‏إظهار الرسائل ذات التسميات الملا احمد النراقي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الملا احمد النراقي. إظهار كافة الرسائل

29/09/2021

من معاني التجديد

أنا ممن يدعي ان النهوض الاجتماعي يتطلب تجديدا في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم ان التاثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة ، يستدعي على الدوام جدلا حول تجديد الدين ، وما إذا كان في الاصل ، قابلا للتجديد ام لا ، وما اذا كان التجديد يتناول الأصول ام الفروع ام الأدوات والمظاهر.

ومن هنا فاني ادعو القاريء العزيز الى تقبل نقطتين ، أوجز الأولى في "ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق ثابت في اعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية ، وانتاج نموذج التدين المناسب لزمنه ، دون التزام بما انتجته الاجيال السابقة". اما النقطة الثانية فخلاصتها اننا بحاجة للتمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن ان نسميها دينية ، وهي مجال اشتغال احكام الشريعة ، ودائرة خارج الدين ، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والاخلاقية.

كلا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الاصلاحي. يقول التقليديون بان كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة ، موجود على شكل حكم مفصل او قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد باي دور او تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بان الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة ، او انها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعل بعض القراء الاعزاء قد صادف كتبا تحمل عنوانا مثل "البديل الإسلامي" ، "قال الإسلام قبل ذلك" ، "هذا الدين للقرن الواحد والعشرين".. الخ.

يعتقد أكثر الناس ان هذه حقيقة ثابتة. فاذا قلت لهم ان هذا غير صحيح ، حسبوك تتهم الإسلام بالنقص والعيب ، وجادلوك دفاعا عن الدين ، وليس نقاشا في الفكرة.

وكنت فيما مضى اذهب نفس المذهب. ثم اكتشفت ان بعض العلوم لم تكن موجودة اصلا في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاما لشيء لا يمكن تصوره ، فضلا عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز ، فأجابني بالجواب المعروف ، وهو ان ما لم يرد حكمه في الكتاب والسنة ، فان حكمه يستمد من اقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة ، فلاحظ في لهجتي شيئا من السخرية ، فتمالك نفسه واجاب انها مباحة ، فجادلته بان الاباحة ليست حكما ، لان القول بان الاباحة حكم ، تكلف من غير داع ، ولا طائل تحته ، وان القول الصحيح هو ان لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة ، فان وافقتني ، فان القول بشمولية الشريعة لا يصح.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين ، اولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بان آيات مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" و "ﺗﺒﻴﺎﻧﺎ ﻟﻜﻞ ﺷﻲء" وأمثالها تدل على ان كل شيء في الحياة له حكم في الكتاب او السنة ، حتى ارش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد رد عليه الشيخ احمد النراقي قائلا: ان سياق الايات يدل على ان في الكتاب تبيين لكل شيء يجب بيانه ولا يصح السكوت عنه ، لا انه يبين كل شيء على الاطلاق. والدليل هو ما نراه فعلا من الاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها ، وهي تتزايد يوما بعد يوم. والى هذه الناحية اشار ابو الفتح الشهرستاني في "الملل والنحل" حين قال ان النص محدود والحوادث غير محدودة ، فكيف يستوعب المحدود ما لاحد له ولا حصر؟.

الشرق الاوسط  21 صفَر 1443 هـ - 29 سبتمبر 2021 م

https://aawsat.com/node/3215266/

 

16/01/2013

في كمال الاسلام وشموله


"مقتطف من كتاب الحداثة كحاجة دينية"

قال لي صاحبي: الذين دعوا بتلك الدعوات ، انطلقوا من حمية دينية وحرص على الدين. وهم يقيمون دعواهم على قاعدة ان الدين كامل شامل ، وان كتاب الله سبحانه قد احاط بكل شيء ، وما ترك شيئا الا بينه واوضحه ، قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء – الانعام 38).
قلت لصاحبي: سؤالك هذا يقودنا الى مناقشات كثيرة ، غير ما نحن بصدده. لكني اجيبك على سبيل الاختصار الشديد على فكرة كمال الدين وشموله. فالذي نتفق عليه هو كمال الدين. والكمال وصف للكيف "الكمال يقابل النقص". فلا شك ان الاسلام ليس بناقص.
اما الشمول فهو وصف كمي. ولو افترضنا ان شمول الاسلام منصرف الى معنى ان فيه حكما لكل شأن من شؤون الحياة ، فلا شك ان هذا غير صحيح. اذا لا يطلب منا اسلامنا ان نعود اليه في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة. الا ترى اننا نقوم يوميا بعشرات من الاعمال التي لا نرجع فيها الى الفقيه ، بل الى عقولنا او الى اهل الاختصاص ، كالمهندس والطبيب وغيرهم. فهذه الامور ليست ضمن مجالات اشتغال الدين ، بل هي امور عقلية لا تكليف فيها ولا الزام ، ولا تدخل ضمن دائرة الثواب والعقاب او الواجب والمحرم.
 وبالمناسبة فهذا النقاش ليس جديدا ، فقد تطرق اليه بعض قدامى الفقهاء. وقد احتج بنفس المقولة الشيخ يوسف البحراني (ت-1772م) ، مستدلا بالاية السابقة وبقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين-النحل 89)، ورد عليه الشيخ احمد النراقي (ت-1828م) بان المقصود هو ما يقتضي شأنه ووظيفته بيانه ، لا كل شيء على نحو الاطلاق. فالبديهي ان كثيرا من الامور لم تبين في الكتاب ، سواء الكتاب في معنى القرآن او في معنى الشريعة. وذلك لانها ليست مما هو مطلوب من الكتاب بيانه. كما ان عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص فعدم بيان ما ليس مطلوبا ليس مظنة نقص. بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفا. والتكلف مما يعاب على الكامل [1]. اما حمية اولئك الدعاة وحرصهم على دينهم ، فهي شعور مشكور ودليل على صلاح نيتهم ، ونسأل الله ان يثيبهم عليها. لكن صلاح النية شيء وصلاح العمل شيء اخر. الا ترى ان بعض الاباء يضربون ابناءهم بقصد التهذيب ، فيؤدي ذلك الى كراهية الابناء للاباء. بل الا ترى ان تشدد بعض قومنا في الزام غيرهم بطريقة تدينهم الخاصة ، قد ادى الى نفور هؤلاء من الدين كليا. فهذا وذاك دليل على ان النية الصالحة غير العمل الصالح. وقد كان حديثنا عن العمل وليس عن النية.

وعطفا على حديثنا السابق. اقول ان ذلك التكلف في ربط كل شيء بالاسلام ، قد عمق التفارق بين العلم والهوية الذي اشرنا اليه. كل مسلم في هذا اليوم ، يريد المحافظة على هويته ، ويريد في الوقت نفسه الحصول على العلوم الحديثة التي تطورت عند الغرب. نحن نعلم ان لا سبيل للحصول على العلم سوى بالتعلم من اهله. لكن بالنظر لما قلنا من تفارق ، فقد اصبحنا نعيش حياة مزدوجة: نرغب في ان نكون مثل الغرب في علمه وتقدمه وقوة مجتمعه ، وفي الوقت نفسه نعتبرها غير سليمة وغير مشروعة. وقد ادت هذه الازدواجية ، الى التضحية بجوهر مطلبنا ، اي التعلم واعادة انتاج العلم ، واستبدالها باستهلاك منتجات ذلك العلم. ترى دعاتنا مثلا ، بل جميع قومنا ، يتبارون في استخدام احدث التجهيزات التي انتجها العلم الغربي في كل مجال من مجالات الحياة. لكنهم لا يتوقفون عن شتم الغرب الذي انتج لهم هذه الاشياء.
ولو اقتصر الامر على الشتيمة لهان الامر.  لكن وراء هذا التركيز على التمايز والعداوة يكمن خلط رهيب بين فكرتين مختلفتين تماما: فكرة الاستقلال عن الغرب ، وفكرة الانفصال عنه. وقد كان الجدير بهم ان يركزوا على الاولى. اما الثانية فمستحيلة ، ومآلها تكريس الحاجة الى الغرب ، والبقاء متكلين عليه. 
فكرة الاستقلال تعني بالضبط: السعي للاكتفاء الذاتي في كل مجال ، في العلوم والاقتصاد والثفافة وغيرها. واول هذا السعي هو الانفتاح على الغرب للتعلم منه ، ثم اعادة انتاج ما تعلمناه ضمن اطارنا الثقافي الخاص. فاذا نجحنا في هذا المسعى ، فسوف نكون اندادا للغرب ، قادرين على الاستقلال عنه. ولا يضيرنا يومئذ الاتصال به او التعاون معه ، لان القوي والمكتفي لا يتاثر سلبيا بالتعاون مع منافسيه.
 اما فكرة الانفصال فان تطبيقها الفعلي هو التناكر مع الغرب ، اي الغاء القيمة المعنوية للعلم الذي نحصل عليه منه. ومآل هذا هو كسر السلسلة الطبيعية المفترضة لتطور العلم ، اي الانتقال من التعلم الى اعادة انتاج العلم ، ضمن الاطار الثقافي الخاص. وهذا ما نجده اليوم واقعا يمشى على قدمين. لقد تعلم عشرات الالاف من المسلمين في الغرب. لكن تلك العلوم لا تحصل على التقدير والقيمة التي تليق بها بين قومهم. ولهذا فان الاغلبية الساحقة من هؤلاء المتعلمين ، تكتفي بما تعلمته ولا تسعى الى تطويره ، اي لا تتعامل مع المرحلة الاولى كبداية لسلسلة ، بل هي بالنسبة اليها بداية ونهاية.





[1] قال البحراني بان الاخبار مستفيضة في ان كل حكم مبين في الكتاب والسنة حتى ارش الخدش. يوسف البحراني: الحدائق الناضرة (بيروت 1993) ، دار الاضواء ، ج. 24 ، ص. 382.  وعقد الكليني بابا خاصا عنوانه (باب الرد إلى الكتاب والسنة وانه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس اليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة) انظر الكليني : الكافي 1/113.
وهوّن النراقي من شأن الروايات الواردة بهذا الشأن واصفا اياها باخبار الاحاد ، وقال ان معناها بالتحديد هو ان ما كان فيه حكم ، فقد بين القرآن أو السنة ذلك الحكم ، لا انهما قد بينا الحكم في كل موضوع. احمد النراقي: عوائد الايام ، (قم 1408) ، مكتبة بصيرتي، ص. 123
ومن المحتمل ان راي النراقي كان يستهدف التاكيد على وجود دائرة من الاعمال خارج حدود التكليف ، ضمن الجدل القائم حول تعريف الاباحة وما اذا كانت حكما ام لا ، ومن المتفق عليه ان هناك موضوعات كثيرة لم ترد فيها احكام في القرآن والسنة ، وابرزها الموضوعات التي ظهرت بعد انتهاء عصر النص ، لكن البعض يجادل في ان هذه الموضوعات قابلة للتكييف ضمن احد الاطارات التي تندرج تحت القواعد الشرعية العامة ، واقترح المرحوم الصدر دائرة موضوعية للمستجدات اطلق عليها اسم منطقة الفراغ التشريعي ، وذهب إلى ان كثيرا من احكامها يستنبط استنادا إلى القواعد العامة والترجيح بين المصالح.

31/12/2002

ولاية الفقيه بين التسوية والقطيعة

قراءة نقدية لكتاب توفيق السيف "نظرية السلطة في الفقه الشيعي"

بقلم حسن حابر
لقد قدّر لنا، سابقا، مراجعة غير كتاب تناول النظرية السياسية في الفقه الشيعي، ومنها ما تصدى له باحثون كبار، غير ان ما انفرد فيه الباحث توفيق السيف هو اجادته الاشتغال في اللغة الفقهية والاصولية التي هي لغة اختصاص من جهة، وممارسته المتقنة لأسلوب التحليل الدقيق، حيث كان ينقل الآراء بأمانة ويحللها من موقع حيادي، او هكذا توحي كتابته، ويكاد يصعب على من لا يتابع المعالجة الى النهاية ان يكتشف موقفه الحقيقي، فقد نأى بنفسه عن المعطيات والأحكام ولم تزلّ قدمه في الايديولوجية والمواقف المسبقة، وان كان في الواقع غير بعيد عنها، ونادرا ما يوفق الكاتب في ضبط انفعالاته والتحكم في قناعاته الى آخر البحث حيث يظهرها في اللحظة المناسبة وفي سياق علمي طبيعي.
اشتغل الكاتب على مفهومي نيابة الإمام وولاية الفقيه، فرصد تولد هذين المصطلحين والمناخ السياسي والتاريخي اللذين سمحا في بلورتهما، وكان في كل مرة ينأى بنفسه عن التقويم فيترك القضية لمنطق الاحداث وتفاعل المقولات مع ضرورات المراحل.
في البداية، كانت مسألة الارتباط بين الرئاسة والإمامة من المقولات المفصلية في الفكر السياسي الشيعي، فتمحورت حولها المعالجات في صيغة تقريرية نظرية، لا <<تختلف جوهريا عن البحث في الإمامة>> الذي هو بحث كلامي اساسي وفق المتبنيات الشيعية الاصولية (اصول الدين)، لكن غيبة الإمام الثاني عشر ومسيس الحاجة الى التعامل مع السلطات، قد ساهما في تليين الموقف الاعتقادي الصلب، فبدأت فكرة التعاون تتسلل عبر السياج الحديدي الى داخل المنظومة الكلامية لتنتزع لنفسها حيزا، وان بدا في اول الامر متواضعا، إلا ان الاحداث والتحولات كانت تتكفل في كل مرة في زيادة نصاب هذا الحيز وبالتالي توسعه.

لقد نجح الفقهاء الأوائل في تجسير الهوة بين فكرة ولاية الإمام المعصوم الغائب وبين مستلزمات الحياة العامة عبر مقولة التفويض او الإذن من الإمام، <<باعتبار الإمام مريدا لإقامة العدل والإحسان كليا او جزئيا>> وقد نجحت هذه المقولة في مباشرة سحبها التدريجي لمسألة الإمامة من علم الكلام النسق الاعتقادي غير القابل للنقاش الى الإطار الفقهي، <<الذي يعني بالبحث في الفروع العملية>>. وقد احسن الشيخ المفيد في اختيار المدخل المناسب لهذه النقلة، فبدأ بتقرير وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا ثم <<يخصص من متعلقاتهما ما يستلزم نظر الإمام او إذنه>>.

في هذا الاطار نجح المؤلف في رصد جملة التحولات الاولى التي بدأت مع ابن ابي عقيل، ثم الشيخ المفيد والتي تعززت مع السيد المرتضى والشيخ الطوسى الذين خصوصا الفقهاء الاربعة قصروا ابحاثهم، بما يتعلق بالسلطة، في القضاء، وهو امر لافت <<لأنهم جميعا حصلوا على فرصة للعب دور سياسي او اقتربوا من دوائر القرار>>. وهنا قد اخالف الكاتب في شأن المناخ السياسي والثقافي الذي اشاعه وصول البويهيين (334هج) الى السلطة في بغداد، الذي لم يوله الاهمية التي يستحقها، مع العلم ان جل التأسيسات الاولى للحقول العلمية المختلفة الكلام، الفقه، الاصول ورواية الاحاديث قد تنجزت في العهد البويهي وعلى امتداد القرن الذي استمر فيه نفوذ هؤلاء في بغداد، وهذه مفارقة لافته كان ينبغي على الكاتب التوقف عندها مليا، خصوصا انه لم يهمل البعد التاريخي في تحليل الظواهر والتجديدات.

في المرحلة عينها رصد الكاتب تطورا جوهريا في المقولات باشرها ابو الصلاح الحلبي (373- 447هج) الذي طرح مبدأ جديدا، مضمونه <<ان ولاية القاضي تستمد مشروعيتها من كونه نائبا عن الإمام المعصوم>>. واذا كان ابن البراج الطرابلسي (400- 481هج) قد استبعد امكانية القيام بالعدل في ظل سلطة الغاصب وشرط تولي الولايات بالضرورة والاضطرار الشديدين، فإن هذا الموقف لم يحل دون تنامي الاتجاه الاجتهاي باتجاه المزيد من التفاعل مع الواقع، فالمحقق الحلي (602- 676 هج) قرر، وفي خطوة وسع بها حرية حركة الفقيه، أن للفقيه صفة نائب الإمام بالأصالة والاستقلال، فهو لم يشترط لتلبس هذه الصفة تولي منصباً معيناً، وانما جعل الفقاهة وحدها كافية لحمل صفة نيابة الإمام. ولمزيد من الصلاحيات دعا العلامة الحلي (ت 727هج) الى دفع الحقوق زكاة وخمس الى الفقيه المأمون، مع تعذر ايصالها الى الإمام، لأن الأول (الفقيه) أعرف، برأيه، بمواقع صرفها. وقد شكل هذا الموقف اضافة معتبرة لصلاحيات المجتهد ستعزز مع الزمن موقعه الاجتماعي وتساعد في استقلالية الفقيه المالية الأمر الذي يجنبه ضغوط السلطان وإملاءاته.

اللافت للنظر ان الاجتهاد الشيعي، وبعد أربعة قرون على غيبة الإمام الثاني عشر ، لا يزال بعيداً عن التأسيس لولاية الفقيه السياسية، والحقيقة، كما يلاحظ الكاتب، ان هذه القضية ستبقى على الدوام غير محسومة، لأن الفقهاء واصلوا حتى وقت متأخر تخفظهم على اعتبار ولاية الامام في الشأن السياسي واحدة من موضوعات عمل المجتهدين، في هذا السياق، لا يغرب عن بالنا ان مرحلة ما بعد سقوط البويهيين (455 هج) شهدت تحولات خطيرة حدّت كثيرا من تفاعل الفقيه مع الواقع، خصوصاً بعد وصول السلاجقة الى موقع السلطنة في بغداد، والذي اتسم بتنامي الحس المذهبي وكثرة الفتن، فضلاً عن الاضطرابات الكبرى التي وقعت فيها المنطقة سواء لجهة وصول الصليبيين في أواخر القرن الخامس الهجري أم لجهة مباشرة المغول لغزوهم المدمر الذي دام عقوداً، ولم ينعكس الوضع المضطرب على الاجتهاد الشيعي فحسب، وانما طال كل النتاج العلمي الآخر الذي شهد حالة نكوص غير معهود سابقاً.

استقرار سياسي
بعد العلامة الحلي، وفي ظل استقرار سياسي لا بأس به قياساً على ما سبق، تحولت نيابة الفقيه الى موضوع لنقاش فقهي واسع، ففي القرن العاشر الهجري تبلور تياران فقهيان: واحد يقول بإطلاق نيابة الفقيه وآخر يرى عكس ذلك، وبين الحدين كان ثمة مجال واسع للتفاصيل.

شكّل قيام الدولة الصفوية (907هج) منعطفاً كبيراً في النتاج الفقهي السياسي وهو امر طبيعي تمليه حاجات الدولة واضطرار الفقيه، الذي أقحم في الميدان، لتقديم اجابات وحلول لمعضلات مستجدة، وقد رشح هذا الانعطاف من أبحاث المحقق الكركي (ت 940هج) الذي كان قريباً من مواقع القرار، وكذلك من آراء المقدس الاردبيلي (ت 993هج)، ومع غياب أي أشارة اجتهادية من المحقق تعزز موقع الفقيه زيادة على المتعارف، إلا ان مبادرته الى اعطاء اذن بالحكم للشاه طهماسب يُعدّ، في الاطار العلمي، تطوراً في دور الفقيه سيتعزز لاحقاً على المستوى النظري.

في العهد القاجاري، خطا الشيخ جعفر الجناجي (كاشف الغطاء 1154- 1228 هج) خطوة كبيرة في مسألة النيابة حين تحدث عن صيغة جديدة تقوم على حصر الولاية في الشأن العام في المجتهد، يمارسها بنفسه أو بإذن للحاكم الفعلي ان امكن، وإلا أجاز لذوي الشوكة من المؤمنين، تأسيساً على ان الولاية من الضرورات التي لا تترك لفقد واجد الحد الأعلى من شروطها (أي الإمام المعصوم) ولعله أول من قال بأن الأصل <<أن لا سلطات لأحد على أحد>> وبناء عليه حكم بعدم وجوب طاعة السلطان إلا بما تؤدي اليه اعماله من مصالح الناس أو لضرورة حفظ النظام العام حتى لا يسود الهرج والمرج.

هذا التطور البارز عززه احمد النراقي (1185-1244 هج) وهو تلميذ كاشف الغطاء الذي قدم تنظيراً مستقلاً لنيابة الفقيه عن الإمام أعطاها، للمرة الأولى، مسمى ولاية الفقيه، وهو ان قرر اصالة <<لا ولاية لأحد على أحد>> إلا من ولاه الله ورسوله أو أحد أوصياء الرسول، فإنه يخلص الى ان للفقيه ولاية تماثل ولاية رسول الله. واللافت للنظر لدى تتبع موارد ولاية الفقيه عند الزاقي انه يقصرها على الشرعيات (الإفتاء والقضاء) دون العرفيات التي هي مورد السلطة السياسية، مما يعني أن مفهوم ولاية الفقيه المتداولة اليوم لم تكن قد نضجت الى أيام النزاقي.

والكاتب اذ يقرر ان أول من قال بالولاية العامة هو محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) فالبروجردي ثم الإمام الخميني والكلبايكاني، ينتهي الى خلاصة تفيد عدم وجود ملازمة بين الإمامة الدينية والرئاسة السياسية الزمنية، وان الأخيرة الادارة السياسية ليست جزءاً من جوهر الإمامة، ويستشهد بكلام للعلامة شمس الدين مفاده ان الإمامة تتعلق بالمسلمين من حيث كونهم أمة لا من حيث كونهم اجتماعاً سياسياً.

ويختم مؤلفه الثري بتصور جديد لم يبذل فيه جهداً يعتد به يقوم على اعتبار العدل، كقيمة إنسانية ودينية، أساساً مكينا لمشروعية الولاية السياسية، وهذا التأسيس، بنظرنا، وإن كان فيه توسع لناحية تبني القيم الإنسانية، إلا انه في حاجة الى المزيد من النظر والتأمل.
صحيفة السفير 31 ديسمبر 2002
http://www.assafir.com/iso/oldissues/20021231/culture/7.html

الكتاب: نظرية السلطة في الفقه الشيعي (320 صفحة)
المؤلف: توفيق السيف
نشر المركز الثقافي العربي - بيروت 2002

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...