ماهو
حدث سياسي اليوم سيصبح بعد ايام تاريخا ، ومانسميه اليوم تاريخا ، كان في زمنه
وضمن ظروف تكونه ، حدثا سياسيا ، وطلب الى فيلسوف معاصر ان يعرف مهنة الصحافة
فاكتفى بالقول ان ( الصحافي هو مؤرخ اللحظة ) وقد اصبحت هذه المقولة تعريفا للعلاقة بين كاتب السياسة وكاتب التاريخ
.
والتاريخ
يفعل فعله في الاحداث كما يفعل في الاشخاص ، فهو يجردها من ظروفها ، ومن التفاصيل
الصغيرة التي تحيط بها ، فيبقى على ما هو علم بارز منها ،كما الانسان اذ يجرده من
تفاصيل حياته ، ويبقي منه اسمه وابرز ماكان في حياته ، فترى نصف قرن من حياة شخص ،
ملخصة في صفحة او بضع صفحات ، بينما تسع حياته لو اردنا جرد تفاصيلها ، الاف
الصفحات .
الرواية
والتحليل
ومعظم
الناس لايحبون التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، في حياة الاشخاص كما في الاحداث ، الا
بقدر ماتحتويه من اثارة للمشاعر الانسانية ، اي بمقدار ماتوجد هذه التفاصيل من
علاقة عاطفية بين المتفرج ورجل الحدث ، أو بينه وبين المشاركين فيه ، ولو ان صحيفة
كتبت عن حادثة حريق مثلا ، فوضعت الخبر التفصيلي عن مجرياته في جهة وعرضت تحليلا
وشهادات فنية او هندسية في الجهة الاخرى ، فالمؤكد ان اكثر القراء سيكتفون بالخبر
ويتركون التحليل .
ويرجع
ذلك في ظني الى اعراض عفوي ، عن التعامل التحليلي مع الصورة الكاملة للحدث ، وقد
ورد في الاثر (اعقل الخبر عقل رعاية لاعقل رواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل)
. لهذا لايرغب الا القليل من الناس ، في
مشاهدة البرامج الوثائقية التي يعرضها التلفزيون ، بينما ـ على العكس من ذلك ـ يقبلون
على مشاهدة الاعمال الدرامية ، لاسيما تلك التي تنطوي على قدر من المبالغة او
اثارة الخيال.
لقد استطاع رجال السينما الامريكية ، ان يفرضوا
انفسهم على حياة الناس ، في شتى بقاع العالم ، حينما قدموا ابطالا مثل ( رامبو )
الذي يمثل بالنسبة للمشاهد ، تعبيرا عن الرغبة العميقة للانسان في اختراق حدود
المنطق ، مايتعلق منه بالقدرات الجسمانية والروحية للانسان الطبيعي ، او مايتعلق
بالامكانات الموضوعية لمجال العمل المحيط بالانسان .
العالم
سينما
ان
جميع الذين يشاهدون ( رامبو ) يعرفون في قرارة انفسهم ، ان المسألة تمثيل في تمثيل
، وان مايرونه هو عبارة عن سلسلة من الخدع ، التي يجيد السينمائيون حبكها وترتيبها
، لكنهم في لحظة المشاهدة ، كما في لحظة التذكر ، لايرغبون في استذكار هذه المعرفة
، ويفضلون استعراضها في اذهانهم كما لو كانت حقيقة . بل ان بعض الناس ولاسيما في سن الشباب ، يحتفظون
بصور كبيرة لابطال مفترضين مثل ( رامبو ) تعبر عن علاقة الود التي قرروا اقامتها
مع هذا البطل ، بالنظر لما تغذيه هذه العلاقة ، من قابلية للتعويض عن نزوع للبطولة
الحقيقية ، لايستطيع صاحبه ايجاد الاسباب ، التي تحوله من امل الى حقيقة ، واذ ذاك
فان الانسان يحاول الاحتفاظ به كحلم عزيز يحتل مكان الحقيقة ، فيخفف على صاحبه وجع
فقد الامل او خيبته .
ويبدو
لي اننا نقف من التاريخ (الذي كان سياسة في الماضي) ومع السياسة (التي ستصبح
تاريخا في الغد) موقف المتفرج على عرض سينمائي ، تثيرنا البطولات ، ونتفاعل ـ
عاطفيا ـ مع الاحداث التي تجري امامنا ، لكن القليل منا ، والقليل جدا فحسب ، هم
الذين يغوصون في بحر الحدث محاولين قراءة ماوراء سطوره العريضة ، واذا قيض لنا ان
نرتاح الى موقف ، او ان نعجب برجل من رجال الحدث ، فاننا لانجتهد في معرفة الظروف
والاسباب ، التي جعلت منه بطلا يستحق الاعجاب ، وربما تخيل احدنا نفسه وقد اصبح
مثل ذلك البطل ، لكن ليس الى الحد الذي نسعى معه لاكتساب صفاته وامكاناته ، انه
تخيل تولد عن اعجاب واختلط بالحلم ، ثم تشكل في صورة ، حفظت في مكان ما من اروقة
الذاكرة ، كما تستريح ملفات الارشيف ، يستدعيها الانسان ساعة اراد الاسترخاء ،
ويعيدها الى ملفها ساعة انشغل بحياته.
وراء
المشـــــهد
ماتعرضه
علينا وسائل الاعلام ـ وكتب التاريخ بالطبع ـ هو الصورة النهائية للحدث ، اي
القشرة الخارجية للصورة ، ولعل التشكيل اللوني او الضوئي للصورة ، يوحي للعين بما
ليس فيها حقيقة .
لكن وراء هذه القشرة ، ثمة عالم من الحركة
المتفاعلة ، وثمة نسيج ضخم من الخيوط ، تربط عشرات من الأجزاء المخنلفة الى بعضها
، حتى يتشكل المظهر الخارجي للحدث ، ان حدثا ما في ساعة وقوعه ، ليس الا نتيجة
لتلك الحركة وتفاعل الاجزاء . كذلك الامر بالنسبة للرجال ، فظهورهم في الصورة التي
تثير الاعجاب ليس وليد ساعته ، بل هو نتيجة مجموعة من الظروف والتفاعلات ، التي
سبقت هذا الظهور ، ثمة عدد نادر من الاشخاص صنعوا ظرفهم ، وظهروا في نهاية المسار
الذي قرروه ، وشكلوا اجزاءه بانفسهم ، ولهذا يعتبر امثال هؤلاء ، شخصيات تاريخية
بكل المقاييس .
اما غالبية الابطال الاخرين ، فقد ساهموا بقدر
في بطولاتهم ، وساهم الاخرون بالقدر الاكبر ، لكن لان التاريخ لايحفظ ـ كما اسلفنا
ـ الا المعالم البارزة من الاحداث ، فانه حفظ لنا اسم البطل وصور بطولته ، بينما
غيب كل اجزاء الظرف الذي صنع البطولة ، ومكن شخصا من الظهور تحت عنوانها .
قدر
قاهر
بالنسبة
لعامة الناس فان التاريخ ( الذي كان سياسة بالامس ) والسياسة ( التي ستغدو تاريخا
في المستقبل ) ليس خيارا يقبلونه ان رغبوا فيه او يرفضونه ، انه قدر ، وهو لازم
لايستطيع منه المرء فكاكا ، ستراه امامك في ثقافتك ، وتراه امامك في معيشتك ،
وتراه منتصبا يقرر نيابة عنك مستقبلك الذي ستصل اليه بعد حين.
العالم
ميدان يلعب فيه بضعة افراد ويتفرج المئات ، وحينما تنتهي اللعبة يخرج الخاسرون كما
الرابحون وقد نالوا شيئا ، قليلا او كثيرا ، عدا المتفرجين الذين دفعوا ثمن
التذاكر، واتعبوا حناجرهم في الصراخ ، فهم لم ينالوا غير فرجة مدفوعة الثمن.
اذا
كنت لاتستطيع المشاركة في اللعبة ، فانت قادر على ماهو ادنى ، وهو المعرفة بها
وباسرارها ، فلعلك تستطيع تقدير مكانك ، حتى لاتفاجئك الايام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق