‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل الجمعي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل الجمعي. إظهار كافة الرسائل

02/01/2025

تأثير الحرارة على العقل الاوروبي

كرس د. محمد عابد الجابري (1935-2010) جانبا هاما من أبحاثه ، لدراسة الفارق بين الذهنية العربية ونظيرتها الغربية. ومثل سائر الذين درسوا تاريخ المعرفة ، يعتقد الجابري ان كلا من العقلين العربي والغربي ، تشكل في سياق تجربة تاريخية طويلة ، أعطت لكل منهما بنيته الخاصة المتمايزة عن غيره.

نعرف أن بعض الباحثين حاول النظر في فوارق بيولوجية بين الأعراق والاقوام ، تؤثر على حجم الدماغ وطريقة عمله. بل ان بعض قدامى الكتاب المسلمين اعتقد ان المناخ ، ولاسيما مدة الليل والنهار ودرجة الحرارة ، يؤثر هو الآخر على القابليات العقلية. ومن هذا القبيل ما ذكره أبو الحسن المسعودي في "التنبيه والاشراف" من ان أفهام الاوروبيين بليدة ، بسبب شدة البرد عندهم ، فكلما اتجهنا شمالا ، حيث البرد اشد ، وجدنا سكانه أكثر غباء وجفوة. وأرى ان قول المسعودي – ومثله ابن خلدون واخرون – منقول عن آخرين ، او هو كلام سائر في المجتمع ، وليس نتاج ملاحظة مباشرة او دراسة ميدانية.

وعلى أي حال فهذه التقديرات لم تثبت ابدا ، رغم انها كانت تبرز بين حين وآخر ، ولا سيما في ظروف الأزمة. ولهذا فليست ذات شأن او تأثير. اما الرأي المرجح في الوسط العلمي ، فهو الأول الذي ينسب تشكل الذهنية الخاصة للمجتمع ، أي ما يسمى "العقل الجمعي" ، الى التجربة التاريخية لهذا المجتمع. وهذا أيضا سبب التمايز بين المجتمعات التي تتفق في الذهنية العامة ، لكنها تختلف في بعض التفاصيل ، مثل اختلاف المجتمعات العربية في طرق العيش والتعبير عن الذات ، رغم انها جميعا تتفق في الخطوط العامة للثقافة والتفكير ومعايير السلوك.

تحدث الجابري عن ثلاثة اركان ساهمت في صنع العقل العربي ، هي العقيدة والقبيلة والغنيمة. وأريد التركيز في هذه السطور على الركن الثاني (القبيلة) الذي يرمز لمعنى يتجاوز وصف القبيلة السائد اليوم ، فهو يشير ، في الجوهر ، الى معنى الجماعة المترابطة ، ذات الهيكلية الهرمية / الأبوية ، التي يشد أجزاءها تصور عن الذات المشتركة والتاريخ المشترك ، وليس بالضرورة عن التوافق الفكري او الأهداف ، انها اذن أقرب الى نظام بيولوجي (عائلات متحدة) وليس شرائح او اطيافا متوافقة.

النظر من هذه الزاوية ، ربما يسهل فهم السر وراء صرف معنى "العقل" عند علماء اللغة العرب ، الى الربط والعقد ، وليس التفكيك وإعادة التركيب ، كما هو المتبادر من معنى التفكير. وهي – إضافة لذلك – تكشف عن سبب الحساسية الشديدة التي تظهرها الذهنية العربية إزاء مخالفة التيار العام أو التمرد على التوافقات الاجتماعية. بعبارة أخرى فان هذه الذهنية مشغولة ، في المقام الأول ، بالمحافظة على الوحدة والانسجام ، وليس بصناعة الفكرة الجديدة ، التي ينبغي ان تنطوي – بالضرورة – على تعارض مع السائد والمتعارف.

الجماعة والمحافظة على وجودها ، هو محور التفكير العربي في الذات. الذات هنا لا تتجلى الا بوصفها ذاتا جمعية. وبهذا المضمون فان الرابطة التي تجمع أعضاءها الى بعضهم ، تشكلت في الماضي ، وهم حريصون على عدم مساءلتها او تحديها ، لأنهم بهذا يهددون وحدتهم والرابطة التي تجمع بينهم. من هنا نعرف لماذا لا يتقبل المجتمع العربي الأفراد المستقلين والأفكار المعارضة للقيم السائدة والموروثة ، ولماذا يتهم الذين يخالفون اعراف المجتمع وقناعاته ، بأنهم معقدون او مرضى نفسيون او عملاء للأجانب او ساعون للشهرة ، ولماذا يتقبل عامة الناس هذه الاتهامات ولا يستنكرونها ، رغم انها قد تطالهم بالسوء إذا تجرأوا على الاختلاف.

- حسنا.. هل هذا امر طيب ام سيء؟

اظن ان الجواب يبدأ بتحديد الأولويات ، أي ما الذي نريده أولا: وحدة الجماعة وراحة بالها ، ام استنهاض العقول وتجديد الفكر والحياة. ربما نقول ان لكل من الخيارين زمنه ، لكن المؤكد ان جمعهما مستحيل. اختيار العقل يعني اختيار الفرقة ، واختيار الوحدة يعني تقبل الجمود.

الخميس - 02 رَجب 1446 هـ - 2 يناير 2025 م

https://aawsat.com/node/5097210

 مقالات ذات صلة

اصلاح العقل الجمعي

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

أين تضع المرحوم محمد عابد الجابري

بقية من ظلال الماضين

تعقيب على استاذنا البليهي

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة كصنعة حكومية

حول البيئة المحفزة للابتكار

عقل الصبيان

العقل المساير والعقل المتمرد

لماذا يرفضون دور العقل؟

مشكلة الثقافة الدولتية

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من المناكفة الى النهضة

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟

اليد الخفية التي تدير العالم 

12/12/2024

العقل العملي

 وفقا لشروحات اندريه لالاند ، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي ، فان "العقل المُنشأ" بضم الميم ، هو خلاصة الحكمة والتجربة الاجتماعية ، وهذا ما يسميه الناس عقلا. لفهم الفكرة ، تأمل في مغزى إشارات الناس حين يقولون "فلان عاقل" او يتحدثون عن "كلام عاقل" او "تصرف عقلاني" وأمثالها.

مغزى هذا الكلام ان الناس يشيرون الى رضاهم عن الشخص او فعله او قوله. لكن متى يرضى الناس عن شخص .. اليس حين يفعل شيئا يجاري فعلهم او يقول مثل كلامهم ، في محتواه او شكله ، او حين يلبس مثل لبسهم او يأكل مثل أكلهم.. الخ.

لتعرف الفرق .. افترض ان شخصا لبس بنطلون جينز ممزق ، كالذي يشيع لبسه بين الشباب اليوم ، وذهب لمقابلة وزير او مدير كبير ، فهل تتخيل ان الأشخاص المسؤولين عن إدخاله وترتيب مقابلته ، سيسمحون له بالدخول؟. لماذا لا يعتبرون الامر طبيعيا ، ويقولون ان اللباس لا يدل على صاحبه؟. الجواب ببساطة انهم سيعتبرونه غير عقلاني ، لأنه لا يلتزم بأعرافهم ، أي لا يشبههم. بل يبدو شاذا وغريبا. وربما يقولون انه "غير لائق". لماذا يا ترى اعتبروه غير لائق ، غير لائق بمن يلبسه او بهم ، او بالثقافة التي ينتمون اليها؟.

حسنا.. ماذا عنك؟.

لو كنت مدعوا للقاء شخصية رفيعة ، بل حتى لمقابلة وظيفية ، هل ستلبس الجينز الممزق ، ام ستختار اللباس المتعارف في البلد... ما الذي يدعوك لهذا الاختيار وليس ذاك؟.

مسايرة الجماعة هي ابرز وظائف "العقل العملي". والعقل العملي ابرز تجسيدات "العقل المُنشأ". وفقا لرؤية اندريه لالاند ، فان الجانب الأعظم من عمل العقل ، مكرس لترسيخ علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي ، وذلك باستلهام الثقافة والتجربة الاجتماعية ، وتحويلها الى قواعد سلوكية يتبعها الفرد بشكل عفوي. وعلى هذا الأساس يتحول الفرد الى "عضو" مندمج في البيئة الاجتماعية. ومن الامثلة على هذا الأشخاص الذين يهاجرون الى بلد اجنبي ، فيجتهدون في تعلم لغته ، وتقليد لهجة سكانه ، حتى يصبحوا مثلهم تماما ، لأن الانسان – بطبعه – لا يحب ان يفرز عن الجماعة ، او يعامل كشخص مختلف او غريب.

لعل الشرح السابق يجيب أيضا على السؤال المتداول: لماذا يلتزم قومنا بالطابور ونظام المرور ونظافة الحدائق ، حين يسافرون الى البلدان الأجنبية ، ولا يفعلون مثل ذلك حين يكونون في بلدهم. تتعلق المسألة بفهم توقعات الآخرين ، وتقديم الانسان نفسه لهم على نحو يتماشى مع تلك التوقعات.

لعلنا نلاحظ هذا المسار بوضوح في حالة المهاجرين الى مجتمعات أجنبية. لكنه يحصل – وان لم تلاحظه – في مجتمعك الخاص أيضا. أنا وأنت نعمل دون كلل لاقناع المجتمع المحيط بنا ، بأننا مؤهلون لعضويته ، كما نتجنب كل فعل يؤدي الى انفصالنا عنه او استبعادنا منه.

كرس اندريه لالاند معظم نقاشه عن "العقل المُنشأ" لتأكيد ان وظيفته المحورية ليست صناعة الأفكار الجديدة ، بل التواصل مع المحيط الاجتماعي بما فيه من بشر وأفكار وتوقعات. ينجز العقل هذه المهمة باستلهام الثقافة السائدة ، ثم إعادة انتاجها على نحو يتقبله المحيط كدليل على كفاءة صاحبه. تبدأ هذه الممارسة في وقت مبكر نسبيا ، لكنها تتصاعد عند نهايات مرحلة المراهقة وبداية الرجولة ، ولا سيما في سن العمل.

تفاعلات العقل في هذه المرحلة ، تسهم في انشاء ما نسميه "العرف العام" او "عرف العقلاء". ويشير مفهوم "العرف" الى المتوسط العام لمواقف الجمهور ، تجاه كل قضية من القضايا التي تبرز على مسرح الحياة اليومية. ولمن لا يعرف أهمية العرف ، فهو الوسيلة التي تفسر وفقها تطبيقات القانون العام واحكام الشريعة. ولتفسيراته – في غالب الأحيان – قوة القانون. وقد اتخذ في الثقافة الغربية أساسا لتحديد ما يعتبر حقا او باطلا.

هذا ببساطة هو "العقل المُنشأ" بضم الميم ، وهو يطابق – في رأيي – "العقل العملي" وفق التسمية القديمة.

الشرق الأوسط الخميس - 11 جمادى الآخرة 1446 هـ - 12 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5090798

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

13/06/2024

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

"الهندسة الثقافية" ليست مفهوما معياريا في الدراسات الاجتماعية ، كما قد يبدو لأول وهلة. انه مفهوم حديث الظهور نوعا ما. ولذا فهو غير شائع بين الباحثين في هذا الحقل. لا بد من القول أيضا ان المصطلح ليس مجرد وصف لحالة او مسار عمل ، بل ينطوي على ايحاءات محددة ، هي – بوجه من الوجوه – حكم على غاياته. ولذا لا يمكن اعتباره محايدا او موضوعيا ، كما قد يود المغرمون بالتعريفات والتدقيق في المصطلحات. الذين يتحدثون عن الهندسة الثقافية ، يريدون القول – غالبا – ان هناك من يسعى للتحكم في عقول الناس ، باستعمال هذه الوسيلة.

ان أردنا شرح فكرة "الهندسة الثقافية" فهي تشير الى جهد مخطط ، هدفه تغيير الثقافة العامة لمجتمع ما ، او على الاقل احداث تغيير كبير فيها. ونعرف ان تغيير الثقافة يؤدي ، عادة ، الى تغيير هوية المجتمع او شخصيته او طريقته في التفكير او مواقفه تجاه الحوادث والتحولات.

كثيرا ما يخلط الكتاب بين "الهندسة الثقافية" وبين الدعاية التجارية او السياسية ، التي تؤدي – هي الاخرى – الى تغيير في سلوكيات المجتمع المستهدف. وأذكر في هذا الصدد ما نقله أحد الكتاب عن رئيس شركة البسكويت الوطنية الامريكية (نابيسكو) واظنها اضخم شركات الاغذية الخفيفة في العالم ، الذي قال ان الخطط الدعائية للشركة تستهدف صنع مفهوم عن الحياة الحديثة ، يحول منتجات نابيسكو الى رمز للرفاهية والسعادة: "نحن نصنع المفاهيم وليس فقط البسكويت".

أراد الكاتب من وراء هذا الاستشهاد ، التأكيد على ان الدعاية التجارية تعيد تشكيل الوعي الجمعي والثقافة العامة. لكن يبدو لي ان هذا النوع من الدعاية يبقى محدودا وسطحيا أيضا. فالذين يحبون البسكويت والذين يحبون المشروبات الغازية والذين يرتدون أزياء معينة ،  يشعرون بالسعادة ربما ، لكنهم سيتخلون عنها لو اضطروا للاختيار بينها وبين وجبة الغذاء مثلا. الدعاية تركز على توجيه الخيارات ، لكنها لا تذهب اعمق من هذا.

أما الهندسة الثقافية فهي تستهدف تغيير الثقافة العامة ، او ما نسميه العقل الجمعي ، من خلال احداث تغيير عميق في القيم الاساسية التي يقيم عليها الافراد مبادراتهم و مواقفهم العفوية تجاه الآخرين. هذا التغيير ينعكس على شكل انقلاب في خيارات الفرد ، التي سوف تتحدد – منذ الآن - على ضوء منظومة القيم الاساسية  الجديدة ، في تحديد ما يوضع للمقارنة والمعايير التي تحكم التفاضل بين الخيارات.

لا شك ان الحكومات هي الاقدر على هندسة الثقافة العامة واعادة تشكيلها. ذلك انها تمتلك بعض أهم القنوات المؤثرة في هذا العمل ، وهي السوق ، الاعلام ، والتعليم ، ودور العبادة. كما انها تملك المال والوقت. ويلعب الوقت دورا حاسما في الهندسة الثقافية. فتغيير العقول يتطلب وقتا طويلا جدا. واحتمل ان كافة الحكومات تقوم بهذا العمل ، في مرحلة من المراحل. بل حتى الحكومات الليبرالية في غرب اوربا تهتم بها ، وهي تضعها تحت عناوين مقبولة نظير "الاندماج الوطني" وتطوير الاعراف العامة مثلا. وقد جرى التركيز على هذه المسألة بعد تفاقم مشكلة الهجرة الى أوربا. ونعرف على سبيل المثال ان التعليم في المرحلة الابتدائية ، بات يركز بدرجة اكبر على ترسيخ النموذج الثقافي الوطني ، الذي يمتد من تأكيد مفهوم المواطنة والحقوق المدنية ، الى سيادة القانون واستناده للارادة العامة التي لا يمكن معارضتها ، مرورا بنمط التغذية والعمل .. الخ. ولعل القراء الاعزاء يذكرون قرار الحكومة الفرنسية بمنع الرموز الدينية في المدارس العامة ودوائر الدولة ، وهو جزء من التطبيق الفرنسي لمفهوم العلمانية الصلب ، الذي يشمل ابعاد المظهر الديني بشكل حازم عن مصادر قوة الدولة. لكنه يطرح هناك في إطار مفهوم الاندماج الاجتماعي وتوحيد العرف العام.

الخميس - 07 ذو الحِجّة 1445 هـ - 13 يونيو 2024 م

https://aawsat.com/node/5030385

مقالات ذات صلة

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

العرف العام وبناء العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

21/09/2023

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

 

جوهر المسألة التي حاولت ايضاحها في الأسبوعين الماضيين ، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم ، لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكي لا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي ، يهمني الاشارة الى انه ليس صفة سيئة. انه اقرب الى معنى العرف العام ، اي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما ، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول ان هذا المجتمع بسيط او متحفظ ، وان المجتمع الثاني كريم او بخيل ، والثالث نشط وسريع الاستجابة.. الخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع او ذاك ، لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

داريوش شايغان (1935 - 2018)

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة ، اي مصادر الانتاج ووسائله ، وقابليتها للتجدد والتطوير ، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع. نعلم ان غالب المجتمعات العربية ، في وضع أقل من المطلوب. لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جدا ، في مختلف المجالات ، في انتاج العلم والتقنية وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة ، الى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا الى العنصر الاول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم ، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. ان النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية ، ومن سار على اثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا ، لأننا في امس الحاجة الى علاج ما اعتبره عقدة تفسد نفوسنا: وهي العقدة المتمثلة في اعلان الكراهية للغرب وادعاء العداوة له ، رغم ميلنا الصريح او الضمني لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على ارضية الدين كما يتخيل كثيرون ، بل "استعملت" عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. ان الشتيمة الايديولوجية والشتيمة السياسية للغرب ، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش ، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك "النفس المبتورة" حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام الى ركب منتجي العلم ، ولن نقيم اقتصادا قادرا على الصمود في وجه الأزمات ، الا اذا اجتهدنا في تنسيج اصول العلم والادارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الاصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جديا مع الكثير من قناعاتنا واعرافنا الموروثة. فاذا بقينا على "وهم" ان تبني فلسفة الحياة الجديدة ، مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي ، فلن نخرج أبدا من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد عن 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام ، مهما كان الثمن.

اما العنصر الثاني فهو اعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بان بعض الناس سيعترض قائلا: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟. وجوابي لهم: ان الدين الذي يفهم كمزاحم للعلم او معارض له ، لا يصلح لقيادة الحياة ، ولا يمكن ان يكون دين الله ، بل هو نسخة اخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم ، ولا يحتل مكانه في ادارة الحياة وتسييرها. للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر ، ولا يمكن لأحدهما ان يحتل مكان الثاني. فان اردت ان تعرف من يقود الحياة ، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الاعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم او في سياقه ، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث ، فان اردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال ، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة ، اي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. واعني هنا الحياة العامة ، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب ان شاء الله.

الشرق الاوسط الخميس - 07 ربيع الأول 1445 هـ - 21 سبتمبر 2023 م     https://aawsat.com/node/4559076

مقالات ذات صلة

تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الثقافة المعوقة للنهضة

 حول تطوير الفهم الديني للعالم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

داريوش الذي مضى

عجلة التنمية المتعثرة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

اليوم التالي لزوال الغرب

02/11/2022

العرف العام وبناء العقلاء

ثمة مفاهيم تبدو للوهلة الأولى في غاية البساطة. لكنها تنكشف عن تعقيد غير متوقع ، حين توضع امام نقائضها ونظائرها. تحدثت في الأسبوع الماضي عن "العقل الجمعي" محاولا تمييزه عن مفهوم الحشد او ذهنية القطيع/سلوك القطيع. وكان الداعي لهذا التمييز ، هو الخلط المتكرر بين المفهومين ، حتى من جانب كتاب وخطباء ، يفترض فيهم تجنب الخلط بين المفاهيم ، سيما حين يؤدي الى تعقيد ثقافي او أخلاقي غير مستحب.

من ذلك مثلا ظن بعض الناس ان "العقل الجمعي" مساو لتلاشي شخصية الفرد وضياع العقلانية. وهذا ظن لا يخلو من مبالغة. لكن ما يهمني في هذا المقام هو مراجعة اصل الفكرة ، أي مفهوم الجماعة ، حيث بدا لي أنه يستعمل على وجهين متعارضين: في بعض الأحيان تذكر الجماعة باعتبارها موضع الحق والوحدة والطريق الوسط ، أي انها معاكسة لحالة الخروج عن الجادة (الباطل) والتنازع والتطرف. وفي أحيان أخرى تذكر الجماعة كقرين للجمود والتأخر والارتهان للماضي (أي ما يجب التمرد عليه).

بعبارة أخرى فان الثقافة العربية الحديثة ، تنطوي على التباس في مفهوم الجماعة وعلاقة الفرد بها ، وكذا الدور الحياتي والوظيفة المفهومية التي يشغلها كل منهما في النظام الاجتماعي.

بيان ذلك: ان ثقافتنا الموروثة – مثل سائر الثقافات القديمة – تميل لإعلاء مكانة الجماعة. وهو ميل عززه تأكيد الفكر الديني على الوحدة والانسجام ، وتصوير الجماعة كنظام عضوي ، له دور محوري في التجربة الدينية. ان تحليل السياقات التي استعمل فيها مفهوم الجماعة في النصوص التراثية ، يحمل على الاعتقاد بان المفهوم يشير في غالب الأحوال الى ما نسميه الآن "التيار العام" أي الأكثرية العددية المعلنة (اود التأكيد على وصف المعلنة ، لتمييزها عن الأكثرية العددية الحقيقية ، حيث انها غير متحققة ، لكونها صامتة او مهملة او مقهورة ، كما هو حال المسلمين الجدد والنساء اللاتي لم يكن رايهن معتبرا ضمن حساب الأكثرية والاقلية).

اخذا بعين الاعتبار هذا التمهيد ، أود الإشارة أيضا الى ان المقارنة بين الأكثرية والأقلية ، ليس اصيلا في ثقافة المسلمين. لم يكن ثمة ما يطلق عليه أقلية. ولذا لم يكن ثمة أكثرية أيضا. لقد جرى التعبير عن الكثرة والقلة بوصفين: الجماعة والخارج عن الجماعة ، الذي يطلق عليه أحيانا الشاذ ، بمعنى المتمرد. وفي هذا السياق اشتهر الحديث المنسوب للنبي "عليكم بالجماعة ، فان يد الله على الجماعة". وزاد عليها بعض الرواة "ومن شذ شذ في النار". والظاهر انها ليست جزء من الحديث.

هذا التحليل يضع راي الجماعة في موقع "العرف العام". اني أحاول هنا تقريب العرف العام/راي الجماعة الى ما يسميه الفقهاء "بناء العقلاء/عرف العقلاء" ، أي احكام العقل ، أو القيم التي تلقى على الافعال من جانب عقلاء العالم ، أيا كانت اديانهم وازمانهم.

أرى هذا التقريب/التعريف ضروريا لجعل الثقافة العربية والإسلامية تتقبل المشترك الإنساني ، أي ما توافق عليه عقلاء البشر ، وتضيفه الى نسيجها الخاص كي يمسي جزء منها ، حتى لو كان في الأصل منسوبا الى ثقافات الأمم الأخرى. لابد من الإشارة هنا الى ان حديثنا كله يتعلق باطار العمل والقيم الاجتماعية التي تنظم العلاقة بين الناس. اما مجال العلم فبعيد عن هذا كله. ان الرأي العلمي للفرد والجماعة سواء ، لا يعلو احدهما الاخر ولا يلغيه. وقد اشرت في مقالات أخرى الى ان مفهوم الاجماع وتقديم رأي الجماعة ، يستهدف وضع قاعدة لعلاج الاختلاف في الراي المتعلق بقيمة عمل ما ، ولا يستهدف الموازنة بين الأدلة العلمية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 02 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16045]

https://aawsat.com/node/3964226

مقالات ذات صلة

 

بماذا ننصح أينشتاين؟

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التعصب كمنتج اجتماعي

الخوف من التغيير

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

26/10/2022

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

لم اجد موقفا فارغا لسيارتي في ذلك المساء الشديد الرطوبة ، فأوقفتها أمام متجر كبير ، وجدت موقفه فارغا تماما. هرع البواب الي وهو يشير الى لوحة (الموقف مخصص لزبائن المعرض). ابتسمت له ودخلت المتجر. وجدت مديره على مكتب قرب الباب. اخبرته انني استأذنه لايقاف سيارتي امام محله. لكني اريد -أيضا – تقديم نصيحة. ابتسم المدير بمكر  ، فحدثته عن فكرة "العقل الجمعي" ، وخلاصتها ان من مصلحته دعوة السائقين لايقاف سياراتهم امام متجره ، حتى لو كانوا زبائن للمتاجر المجاورة ، لأن الناس اذا رأوا السيارات متزاحمة امام محله ، فسيظنون ان لديه ما يستحق المسارعة بالشراء ، ربما جودة البضاعة او الخدمة ، وسيأتيه الكثير من وراء هذا الوهم. أما اذا رأوا موقف السيارات فارغا ، فسيتخذونه دليلا على ان "البضاعة قديمة" او ان "الأسعار عالية" او أي سبب يبرر الاعراض عن الشراء منه.

ثمة مئات من التجارب القديمة والجديدة ، تؤكد ان الناس يميلون لفعل أشياء بعينها ، لأنهم رأوا أناسا كثيرين يفعلونها قبلهم. ولهذا فمن الأفضل للتاجر ان يعمل على خلق هذا الإيحاء ، ولو بمثل اتاحة موقف سياراته لكل عابر.

وقد لاحظت خلطا متكررا بين مفهوم "العقل الجمعي" ومفهوم قريب منه ، يسمى "سلوك القطيع". ينسب المصطلح الأول الى اثنين من العلماء الفرنسيين ، هما غابرييل دي تارد (1843-1904) وغوستاف لوبون (1841-1931). ولعل بعض القراء الأعزاء قد اطلع على كتاب لوبون "سيكولوجية الجماهير" ، وهو للمناسبة كتاب شهير ، تكررت طباعته في اللغة العربية ، لكنه فقد الكثير من مكانته في الوسط العلمي.

اما مصطلح "سلوك القطيع" فلا اعرف من صاغه. لكن الفكرة ذاتها ، ظهرت في رواية للكاتب والاسقف الفرنسي فرانسوا رابليه ، نشرت حوالي العام 1564. ويصف الكاتب نزاعا على ظهر سفينة ، بين بطل الرواية "بانورج" وتاجر أغنام شرس الطباع ، كان يسافر على متن السفينة نفسها ، مع قطيع من أغنامه. يقول الراوي ان بانورج اشترى اكبر الخراف حجما بسعر عال ، افرح قلب التاجر. لكنه في لحظة غيظ ، وقف امام قطيع الاغنام ثم دفع الخروف الى البحر ، وتنحى جانبا. وخلال لحظات ، تحرك خروف آخر الى حافة السفينة وألقى بنفسه في البحر ، وتبعه ثالث ورابع ، وهكذا فعل جميع الخراف.

بعد ثلاثة قرون ، تحدث علماء عن السلوك الجمعي للحشود ، حيث يحتجب العقل ، وينساق الافراد وراء بعضهم دون تفكير او تساؤل عما اذا كان ثمة هدف يستحق العناء ، او ربما مخاطرة تستحق ان يحسب حسابها قبل مواصلة السير.

أسلفت القول ان كثيرا من الناس يخلطون بين "سلوك القطيع" وبين "العقل الجمعي" أو "عقل الجماعة" كما اسماه لوبون. ان سلوك القطيع ينم عن حراك ميكانيكي نوعا ما ، يبرز فيه الجهد البدني ، بينما يضعف الجهد الذهني ، حتى يصبح الانسان أشبه بقارب يتقاذفه الموج ، دون أن يبذل أدنى محاولة لاستعادة السيطرة على حركته ومسار حياته.

اما في حالة "العقل الجمعي" فنحن نشير غالبا الى فعل إرادي للتماثل مع الجماعة. وهذا يشمل حتى تلك الأفعال التي يظنها المرء خاطئة ، او غير ضرورية ، او غير عقلانية. لكنه – مع ذلك – يمارسها ، كي لا يصنف خارج الخط العام. لعل الأزياء الشخصية هي أبرز  الأمثلة على هذا المسلك. فقد لا يكون الانسان مقتنعا بلبس الثوب الأبيض او الغترة والعقال مثلا ، لكنه يلتزم بلبسها ، تحاشيا للتمايز عن الجماعة.

هذا مثال بسيط ، اخترته لانه واضح جدا. لكن ثمة أمثلة بالمئات ، نستطيع رؤيتها في حياتنا وحياة الاخرين ، من طريقة الكلام الى الاكل وطرق التعامل مع الغير ، فضلا عن تفصيلات المظهر الشخصي ، وحتى اختيار نوع الثقافة والمهنة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 1 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 26 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16038]

https://aawsat.com/node/3951636

مقالات ذات صلة

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...