ينتمي كل انسان الى تاريخه بدرجة من
الدرجات ، بحيث يندر ان تجد شخصا ، منفصلا عن تاريخه تمام الانفصال ، والمقصود
بالتاريخ هنا ليس سيرة حياة الشخص على وجه التحديد ، بل مجمل التجربة التاريخية
للبيئة الاجتماعية ، التي تربى وسطها وتشرب ثقافتها ، ومقومات نظرتها الى الحياة
والاشياء .
ان ثقافة المجتمع لاتتكون دفعة واحدة ،
بل عبر مسايرة طويلة الامد للتحديات المختلفة التي تواجهه ، يقوم خلالها بتشكيل
نظرته الى من حوله وماحوله ، كما يقرر على ضوئها اسلوب عمله ، ومواجهته لمتطلبات
الحياة ، وبدوره يحصل الفرد على هذه الثقافة بصورة تدريجية ، من خلال معايشته
المستمرة لمحيطه الاجتماعي ، منذ ان يفتح عينيه على الحياة ، وحين يشب ويستوي رجلا
، فيتمثلها على صورة سلوك يومي ، او وعي اجتماعي ، او نمط في التفكير والتصور .
فلننظر الآن الى ثمرة هذا الموضوع ،
وقد اخترت منه زاوية محددة ، تتعلق بنظرة الشخص الى تاريخه وتعامله معه ، والظروف
التي تدفعه للعودة اليه .
تجربة متنوعة
ينتمي المسلمون الى تاريخ مليء بأسباب
الفخر والاعتزاز ، لكنه كأي مسيرة طويلة الامد ، لاي أمة من الامم لايخلو من عناصر
الضعف ومسببات الاذى النفسي ، نتذكر على سبيل المثال ان الامتداد الاسلامي الى
الاندلس ، قد أوجد اساسات متينة للتقدم العلمي في اوربا ، ونتذكر في موازاة هذا ان
اسلافنا قد اضاعوا هذا المجد ، بسبب نزاعاتهم الشخصية ، ومحاولة بعضهم الاستبداد
بالامر ونفي الغير ، ونتذكر ان الحقبة الاولى من العصر العباسي ، قد شهدت وصول
الدولة الاسلامية الى قمم من الحضارة ، غاية في العظمة والسمو ، لكن هذه الحقبة لم
تخل من كثير من المنغصات ، ليس اقلها اضطهاد العديد من ائمة العلم ، وبينهم معظم رؤساء
المذاهب الفقهية المعروفة ، فهذا الجانب وذاك هو الصورة الكاملة للتاريخ ، وأيا
كان مرادنا من النظر فيه ، فان رغباتنا لاتغير من حقيقة كونه قد حدث ، واصبح جزء
من الصورة .
وتحتاج كل امة الى قراءة تاريخها بين
حين وآخر ، ليس لمجرد التسلي بالقصص والغرائب التي قد يحتويها في طياته ، بل للبحث
عن عناصر للتعبئة واعادة شحن الههمم الخائرة ، فضلا عن استثمار مرجعية التاريخ ،
في اضفاء المشروعية على توجه مرغوب ، او نزعها عن توجه مرفوض ، ان التاريخ بالنسبة
لاي مجتمع هو النسب وشجرة العائلة ، التي من دونهما يشعر المجتمع بانه مستفرد وبلا
جذور .
ونلاحظ ان ثمة تناسبا طرديا ، بين تصاعد
التحديات الخارجية في وجه المجتمع ، وبين سعيه لاستعادة تاريخه ، وأمامنا ثلاثة
نماذج تمثل حالات لمجتمعات في ظروف مختلفة :
1/ محورية الحاضر
المجتمعات المستقرة المنشغلة بالتقدم
هي اقل اهتماما بما مضى ، واشد تركيزا على استثمار عناصر الحاضر وامكاناته ، وهي
لهذا اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة
العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .
2/ الهروب الى الماضي
المجتمعات الهامشية او الضعيفة ، تعود
الى التاريخ هروبا من صعوبات الحاضر ، وملجأ يقيها مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير
احوالها ، وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، ومعدلة بما
يناسب المزاج الشعبي ، ويكرس عدم مسئولية الجيل الحاضر عن اوضاعه ، باضفاء صورة
الاسطورة على شخصيات تاريخية معينة ،
اتصفت بالبطولة والاقدام ، والباسها رداء القوة الخارقة ، بحيث تتشكل الرسالة
الاخيرة لهذا التحوير ، على صورة ان الوضع البائس ، غير ممكن التغيير ، الا اذا
وجدت معجزة او ظهر رجل خارق ، وتجد مثال هذه الحالة في المجتمعات التي تنتشر فيها
اقاصيص الرجال الاقوياء ، كعنترة بن شداد وابي زيد الهلالي .
3/ مقاومة الاغتراب
المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد
الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة
فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب
أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ
هنا لايعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة للاسلاف ، ينبغي دراستها والاعتبار
بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على
الهوية .
وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه
المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، والتاكيد على خصوصيتها ،
في مقابل محاولات الغاء الهوية ، التي يقوم بها المحيط الاكثر قوة ، في القارة
الامريكية على سبيل المثال ، كان من الوسائل التي اعتمدتها جماعات الحقوق المدنية
للزنوج ، هو اعادة تأكيد الاصل الافريقي لزنوج القارة الامريكية ، ومايتضمنه هذا
من تعظيم مبالغ فيه احيانا ، لقيمة الثقافة ووسائل التعبير الخاصة بالشعوب
الافريقية .
لايمكن الادعاء ـ بطبيعة الحال ـ ان
تاريخ الامم الافريقية ، قابل للمقارنة بحاضر الافارقة الذين اصبحوا امريكيين ،
بالنظر الى المعاني الحقيقية للحضارة وموقع الانسان الفرد في مجتمع متحضر ، لكن
التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة
الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان
المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر .
من هذا وذاك نستنتج ان الناس يعودون
الى تاريخهم بين حين وآخر ، بحثا عن تعضيد لتوجهاتهم الراهنة ، أو هروبا من معاناة
غير محتملة لهذا الراهن ، وتتعاظم هذه العودة عندما يتفاقم التصارع بين الحاجات
النفسية للانسان ، والمتطلبات الصعبة للتعايش العادل مع المحيط.
التاريخ والايديولوجيا
في بعض الحالات ، يجري تبرير العودة
الى التاريخ على اساس ايديولوجي بحت ، بل يجري تصوير التاريخ ، باعتباره جزء من
الايديولوجيا حينا ، ومصدرا لقواعدها في بعض الاحيان ، ويعرض العائدون للتاريخ
انفسهم في صورة المثال الحي المعاصر لاسلافهم ، وهم في هذه الحالة يستلبون عمومية
الشخص التاريخي ، ويفرغونها في فرد واحد معاصر ، ثم يستعملون هذا التحويل القسري
لمحاكمة الاخرين ، وما يتضمنه هذا من ادعاء الانفراد بالقدرة على عرض الحقيقة
المطلقة ، ومنح المشروعية او حجبها عن الغير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق