تستعصي
على التبرير الاقتصادي ، في الوقت الذي يسع الناس الخروج الى المدن القريبة ،
الافضل من حيث سهولة الحياة وتوفر الخدمات العامة ، او تاسيس قرى جديدة في الصحراء
المحيطة ، بتكاليف تقل كثيرا عن تكاليف امتلاك بيت في القرية ، ان السبب الحقيقي
وراء ارتفاع الطلب على السكن داخل القرية ، والاعراض الكلي عن السكنى خارجها ،
يرجع الى ماتتميز به القرية ، من درجة عالية من التواصل الحياتي بين الفرد ومحيطه
، يساعد على ضمان الامان النفسي والعاطفي
الذي يحتاجه ، هذا التواصل هو في العمق مجموعة العناصر الثقافية والسلوكية التي
تمثل التقاليد ابرز تجسيداتها .
تيـار الحيـاة :
على ان التقاليد ـ مثل كل عناصر الثقافة
الاجتماعية الاخرى ـ كائنات حية متطورة ، تتحرك صعودا او نزولا بموازاة حركة الحياة في المجتمع الذي يتبناها ، ولاتوجد
تقاليد ثابتة او غير قابلة للتعديل ، بكلمة أخرى فانها كائنات غير مستقلة ، بل هي
بصورة او بأخرى تابعة لحاجات الحياة ، فاذا تغيرت هذه الحاجات او تلاشت او استبدلت
بغيرها ، فمن الطبيعي ان تتبعها في التغير مجموعة التقاليد التي تأسست من أجل
تنظيمها ، من امثلة هذا التغير في واقعنا المعاصر ما يتعلق بعمل المرأة ، ففي
الازمنة السابقة لظهور البترول ، كانت المرأة تعمل في معظم الانشطة الاقتصادية في
الريف والبادية ، في الجزء الاساسي منها كما في الزراعة والرعي مثلا ، او في
النشاطات المساندة كما في الصيد والغوص والبناء وغيرها ، ولم تكن مشاركتها في
العمل موجبا للعيب ولم تكن بحاجة الى التبرير ، بينما نجد ان المعادلة قد انعكست
بعد اكتشاف البترول ، وتغير اساليب المعيشة وانواع الحاجات ، فاصبح معظم الناس يرى
في عمل المرأة سببا للعيب ، او على الاقل مـمارسة اجتماعية غير اعتيادية تحتاج
دائما للتبرير ، ان معظم الشباب ـ كما
يظهر من دراسة لاحد الاساتذة ـ لايرحب برؤية زوجته في ميدان العمل ، الا
اذا ضمن توفر شروط محددة ، هي في حقيقـتها وسائل لتبرير الموازنة القسرية بين عدم
الرغبة وصعوبة الامتناع .
ينعكس التباين بين تطور الحياة والتقاليد التابعة ، على شكل شعور بالاغتراب
عند الفئات الاجتماعية الاكثر انشدادا للماضي ، ولاسيما بين كبار السن ، الذين
يصعب عليهم تكييف فهمهم للحياة يما يتلاءم مع التطور السريع لانماط الحياة وسبل
المعيشة ووسائل التواصل الثقافي ، وما تفرزه من سلوكيات جديدة .
ولايسع المجتمع ان ينقطع عن تواصله مع
العصر الذي يعيش ، كما انه ليس بالامكان التخلي عن مكاسب التطور الحياتي ، ومع
وجود هذه الضرورة فان المنطق يقضي بتعديل التقاليد التابعة للانماط القديمة التي
لم تعد مرغوبة ، او اصطناع تقاليد جديدة اكثر انسجاما مع ايقاع الحياة ، وهي قادرة
في الوقت ذاته ، على ضمان الحد المقبول من السلوكيات والفضائل الاخلاقية ، التي
لاغنى عنها لانتظام الحياة وضمان الاطمئنان .
نشر في جريدة اليوم 3-10-1994
مقالات ذات علاقة
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
مقالات ذات علاقة
كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق