‏إظهار الرسائل ذات التسميات توماس هوبز. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات توماس هوبز. إظهار كافة الرسائل

27/02/2025

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان "الدين المدني" يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض الزملاء قائلين: اذا كان هذا هو المقصود حقا ، فانه متوفر في كل الأديان. فلماذا نبتدع دينا آخر؟.

هذا النوع من النقاشات ينتهي عادة الى حالة فوضوية. ففيها يختلط التدليل العلمي بالدفاع العاطفي ، وتختلط المخاوف بالتوقعات والرغبات. ولهذا السبب ، على الأرجح ، لا يشهد المجتمع العربي مناقشات معمقة ومستمرة ، حول العلاقة المناسبة بين الدين والسياسة ، مع انه أكثر مجتمعات العالم ابتلاء بالنتائج المريرة لذلك الخلط. ان الجدل في المسألة متواصل بشكل يومي. لكنه ليس نقاشا من أجل العلم ولا يلتزم بمعايير العلم ، ولذا لا يعين على تفكيك العقد التي تملأ هذا الموضوع. بل لا أغامر لو قلت ان ما يحدث هو العكس تماما. فالجدالات الكثيرة بين الداعين لانخراط الدين في الحياة السياسية ، وبين معارضي هذا الاتجاه ، تحولت الى نزاع سياسي- اجتماعي فيه القليل جدا من العلم ، والكثير جدا من العداوة والانفعال.

كان روسو يطالع مشهدا شبيها بهذا في أوربا الغربية ، منتصف القرن الثامن عشر. ولهذا اقترح فكرة "الدين المدني" الذي يمكنه ان يلعب دورا مماثلا لأي دين آخر في إطار الممارسة السياسية ، من دون ان ينخرط في جدل العلاقة بين الدين والسياسة ، على نحو ما شهدت أوربا يومذاك ، وما نراه في العالم العربي اليوم.

-         ما الذي أثار القلق عند روسو؟

كان روسو مقتنعا بأن القانون بطبعه ، قيد على الحريات الفردية. مجرد الزام الناس بفعل أشياء والامتناع عن أشياء أخرى ، هو – في الجوهر – تقييد لحرياتهم. وهذا يثير أسئلة متضاربة ، مثل: هل يمكن ان نعيش حياة اجتماعية طيبة ، من دون قانون ينظم العلاقة بيننا. لكن – من ناحية أخرى – هل يصح ان نضحي بحريتنا الخاصة ، في سبيل العيش الجمعي. واذا فرضنا ان القانون ضروري للحياة الطيبة ، فما هو الأساس الذي يستند عليه القانون كي يلتزم الناس به ، هل هو مجرد التهديد بالعقاب من جانب الدولة. واذا كان التزام الناس بالقانون نوعا من القسر ، فما هو المبرر الذي يسمح لرجال الدولة بوضع تلك الالزامات ، وتهديد المواطنين بالعقاب ان لم يطيعوا.

هذه الأسئلة كانت تدور بقوة ، في المحيط الاجتماعي الذي شهد كتابات روسو الأولى. وبعضها لازال محورا لنقاشات الفلسفة السياسية حتى اليوم.

قرر روسو ان القانون ملزم ، لأنه مستند الى الإرادة العامة ، أي إرادة مجموع المواطنين في العيش المشترك وتنظيم علاقتهم الداخلية في قانون مكتوب. القانون أشبه بخطاب من كل فرد لكل فرد آخر ، يؤكد التزامه باحترام حقوقه ، باعتبارهما عضوين في مجتمع واحد. وبالتالي فالقانون اعلان التزام من جانب مجموع المواطنين ، لكل واحد منهم ، بأن حقوقه مصونة ومضمونة ، وأن من يخرقها فهو مذنب امامهم جميعا. إذن فالإرادة العامة ، وما يقوم عليها او يتفرع منها ، أشبه بالجدار الذي يستند اليه القانون.

هذا التوضيح الذكي ، لم يمنع احدهم من التساؤل: لكن ما الذي يضمن ان تبقى الإرادة العامة موحدة ، كي تواصل اسنادها للقانون ، أي كي يبقى المجتمع موحدا في التزاماته.

وفقا لروسو فان إرادة كل فرد للعيش المشترك الآمن ، ومن ثم ، قبولهم بالقانون الذي ينظم علاقتهم ببعضهم ، يمثل بذاته تمظهرا لجوهر الانسان ، ككائن خير وعقلاني ، انها تعبير عن طبيعته التي أفاضها الله عليه حين خلقه. ومن هنا فهي تعبير عن روح الله وارادته التي نفخها في هذا المخلوق. ولهذا اعتبرها متعالية ، فلا تحتاج الى تدليل او اسناد.

هل هذا يكفي للقبول بفكرة "الدين المدني"؟ . اظن تحليله صحيحا ، لكن لا أرى استنتاجه ضروريا. ولعل في وسعنا التدليل عليه بطريقة أيسر.

الشرق الأوسط الخميس - 28 شَعبان 1446 هـ - 27 فبراير 2025 م  https://aawsat.com/node/5116582-

مقالات ذات صلة

  

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟

الايديولوجيا والسياسة

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

حكومة اليوم وحكومة الأمس

دعوة للخروج من قطار الكارثة

الدين المدني ، دين الدولة

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

سؤال التسامح الساذج

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

صنم الوحدة

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه: فوائد التسامح

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مدينة الفضائل

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

نموذج لشرعية سياسية وسيطة

 

13/02/2025

الدين المدني ، دين الدولة

خصص جان جاك روسو الفصل الأخير من كتابه "العقد الاجتماعي" لاقتراح غريب نوعا ما ، وهو "الدين المدني". كان مقدرا لروسو (1712-1778) ان يصبح قسيسا ، لكن اقداره ساقته نحو الفلسفة السياسية ، فدون واحدا من أهم النصوص في تاريخ العالم الحديث ، اعني "العقد الاجتماعي" الذي أطلق مدرسة في علم السياسة ، كتب فيها وحولها مئات الدراسات ، بمختلف اللغات.

في أول الأمر ، اجمع الكل على رفض الفكرة: الكنيسة اعتبرتها حيلة لالغائها كليا ، من خلال اقصائها عن مبرر وجودها الوحيد. العلمانيون اعتبروها مناورة لترسيخ هيمنة الكنيسة على المجتمع ، من خلال تبني الدولة للدين (ولو بنسخة مخففة). أما عامة الناس فتساءلوا: ما الداعي لدين جديد ، طالما لاتزال الكاثوليكية على قيد الحياة؟.

في المقابل ، قال روسو  انه لا يتحدث عن دين الكنيسة. ثمة أربعة مستويات للايمان: أولها دين الكهنة ، الذي يجهز الانسان لما بعد الموت ، وهذا ليس موضع نقاش في حقل السياسة ، لأنه – من حيث المبدأ – لا يتعلق بالدنيا. الثاني هو دين الانسان الذي يركز على الفضائل الأخلاقية وتزكية النفس. وهذا ما تسعى اليه كافة الأديان ، في مختلف البلدان والازمان. الثالث هو دين المواطن ، وهو قريب جدا من فكرة القانون التي تفرضه الحكومة على الناس ، فهو محدد جغرافيا بمدى سلطة الدولة ، وليس له وجود خارجها. هذا الدين تحرسه الدولة وتفرضه على مواطنيها بقوة القانون. أما الرابع فهو "الدين المدني" الذي يمثل خلفية يرجع اليها المشرع حين يدعو المواطنين للالتزام بالقانون. هذه الفكرة تشابه كما اظن مفهوم "نظام الملة" الذي يذكر أحيانا في سياق الحديث عن التجربة التاريخية الإسلامية. وهو يشير الى مجموعة الأعراف والنظم التي جاء بها الدين او التي ابتكرها المجتمع وطبقها لتنظيم حياته اليومية ، واعتبرت جزء من النظام الذي يجب على كل الناس رعايته ، كي لا ينفرط الجمع او يتضرر المجتمع.

السؤال الذي كان يشغل بال روسو حين كتب عن "الدين المدني" هو: اذا قالت الدولة للناس بانهم احرار في التفكير والتعبير عن آرائهم ، احرار في الاعتقاد وممارسة العبادة ، فما الذي يحملهم على الالتزام بالقانون الذي يقيدهم؟.

كان روسو قد قال أولا ان الانسان ميال بطبعه نحو فعل الخير ، وأنه سيلتزم – بمحض ارادته - بالقانون الذي اختار ان يشارك في انشائه من خلال "العقد الاجتماعي". لكن يبدو انه شعر لاحقا بأن المجتمع لن يخلو من خلاف ، ربما ينال تفسير القانون او مقاصده. وبالتالي فقد لا يكون القانون سلاحا حاسما ، الا اذا سمحنا للدولة بأن تفرض سلطانها على الجميع ، حتى لو كانت هي طرفا في الخلاف ، بمعنى ان تكون الخصم والحكم في آن.

لحل هذا الاشكال ، وضع روسو فكرة الدين المدني ، الذي يشكل خلفية تدعم القانون من جهة ، وتشجع الناس على المشاركة في الحياة السياسية من جهة أخرى. ان مشاركة عامة الناس في الحياة العامة ، سوف تضمن قدرا معتبرا من الالتزام بالقانون وتطويره أيضا.

إذا اخذنا هذا المعنى بعين الاعتبار ، فان "الدين المدني" الذي تحدث عنه روسو ليس نظيرا للدين الذي نعرفه ، ليس شبيها ولا مزاحما له. انه اقرب ما يكون الى تبرير أخلاقي للقانون ، يستلهم الروحية العامة للدين ، أي كونه دعوة للفضيلة وسمو النفس ومحبة الغير وعدم الاستئثار بالمنافع. ومن هنا قال روسو ان دينا كهذا ، ينبغي ان يكون بسيطا ، مرتبطا بالقيم الأساسية التي يعرفها المجتمع ويرغب فيها ، غير قابل للاحتكار ولا مزاحمة الانتماءات الدينية الأخرى.

لا بد ان بعض القراء يبتسمون الآن في سرهم ، ويتساءلون: هل يمكن لدين كهذا ان يوجد في واقع الحياة؟.

لعل روسو سيجيبهم لو كان حيا. لكنه – للأسف – لم يعد معنا.

الخميس - 14 شَعبان 1446 هـ - 13 فبراير 2025 م     https://aawsat.com/node/5111640

 

 


مقالات ذات صلة

19/12/2024

دعوة للخروج من قطار الكارثة

أود في هذه السطور التأكيد على الرؤية التي تبنتها مجموعة الاتصال العربي حول سوريا ، في اجتماعها بمدينة العقبة ، جنوب الأردن ، يوم الجمعة الماضي. الرؤية حظيت بدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا ، فضلا عن الأمم المتحدة. وهي تشدد على إعادة بناء الدولة السورية ، بما يجعلها أوسع تمثيلا للمجتمع الوطني ، وجعل السلام خيارا وحيدا في العلاقة بين أطياف المجتمع.

يهمني جدا دعوة النخب العربية ولا سيما الاشقاء السوريين ، لدعم تلك الرؤية ، والاسهام في إعادة توجيه القطار السياسي نحو السلام واستئناف الحياة الطبيعية ، بعد عقد ونصف من التنازع الذي خلف دمارا هائلا في هذا البلد الجميل.

الداعي لهذا هو ما اسمعه من دعوات للانتقام ، أو تقاسم الكعكة ، او محاسبة المنتصرين ، او البحث عمن يتحمل المسؤولية عما جرى في السنوات الماضية. اعلم ان بعض هذه الدعوات منبعث من حمية صادقة ، لكني اعلم ايضا ان اكثرها هوس بالملاحم والصراعات ، والحماسة للفتن بمبرر وغير مبرر.

طيلة عقد ونصف تورطت سوريا في قطار الحرب الاهلية ، فترك 17 بالمائة من سكانها بيوتهم قسرا ، وانخرط مليون شخص في الحرب والنشاطات المتصلة بالحرب. وتعطلت جميع المدن الصناعية وسرقت معدات المصانع ، حتى القديمة منها. كما توقفت الاستثمارات الجديدة في مختلف القطاعات ، الصناعية والزراعية والخدمية. ونتيجة لهذا كله ، انخفض مستوى المعيشة ، فأمسى نصف السكان تقريبا في حالة فقر مدقع ، بدخل شهري يصل بالكاد الى 50 دولارا.

غرضي من هذا الكلام ليس بيان حجم الكارثة ، بل اقناع المترددين بأن اختيار السلام بعد عقد من التنازع ، ليس أمرا هينا ولا كلاما يلقى على عواهنه.

في زمن الحرب ، تتحول الحرب الى مصدر عيش لشريحة كبيرة من الناس ، وتمتليء النفوس بالحماسة والرغبة في الانتقام. كما توفر الفرصة للطامحين للزعامة كي يظهروا كفاءتهم في الحشد والتعبئة. وثمة – إضافة الى هذا – حكومات وجماعات ، تستفيد من الحرب اقتصاديا او سياسيا.

هذه العناصر التي تتبلور في ظرف الحرب ، لا تتحول بين عشية وضحاها الى مكونات سلام. لا يتخلى الناس عن مصادر عيشهم دون تمهيد مناسب. ولا تبرأ النفوس من أوهام الغلبة والرغبة في الانتقام ، دون قيام ظرف جديد ، يجعل الظرف السابق مستحيلا او غير مفيد ، بحيث يضطر المقاتلون والمستثمرون في الحرب للبحث عن مصادر عيش بديلة. الحقيقة ان علينا المساعدة في توفير مصادر العيش البديلة هذه ، ومساعدة المقاتلين وغيرهم على استثمارها. كذلك الامر بالنسبة للزعماء والمستفيدين من الحرب ، والجهات والدول التي كانت صاحبة مصلحة. كل هذه الأطراف يجب ان تحصل على بدائل مكافئة ، او على الأقل قريبة مما كانت تحصل عليه في الماضي ، كي لا تجد ان مصلحتها محصورة في إعاقة قطار السلام.

 فيما يخص النظام الجديد الذي لم تتضح صورته ، أرى ان المسألة الأكثر أهمية في هذه اللحظة ، هي تشجيع القوة السياسية المسيطرة على صيانة جهاز الدولة ، حتى لو كان فاسدا او ضعيف الفاعلية. تجارب الحروب والنزاعات الاهلية ، تخبرنا ان تفكيك الحكومة يجعل إعادة البناء مستحيلة ، كما يجعل الارتياب المتبادل حاكما على العلاقة بين أطياف المجتمع الوطني. لابد في ظرف كالذي تعيشه سوريا من "اللفياثان" بحسب منطق توماس هوبز ، أي القوة الرادعة للجميع والحاكمة فوق الجميع ، ولو كانت غاشمة. هذا ضرورة لسوريا ولدول الجوار أيضا. فاذا استقرت الأمور ، بات ممكنا فتح الباب لنقاش حر حول النظام الأكثر ضمانا للعدالة ، والأدق تمثيلا لمصالح كافة المواطنين.

اختم بدعوة الدول العربية جميعا الى الوقوف ماديا ومعنويا مع سوريا ، ودعم اقتصادها بشكل فوري ، كي ينخرط السوريون في مسيرة بناء بيوتهم ومزارعهم واعمالهم ، وبالتالي يوقفون امدادات الوقود التي كانت تغذي ماكنة الحرب.

الشرق الأوسط الخميس - 18 جمادى الآخرة 1446 هـ - 19 ديسمبر 2024

https://aawsat.com/node/5093110

مقالات ذات علاقة

 اجتياح الحدود

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة
عرب اوكرانيا وعرب روسيا
مصير المقاتلين الامميين
الواعظ السياسي

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

 
  

10/08/2022

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

ذكرت في الأسبوع الماضي ، ان المسار الصحيح لنقاش العلاقة بين النقل والعقل/العلم ، ينبغي ان يبدأ عند السؤال الاشكالي الخاص بموقع "الانسان في الدين". هذه مسألة لا بد منها لتمهيد الطريق ، للنقاش في دور العقل او مكانته بالقياس الى النقل. وهي مسألة لم تطرقها مدارس العلم الشرعي الا لماما أو عابرا. ولهذا اعتبرتها عاملا خفيا ، وزعمت ان اغفالها ساهم في تعقيد النقاش الخاص بالعلاقة بين العقل والنقل ، او بين العلم والدين. وذكرت ان "موقع الانسان في الدين" يفهم على ضوء عناصر ثلاثة ، أولها يتعلق بالفطرة الأولية للإنسان ، هل هي صالحة ام فاسدة ، بمعنى ان الناس لو تركوا وشأنهم ، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل ، أم يجتهدون في تنظيم علاقتهم ببعضهم ، كي يدرأوا الشرور عن مجموعهم.


توماس هوبز (1588-1679)

لكن ما هي علاقة الفطرة بجدل العقل والنقل؟

جواب هذا السؤال يظهر في الحجج التي تتكرر من جانب الرافضين لدور العقل. وأحتمل ان كثيرا من القراء الأعزاء ، قد واجهوها فعلا في النقاشات المتعلقة بالموضوع. ان محور تلك الحجج هو الميول الذاتية/الانانية التي تتحكم في تصرفات الانسان وفي تفكيره. وهي تظهر من خلال انسياق الانسان وراء الغرائز والانفعالات. وهذه سمة عامة عند البشر ، لانها جزء من تكوينهم. لابد من الإشارة طبعا الى ان الميول الانانية درجات ، فقد تجد جماعة يصل بهم الحال الى التقاتل او حرب الجميع على الجميع ، وفق تصوير توماس هوبز. وقد تجد جماعة اميل الى التسالم ، لكنهم مع ذلك لا يجتمعون على الصلاح والإصلاح.

وبناء عليه فان الانسان غير مؤهل – وفق هذه الرؤية – لانشاء احكام قيمية تورث الاطمئنان ، من دون اعتماد مرجع آخر غير عقله. بعبارة أخرى فان العقل بحاجة الى جدار يستند عليه ، ويستمد منه القيم التي سوف يطبقها لاحقا على أفعال صاحبه ، وما يراه من أشياء أو حالات في محيطه.

لدينا اذن بعدان.. بعد معرفي خلاصته: ان عمل العقل مشوب بالنقص الذي هو طبيعة في الانسان ، مهما بلغ من العلم. وبعد أخلاقي خلاصته ان تأثير العواطف والغرائز ، يعزز الميل الأناني الذي هو اصل في تكوين الانسان.

وبناء على هذا ، فانه لا يصح تفويض العقل الإنساني ، صلاحية انشاء حكم شرعي نيابة عن الخالق سبحانه. البديل الصحيح هو الاستماع للأشخاص المتصلين بمصدر الشريعة ، أي النبي او القرآن ، الذين ينقلون الينا ما نقله النبي عن ربه. اما عقول البشر فيكفيها الانشغالات الدنيوية.

حسنا.. هل لدى القائلين بهذا الرأي دليل قطعي ، ينفي تماما أدلة الرأي المقابل؟. الواقع انه لا يوجد. دعنا نساير مؤقتا القائلين بنقص الانسان وميوله الشريرة. ثم ننظر الى التجربة الفعلية للبشر ، مع انفسهم ومع ربهم سبحانه. سوف نجد أولا ان البشر الذين تقاتلوا وافسدوا ، هم انفسهم البشر الذين عمروا الأرض وحولوا العالم المتخلف (المشرك بالله) الى عالم في غاية التقدم (موحد لله) على المستوى المادي والروحي والمعرفي. دعنا ننظر أيضا الى نداءات الله المتكررة للإنسان (الاناني) ، وتحفيزه المتكرر لاستعمال العقول (الناقصة).. هل ثمة خطأ في هذه النداءات ، ام انها تخبرنا ان هذا الانسان ، مع أنانيته ونقص عقله ، هو المخلوق الطبيعي الذي خوطب بالرسالات السماوية ، وهو أيضا الذي قضى الباري سبحانه ان يكون خليفته في أرضه ، رغم اعتراض الملائكة.

الحقيقة أني اريد المجادلة بان نقص العقل (نقص المعرفة) والميل الاناني (الميل للتكاثر) هما مبرر امر الخالق لعباده بالسعي للكمال ، ولولاه لما كان ثمة مبرر للديانات. لكن دعنا نؤجل هذا لوقت آخر.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 محرم 1444 هـ - 10 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15961]

https://aawsat.com/node/3807006/

 

16/06/2021

بقية من رواية قديمة

 

هذا ماتبقى في ذاكرتي من رواية اشتريتها قبل أربعة عقود ، من رجل عجوز اقام بسطة على قارعة الطريق ، يبيع فيها كتبا ودفاتر ومجلات قديمة ، أسعارها تترواح بين 10 فلوس و100 فلس. وبينها هذه الرواية التي نزع غلافها وعدد من صفحاتها الاولى ، فلم اعرف اسمها ولا اسم مؤلفها ، وانما جذبني سعرها الزهيد قياسا بضخامة حجمها ، فقد دفعت يومها نصف درهم ، اي 25 فلسا ، عدا ونقدا ، وهي تعادل ربع ريال سعودي ، يوم كان الدينار العراقي دينارا.

تحكي الرواية قصة سفينة غرقت ونجى نحو الف من ركابها ، ولاذوا بجزيرة مهجورة وسط المحيط. وقد خصص الرواي نحو 200 صفحة لشرح علاقة الناجين ببعضهم بعد وصولهم الجزيرة ، وكيف انقسموا الى اغلبية تريد ان تنظم حياتها معا ، واقلية يريد كل فرد فيها النجاة بنفسه. ثم تحولت الأكثرية الى قرية منظمة تدير حياة طبيعية ، تزرع وتبني ويجتمع أهلها في المقهى والكنيسة ، ويتزاوجون ويحتفلون في المناسبات ، بينما بقي أعضاء الأقلية متشككين ، غير واثقين في مايجري ، خائفين من ان يتعرضوا للاستغلال ، فاختاروا العيش منفردين في نقطة قصية ، يراقبون الساحل املا في سفينة تنقذهم يوما ما.

لقد نسيت الآن معظم تلك الرواية عدا قصة نزولهم الجزيرة ، وإعادة تنظيم المجتمع الجديد. وللحق فاني لم ادرك مغزى تفاصيلها الكثيرة المملة ، الا يوم بدات دراسة العلوم السياسية ، ولاسيما حين وصلت الى الجدالات التي أعقبت نشر كتاب "لفياثان" او الغول لتوماس هوبز ، المفكر الإنجليزي ، الذي حاول فيه شرح سيناريو تحول الحشد العادي الى مجتمع فيه سلطة سياسية وقانون.

اني اميل للاعتقاد بأن المحرك الرئيس لتلك المجادلات ، هو تحفظ هوبز في الإقرار بخيرية الانسان وميله الفطري للتعاون والتكافل ، على النحو الذي فعله غالبية الناجين من ركاب السفينة. قدم هوبز مفهوما مزدوجا ، يؤكد في جانب منه على ان الانسان اقرب للشر منه للخير ، فلو اجتمع عدد كبير من الناس لكانوا أميل للتنازع ، الامر الذي يؤدي لما أسماه "حرب الجميع على الجميع". بينما يؤكد في الجانب الثاني على ان الانسان عقلاني ، برغم فساد فطرته. عقلاني بمعنى انه يجيد حساب العواقب وما يترتب على قراراته وافعاله. وهذه العقلانية أوصلت ذلك الحشد المتنازع ، الى ان مصلحة كل منهم تقتضي إقامة سلطة فوقهم ، تلزم الجميع بالسلام والتسالم ، وهذا أساس فكرة الدولة.

تعتمد الفلسفة السياسية المعاصرة نظرية معاكسة ، أساسها ان البشر بطبعهم ميالون للخير ، فلو اجتمعوا لتفاهموا وتعاونوا ونظموا حياتهم بما يفيد غالبيتهم. لكن يبدو ان المجتمعات الشرقية لازالت تميل لرؤية هوبز المتحفظة. اني افهم هذا من رغبة الناس في العقوبات المشددة كوسيلة للحكم ، وانكار غالبيتهم للتفاوض والمساومة والحلول الوسط للمشكلات السياسية ، بل وارتيابهم في الذين يستعملون هذا الأسلوب او يدعون اليه. هذا يعني انهم يؤمنون بان خوف العقاب هو الذي يدفع الناس للتسالم وليس كونهم خيرين بالفطرة.

سوف اشرح في وقت آخر علاقة هذا الميل بفكرة العدالة ، ومدى رسوخها في ثقافتنا. لكني اردت اختتام هذه المقالة بدعوة القاريء العزيز لمساءلة نفسه: هل يرى البشر (وهو واحد منهم) اقرب للشر والتنازع ، بما يستوجب قسرهم على التسالم ، ام يراهم مجبولين على الخير والتكافل وتنظيم حياتهم معا؟.

الأربعاء - 6 ذو القعدة 1442 هـ - 16 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15541]

https://aawsat.com/node/3029386/

مقالات ذات صلة

القانون للصالحين من عباد الله

يسروا القانون كي تكسبوا طاعة الناس

الغول

صورتان عن الانسان والقانون

مجتمع العقلاء

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

مجتمع العبيد

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟

الانسان الذئب؟...

03/06/2020

الانسان الذئب؟....

الغرض من هذه المقالة هو مجادلة فكرة "الانسان الذئب" التي اشار اليها زميلنا الاستاذ يوسف ابا الخيل ، في سياق تعليقه على الغضب المتفجر في المدن الامريكية اثر مقتل الشاب الاسود جورج فلويد قبل 10 أيام. اني اعارض هذه الفكرة ، لانها تحولت بالفعل الى مبرر للتجبر والقسوة واحتقار الضعفاء.

وردت عبارة "الانسان ذئب الانسان" في نص أدبي للكاتب الروماني لوكيوس سينيكا الذي عاصر السيد المسيح وتوفي في 65 للميلاد. ثم استعملها الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز  ( 1588- 1679م) كعنصر تأسيسي في نظريته السياسية. وكتاب "لفاياثان" الذي ضم هذه النظرية ، واحد من اهم النصوص المرجعية في علم السياسة الحديث.

هذه الفكرة تقول ببساطة ، ان الانسان في طبعه الاولي ، أميل للشر والفساد. ولو ترك وشأنه فسوف يختار مايشبع غرائزه ويلبي شهواته الانانية ، ولو على حساب الغير. فاذا اجتمع جمهور كبير ، كان احتمال ميلهم للفساد اكبر  ، نظرا لدخول عامل افساد اضافي هو "عامل الندرة" الذي يعرفه الاقتصاديون. وتبنى هذه الرؤية "ارسطو" الفيلسوف اليوناني (توفي 322 قبل الميلاد). وقرر بناء عليها  ان الناس لايطيعون القانون حبا في الفضيلة ، بل خوفا من العقاب.

بقي الحديث عن الطبع الاولي للانسان ، عنصرا  ثابتا في الفلسفة السياسية ، لزمن طويل جدا ، رغم انه لم يحض بحصة ملائمة من البحث النظري. وحسب تقدير البروفسور غاري برنت ماديسون ، فان اي نظرية حول المجتمع السياسي ، اي حول البشر بوصفهم فاعلين في الحياة العامة ، هي بصورة مباشرة او غير مباشرة ، نظرية حول طبيعة الانسان ذاته. (G. B. Madison, The Logic of Liberty (Greenwood Press, 1986), The Introduction.

وارى ان الصحيح هو القول بان اي نظرية من هذا النوع ، يجب ان تبدأ بموقف ميتافيزيقي ثابت حول طبيعة الانسان ، سيما اذا كان محور النقاش ، هو استعمال القوة ومحدداته ، من جانب هيئة مشروعة كالدولة ، او غير مشروعة كالميليشيات الاهلية.

لقد اثرت رؤية ارسطو على التفكير الديني والسياسي ، في المجال المسيحي والاسلامي. وقد لاحظت في ابحاث سابقة ، ان فكرة الانسان الذئب ، كانت خلفية لآراء العديد من علماء المسلمين ، منذ القرن الحادي عشر الميلادي حتى وقت قريب. ومن بينهم مثلا ابو الفتح الشهرستاني (ت-1153م) في كتابه الشهير "الملل والنحل" ، كما استعملها ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي  (ت-1068م) في سياق تبريره لفكرة الامامة الدينية. لكن الجدالات التي أثارها كتاب هوبز في المجال الاوروبي ، انتهت الى تقويض الفكرة ، وهيمنة الاعتقاد في خيرية الانسان وصلاح فطرته.

تحدث هوبز عن فكرة الانسان الذئب ، ضمن سعيه لوضع نظرية تفسر سبب قيام السلطة السياسية. وقد بدأ بوضع فرضية فحواها ان الظرف الاجتماعي السابق لقيام الدولة ، كان ظرف اضطراب وتقاتل بين الناس. لكنه استدرك بالقول ان الانسان عقلاني بطبعه ، قادر على احتساب عواقب افعاله. من هنا تنادى الناس الى انشاء هيئة تمثلهم وتنوب عن مجموعهم ، في منع عدوان بعضهم على بعض ، وهي الدولة.

نظرية هوبز هي المرحلة الاهم في فلسفة الدولة الحديثة. لكن تبريره فكرة الدولة المطلقة ، التي تسير بموجب هوى الرئيس وليس القانون ، لم يكن مقبولا على الاطلاق. وما يدعو الى مناقشتها اليوم ، هو انها امتداد لتراث عميق التأثير في الثقافة العربية والاسلامية الحاضرة. وهناك بالطبع بدائل افضل منها واكمل. وهذا موضوع سنعود اليه في قادم الايام.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 11 شوال 1441 هـ - 03 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15163]

https://aawsat.com/node/2314621/


الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...