في منتصف السبعينات دعا الرئيس المصري
الراحل انور السادات الى ما اسماه بالعودة الى اخلاق القرية ، وعزز هذه الدعوة
بوضع عدد من التنظيمات التي تحقق هذا الغرض ، من ضمنها القانون المشهور باسم
(قانون العيب) الذي الغي قبل اسابيع ، وقد قيل في تبرير هذه الدعوة ، بانه ثمة
حاجة الى التصدي للتراجع المتفاقم في الاخلاقيات العامة ، الناتج عن انهيار الضوابط
الاجتماعية التي يتمتع بها مجتمع القرية .
وتكشف هذه الدعوة والكثير من المقالات
، التي تنشرها الصحف حول فضائل القرية وفضائل الماضي ، عن الفزع الذي ينتاب كثيرا
من الناس ، ازاء شيوع النزعة المادية وثقافة الاستهلاك في المجتمع المديني ، حيث
اصبحت المعنويات والفضائل المتفق عليها ، مجرد حكايات للتفاخر او الذكرى ، تكافح
ببسالة للحفاظ على ما تبقى لها من مواقع
في ميدان الحياة العملية .
لكن ـ مع هذا ـ لم يتوقع احد ان تحظى
هذه الدعوة بنصيب من النجاح ، بل وصمت بانها مجرد تغطية لموقف غير عادل تجاه القوى
الاجتماعية المدينية المعارضة لسياسات الرئيس .
اتجاه الهجرة
والحق ان قليلا جدا من الناس في العالم العربي ـ
ممن عاشوا حياة المدينة ـ يرغب في العودة الى القرية ـ كمكان او كأسلوب حياة ـ على
الرغم من توافق الاكثرية على ان اخلاقياتها ، ماتزال اكثر استقامة من اخلاقيات
المدينة ، وعلاقاتها الاجتماعية ماتزال اكثر دفئا .
ويمكن الاستدلال على هذا الاتجاه
بالتضخم المضطرد ، في عدد المهاجرين القرويين الى المدن في معظم الاقطار العربية ،
مما ادى الى تضخم مواز في حجم معظم المدن الرئيسية ، يقابله انكماش للريف ، وصل في
بعض الحالات الى تفريغ قرى بأكملها من السكان ، وفي مثال ملفت للنظر نشرت صحيفة
محلية في الاسبوع المنصرم ، اعلانا اصدرته بلدية احدى القرى ، يطلب من بعض الاشخاص
ازالة بيوت لهم مهددة بالانهيار ، بعد تركها خالية لسنين طويلة ، الملفت في هذا
الاعلان هو قول البلدية بان مناشدتها لهؤلاء الاشخاص على وجه التحديد ، اعتمد على
شهادة اهل الخبرة بانهم يملكون تلك البيوت ، وتضمن الاعلان قائمة باسماء الملاك
المشهود لهم ، اضافة الى مساكن وصفت بانها مجهولة المالك ، ويشير هذا الى التغير
الكبير الذي طرأ على وضع القرية ، بسبب هجرة معظم سكانها ، بحيث اصبحوا منسيين من
جانب الاخرين الذين فضلوا البقاء فيها ، الامر الذي ينطوي على مفارقة مثيرة .
وراء الدفء
ان عدم الرغبة في العودة الى القرية ،
مبرر عند معظم المهاجرين ، بان المقارنة بينها وبين المدينة ـ كموضوع اجتماعي ـ يتجاوز موضوع الاخلاقيات ،
ويتجاوز العلاقات الدافئة الى فلسفة الاخلاق وارضية العلاقات الاجتماعية ، التي
فيها من الفضائل بقدر مافيها من المعوقات ، بحيث يمكن القول ان النهوض الذي شهده
العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، ترافق مع نقلة في الحياة
الاجتماعية لمعظم العرب ، ابرز عناوينها هو التحول من حياة القرية ـ كظرف اجتماعي
وثقافة ـ الى حياة المدينة ، بكل ماتتضمنه هذه من عناصر افتراق عن سابقتها .
ويبدو لي ان معظم الذين انتقلوا بين
المكانين ، انما كانوا يسعون الى القبض على فرصتهم في الحياة ، فرصتهم الفردية
التي تتيحها لهم كفاءتهم وطموحاتهم الى حياة ارقى واكمل ، ان سعة افق المدينة وتنوع
مجتمعها ، وما يستتبعه من تعدد الفرص فيها ، هو المبرر الرئيسي لصيرورتها محلا
لتحقيق الآمال .
الفرد والجماعة
ان مكانة الفرد هي ابرز الامثلة التي
تجسد الفارق بين القرية والمدينة ، فالفرد في القرية منسوب ـ في اغلب الحالات ـ
الى عائلته أو قبيلته ، اي الى هوية يرثها ، وعليها يتقرر مكانه الاجتماعي ، بخلاف
المدينة التي تقيم الاعتبار الاكبر لانجاز الفرد ذاته ، ويعني ذلك ان الفرصة
الحقيقية للتعبير عن الطموح عند عامة الناس ، انما توجد في المدينة ، حيث يتاح
للفرد ـ بغض النظر عن موروثه ـ ان يعبر عن نفسه وكفاءته ، وحيث يكون هذا سبيلا
لنيل المكانة التي يطمح الى تحقيقها على الصعيد الاجتماعي .
ان دفء العلاقات القروية ، وقوة النظام
الاخلاقي فيها ، يعبر ـ ضمنيا ـ عن صورة من صور السلطة الاجتماعية ، التي تستثمر
في احيان كثيرة للتسلط على الفرد ، ويتجسد هذا التسلط على صورة (العيب) الذي يقابل
كل خروج ـ ولو جزئي ومحدود ـ على مجموعة الاعراف والتقاليد ، التي يتسالم عليها
المجتمع القروي.
وتلعب الاعراف والعادات دور الاطار
الذي يطبق ضمنه هذا النظام ، وفي ظروف التطور الاجتماعي ، فان هذه العادات تلعب
دورا فعالا ، في اعاقة محاولات التكيف الفردي مع متطلبات التطور ، ذلك ان بعضها ،
بل جلها في الحقيقة ، تبلور كاستجابة لظروف مرت على المجتمع في وقت من الاوقات ،
ظروف تتعلق بمعيشته او بأمنه الداخلي ، لكن تلك الاعراف تجردت ـ بمرور الزمن ـ عن الظروف التي نشأت في
ظلها ، واصبحت مطلقة تطبق باعتبارها قيمة مستقلة ولازمة من لوازم الحياة
الاجتماعية ، تقوم بدور المنظم والضابط
لسلوك الافراد واختياراتهم .
مكان الجماعة
مجتمع القرية اذن هو مكان الجماعة ،
وهو تجسيد لحاكمية الجماعة على الفرد ، حيث فرصته للتعبير عن ذاته ، مرهونة
بتوافقه التام مع ارادة الجماعة ، وحيث ارادته ذائبة فيها والا فهي مقموعة ، بخلاف
المدينة التي لاتوجد فيها جماعة ـ بالمعنى
القروي ـ لكي تكون فيها ارادة جماعية حاكمة ، اي ان الفرد متحرر من الضوابط
الاجتماعية غير المحمية بالقانون ، فالطريق مفتوح امامه للكفاح في سبيل فرصة
الحياة ، التي يتمناها ويطمح الى نيلها .
وقد جرى تطوير هذه الفضيلة على يد المهاجرين الى
المدن ، على صورة عرف يقضي بان كلا منهم مسئول بدرجة او بأخرى ، عن مساعدة ابناء
جماعته على النجاح في حياتهم الجديدة .
على ان لهذه الممارسة الفاضلة وجهها
السلبي ، اذا استعملت كوسيلة للاستئثار ، شأنها في ذلك شأن معظم الممارسات الاجتماعية ، التي هي في
الاساس فضائل ، لكنها لاتخلو ـ اذا استعملت في غير محلها ـ من الاشكالات ، لكن
دعنا نوكل الحديث عن هذا الجانب الى مقالة أخرى قادمة .
نشر في (اليوم ) 28نوفمبر 1994
مقالات ذات علاقة
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
مقالات ذات علاقة
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق