07/11/1994

علم الوقوف على الاطلال



ينتمي كل انسان الى تاريخه بدرجة من الدرجات ، بحيث يندر ان تجد شخصا ، منفصلا عن تاريخه تمام الانفصال ، والمقصود بالتاريخ هنا ليس سيرة حياة الشخص على وجه التحديد ، بل مجمل التجربة التاريخية للبيئة الاجتماعية ، التي تربى وسطها وتشرب ثقافتها ، ومقومات نظرتها الى الحياة والاشياء .
ان ثقافة المجتمع لاتتكون دفعة واحدة ، بل عبر مسايرة طويلة الامد للتحديات المختلفة التي تواجهه ، يقوم خلالها بتشكيل نظرته الى من حوله وماحوله ، كما يقرر على ضوئها اسلوب عمله ، ومواجهته لمتطلبات الحياة ، وبدوره يحصل الفرد على هذه الثقافة بصورة تدريجية ، من خلال معايشته المستمرة لمحيطه الاجتماعي ، منذ ان يفتح عينيه على الحياة ، وحين يشب ويستوي رجلا ، فيتمثلها على صورة سلوك يومي ، او وعي اجتماعي ، او نمط في التفكير والتصور .
فلننظر الآن الى ثمرة هذا الموضوع ، وقد اخترت منه زاوية محددة ، تتعلق بنظرة الشخص الى تاريخه وتعامله معه ، والظروف التي تدفعه للعودة اليه .

تجربة متنوعة
ينتمي المسلمون الى تاريخ مليء بأسباب الفخر والاعتزاز ، لكنه كأي مسيرة طويلة الامد ، لاي أمة من الامم لايخلو من عناصر الضعف ومسببات الاذى النفسي ، نتذكر على سبيل المثال ان الامتداد الاسلامي الى الاندلس ، قد أوجد اساسات متينة للتقدم العلمي في اوربا ، ونتذكر في موازاة هذا ان اسلافنا قد اضاعوا هذا المجد ، بسبب نزاعاتهم الشخصية ، ومحاولة بعضهم الاستبداد بالامر ونفي الغير ، ونتذكر ان الحقبة الاولى من العصر العباسي ، قد شهدت وصول الدولة الاسلامية الى قمم من الحضارة ، غاية في العظمة والسمو ، لكن هذه الحقبة لم تخل من كثير من المنغصات ، ليس اقلها اضطهاد العديد من ائمة العلم ، وبينهم معظم رؤساء المذاهب الفقهية المعروفة ، فهذا الجانب وذاك هو الصورة الكاملة للتاريخ ، وأيا كان مرادنا من النظر فيه ، فان رغباتنا لاتغير من حقيقة كونه قد حدث ، واصبح جزء من الصورة .

وتحتاج كل امة الى قراءة تاريخها بين حين وآخر ، ليس لمجرد التسلي بالقصص والغرائب التي قد يحتويها في طياته ، بل للبحث عن عناصر للتعبئة واعادة شحن الههمم الخائرة ، فضلا عن استثمار مرجعية التاريخ ، في اضفاء المشروعية على توجه مرغوب ، او نزعها عن توجه مرفوض ، ان التاريخ بالنسبة لاي مجتمع هو النسب وشجرة العائلة ، التي من دونهما يشعر المجتمع بانه مستفرد وبلا جذور .

 ونلاحظ ان ثمة تناسبا طرديا ، بين تصاعد التحديات الخارجية في وجه المجتمع ، وبين سعيه لاستعادة تاريخه ، وأمامنا ثلاثة نماذج تمثل حالات لمجتمعات في ظروف مختلفة :

1/ محورية الحاضر
المجتمعات المستقرة المنشغلة بالتقدم هي اقل اهتماما بما مضى ، واشد تركيزا على استثمار عناصر الحاضر وامكاناته ، وهي لهذا اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .

2/ الهروب الى الماضي
المجتمعات الهامشية او الضعيفة ، تعود الى التاريخ هروبا من صعوبات الحاضر ، وملجأ يقيها مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها ، وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، ومعدلة بما يناسب المزاج الشعبي ، ويكرس عدم مسئولية الجيل الحاضر عن اوضاعه ، باضفاء صورة الاسطورة على شخصيات تاريخية معينة  ، اتصفت بالبطولة والاقدام ، والباسها رداء القوة الخارقة ، بحيث تتشكل الرسالة الاخيرة لهذا التحوير ، على صورة ان الوضع البائس ، غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق ، وتجد مثال هذه الحالة في المجتمعات التي تنتشر فيها اقاصيص الرجال الاقوياء ، كعنترة بن شداد وابي زيد الهلالي .

 3/ مقاومة الاغتراب
المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لايعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة للاسلاف ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، والتاكيد على خصوصيتها ، في مقابل محاولات الغاء الهوية ، التي يقوم بها المحيط الاكثر قوة ، في القارة الامريكية على سبيل المثال ، كان من الوسائل التي اعتمدتها جماعات الحقوق المدنية للزنوج ، هو اعادة تأكيد الاصل الافريقي لزنوج القارة الامريكية ، ومايتضمنه هذا من تعظيم مبالغ فيه احيانا ، لقيمة الثقافة ووسائل التعبير الخاصة بالشعوب الافريقية .

لايمكن الادعاء ـ بطبيعة الحال ـ ان تاريخ الامم الافريقية ، قابل للمقارنة بحاضر الافارقة الذين اصبحوا امريكيين ، بالنظر الى المعاني الحقيقية للحضارة وموقع الانسان الفرد في مجتمع متحضر ، لكن التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر .

من هذا وذاك نستنتج ان الناس يعودون الى تاريخهم بين حين وآخر ، بحثا عن تعضيد لتوجهاتهم الراهنة ، أو هروبا من معاناة غير محتملة لهذا الراهن ، وتتعاظم هذه العودة عندما يتفاقم التصارع بين الحاجات النفسية للانسان ، والمتطلبات الصعبة للتعايش العادل مع المحيط.

التاريخ والايديولوجيا
في بعض الحالات ، يجري تبرير العودة الى التاريخ على اساس ايديولوجي بحت ، بل يجري تصوير التاريخ ، باعتباره جزء من الايديولوجيا حينا ، ومصدرا لقواعدها في بعض الاحيان ، ويعرض العائدون للتاريخ انفسهم في صورة المثال الحي المعاصر لاسلافهم ، وهم في هذه الحالة يستلبون عمومية الشخص التاريخي ، ويفرغونها في فرد واحد معاصر ، ثم يستعملون هذا التحويل القسري لمحاكمة الاخرين ، وما يتضمنه هذا من ادعاء الانفراد بالقدرة على عرض الحقيقة المطلقة ، ومنح المشروعية او حجبها عن الغير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...