خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت
بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة
الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى
المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في
بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات
، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية
الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ،
تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة
الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن
تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ،
للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض
الامثلة.
اعوام العزلة
حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت
معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها
الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا
طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم
وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت
المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل
تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير
خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما
اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة ، فقد
بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل
فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر
العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات
الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى
الى تنشيط سوق العمل.
توسع المدينة
لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ،
الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق
والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك
البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .
في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم
يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له
ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ،
فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم
يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ
سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان
واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث
المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت
الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية
لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .
اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال
في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ،
لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ،
بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم
المملكة .
تأثير الهجرة
يؤدي خروج عدد كبير من الناس من
مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة
انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات
الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد
الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن
الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف
المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة
، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .
ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ،
فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن
الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او
التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة
عن الصمود في وجه رياح التغيير .
الفرصة والقصور
هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة
وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة
التي تحتاجها البلاد ، لتحقيق مفهوم
التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء
البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق
الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .
ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات
جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من
الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة
تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على
مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى
الاخرى.
ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات
كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او
القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه
بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.
على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن
حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه
بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ،
هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي
والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته
وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير
والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية
، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما
الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في
ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق