ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ،
التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.
السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.
أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس
، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل
مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين.
وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في
الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن
العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية
الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد
اخترع فعلا".
الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي
هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى
العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث
الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على
حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل
اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء
حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح
بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة
أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من
الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف
الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة
المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان
العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من
أساطير.
عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار
في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة
يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ،
فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر
الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة
، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى
الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.
لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف
قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.
الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]
https://aawsat.com/node/3925741
مقالات ذات صلة
ابتكار المستقبل
اختيار التقدم
الأمل الآن وليس في آخر الطريق
بقية من ظلال الماضين
التقدم اختيار.. ولكن
تلميذ يتعلم وزبون يشتري
التمكين من خلال التعليم
الحداثة تجديد الحياة
خطباء وعلماء وحدادون
ركاب الدرجة السياحية
شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم
فكرة التقدم باختصار
الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب
كيف نتقدم.. سؤال المليون
ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟
المكنسة وما بعدها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق