انتماء الفرد الى تاريخه ليس خيارا ، بل هو منطق الامور. هذا التاريخ ليس سيرة حياة شخصية ، بل مجموع ما استخلصه المجتمع من تجارب حياتية ، تواصلت لزمن طويل . وتتمظهر تلك المستخلصات في الحياة الاجتماعية ، على شكل قيم واعراف ومسلمات وطرق في ادارة الحياة ، اي ثقافة عامة او خلفية للتفكير في الذات والاشياء ، تحكم السلوك العفوي لافراد الجماعة .
يبدأ المجتمع في نقل ثقافته الى اعضائه
الجدد منذ ولادتهم ، من خلال المعايشة واللغة والترميز وتعريف الاشياء والثواب
والعقاب ، وتتواصل تلك العملية حتى يشب الفرد ويصبح عنصرا متفاعلا ، اي مستهلكا
ومنتجا للعرف والثقافة الاجتماعية.
تختلف المجتمعات في المساحة التي تتركها
للفرد ، كي يعيد تشكيل ثقافته – وبالتالي هويته الخاصة – بعد ان يشب عن الطوق.
فالمجتمعات الاشد ترابطا هي الاقل تسامحا في هذا الجانب ، وهي تتوقع من الفرد ان
يقبل بالثقافة الموروثة ، ويعيد انتاجها من دون تعديل جوهري. وفي المقابل فان
المجتمعات المفككة ، تفتقر الى وسائل فعالة لالزام الافراد بموروثها الثقافي.
لكن لا ينبغي الظن بان هذه المجتمعات
متحررة ، او قليلة الاهتمام بأدلجة ابنائها. فهي تقوم بذلك من خلال قنوات كثيرة ، مثل
التربية العائلية والمدرسة والعمل ووسائل الاعلام ، اضافة الى نظام العلاقات
الاجتماعية ، القائم اساسا على منظومة قيم واعراف مثبتة سلفا. وتلعب اللغة دورا
محوريا في هذا السياق. فاللغة ليست مجرد اداة للتواصل ، بل هي ايضا اداة لتعريف
الاشياء وتحديد قيمتها. وهي اضافة الى ذلك اداة لحفظ واعادة انتاج مصفوفات الرموز
والقيم الاساسية ، التي يرجع اليها العقل عندما يفكر في الاشياء وعندما يتخد موقفا.
وهي اخيرا اداة لتعريف الاولويات والمسلمات والمشكوكات والاشياء المألوفة
والمستغربة. ولهذه الاسباب جميعا يختلف الشاب الذي ولد لعائلة امريكية ، عن ذلك
الذي تعلم اللغة الانكليزية كلغة ثانية ، والامر نفسه بالنسبة للفرد المولود
لعائلة عربية ، حتى لو تحدث اللغة الاجنبية مثل اهلها.
ثقافة الفرد – وتبعا لها هويته – هي
تكثيف لتاريخ مجتمعه ، وما تشكل في طياته من ثقافة. ومن هذه الزاوية لا تختلف المجتمعات الناهضة ، عن
نظيرتها الساكنة او المتخلفة. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بهذه الحقيقة او
غفلتها عنها. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده
او الموازنة بين ضرورات الثقافة وضرورات
العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر ، وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.
المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام
بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته. وهي اكثر واقعية
واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي
يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين. وفي المقابل ترى المجتمعات الهامشية
والضعيفة مأخوذة بالماضي . فهي تهرب اليه من صعوبات الحاضر ، وتلجأ اليه كي تتقي
مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها. وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ
الى اقاصيص منتقاة ، يجري تعديلها بين حين واخر ، كي تخدم غرضا محددا مثل تبرير
الفشل او تسويغ التفلت من المسؤوليات. ونجد بين المتحدثين من يغرق في اضفاء صور
اسطورية على شخصيات تاريخية معينة ،
والباسها رداء القوة الخارقة ، كي تنتج رسالة محددة فحواها ان الوضع البائس غير
ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق .
المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى
الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة
فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب
أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ
هنا لا يعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ،
بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .
وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه
المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، كرد على محاولات الغاء
الهوية من جانب المحيط الاقوى. في المجادلات التي نشهدها اليوم حول التطرف الديني
والمذهبي وتفاقم النزعات القبلية والقومية امثلة
كثيرة على هذا التوجه. التاكيد على
الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة
بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان
المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر.
الايام 5-6-2008
مقالات ذات علاقة
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق