الاجتماع الأخير لمجمع الفقه
الإسلامي الذي عقد في البحرين ، شهد دعوة شبه عامة ، إلى توسيع نطاق الاجتهاد
ومعالجة العقد النظرية ، التي توقف عندها قطار التجديد في الفقه الإسلامي المعاصر .
تطبيق الشريعة الاسلامية هو
المبرر الرئيس والأهم لتجديد الفقه ، فلكي تتحول القواعد العامة والنصوص الاجمالية
، إلى أنطمة تفصيلية تستجيب للتحديات والحاجات ، الناتجة عن تغير ظروف الحياة ،
فلابد من وجود فقه نشط ومتحرك ، يتفاعل مع عصره ومع المجتمع الذي يريد تطبيقه ، ان
مصادر الشريعة محدودة من حيث الحجم ، لكن إذا نظرنا اليها كقواعد ونواظم ، فانها
توفر فرصا لا متناهية لاجتهاد نشط ومتواصل مع العصر .
بديهي ان أي علم يتأثر من
حيث ضيقه أو سعته ، ومن حيث جموده أو حركته ، بالبيئة الاجتماعية التي يشتغل ضمن
إطاراتها ، بكل ما فيها وما يسودها من تيارات فكرية واجتماعية وتطلعات ، ذلك ان
حركة العلم ومن ضمنه علم الفقه ، هي وجه من وجوه الحياة الاجتماعية ملتصق بالبيئة
وظروفها ، فلا يمكن ان يتطور في معزل عن الزاماتها ، كما لا يمكن ان يتخلف دون
حركتها ، ولهذا السبب فان النهوض الذي تبدو تباشيره في افق العالم الاسلامي ، لا
بد ان ينعكس ايجابيا على النشاط العلمي ، والفقهي منه خاصة ، في صورة نهوض يتناول
تجديد مفاهيمه ووسائل عمله ، وعلاقته بالحياة من حوله .
يشتغل علم الفقه في مربع ذي
أربعة زوايا هي :
1-الاصول أي المصادر الاولية التي يؤخذ منها الحكم
الشرعي في موضوع معين
.
2-الموضوعات
وهي موارد تطبيق الاحكام الشرعية .
3- الاحكام
وهي الموقف أو العلاج الشرعي لموضوع معين .
4-الاستنباط
وهو عملية البحث الهادفة لاستخراج الحكم الشرعي من المصادر الاولية ، تمهيدا
لتطبيقه على المورد المطلوب.
ان دعوة التجديد لا تتناول
الاصول لا سيما الكتاب والسنة ، فهي أدلة يحميها اتفاق ، وجزم بقدرتها على توفير
حاجات المجتمع المستجدة من الاحكام ، اذا ما وجدت ادوات استنباط ذات كفاءة ، وثمة
نقاش في تفصيلات تتعلق بالأدلة العقلية ، لكنه نقاش فرعي ، ومتى تم اصلاح
الاستنباط لم يعد لهذا النقاش مكان .
أما الموضوعات فليست محل جدل
في موضوع التجديد ، لأنها ليست ضمن دائرة التصرف من جانب أهل الفقه ، فهي توجد
نتيجة لتطورات خارج نطاق عمل الفقهاء ، وانما تقوم العلاقة بينها وبين الفقه ، بعد
ان توجد وتصبح موضع حاجة للناس .
وعليه فان التجديد المقصود
يتركز بالدرجة الاساسية في الاستنباط ، اي عملية البحث عن الادلة ، وفي التكييف
الفقهي للموضوعات ، أي تحديد النطاق الذي يندرج الموضوع المعين ضمن دائرته .
ويقوم الاستنباط الصحيح على
أربعة أركان :
الاول : المعرفة الدقيقة
للموضوع المطروح ، ثم تكييفه ضمن دائرة محددة .
الثاني : المعرفة التفصيلية
لمصادر الشريعة .
الثالث : استيعاب مقاصد
الشريعة ، أي روح التشريع .
الرابع : اتقان استعمال
الأدوات المنهجية للاستنباط .
وإذا توفرت هذه الاركان
الاربعة في طالب العلم ، فقد استكمل عدته العلمية للاجتهاد ، ويبقى عليه حينئذ ان
يستكمل ما هو مطلوب من المتقين ، من الفضائل النفسية والروحية ، ان كمال تلك
الاركان الاربعة أو نقصها ، يرجع إلى عوامل عديدة ، من بينها نظام التدريس للعلوم
المتصلة بالفقه واعداد الفقهاء ، كما يتصل باعادة التقييم التي ندعو اليها للعلوم
الحديثة ، باعتبارها ذات مدخلية كبرى في تحديد موضوعات الفقه ، كما يؤثر حاصل
خبرتها على نتائج الاستنباط ، فيما لو اخذت بعين الاعتبار .
ويعتبر طالب العلم
مجتهدا أي مالكا لناصية الاستنباط ، اذا
ما اثبت من خلال التجربة ان اجتهاداته صحيحة في مسائل ، يراها استاذه أو من يتابع
اعماله من الفقهاء ذوي الخبرة ، كافية للتدليل على تمتعه بملكة الاستنباط ، وفيما بعد
فان الفقيه يواصل عملية الاجتهاد حتى يكون له رأي في كل مسألة .
لكن بعد هذه المرحلة ، لا
توجد حدود لنطاق عمل الفقيه ، فهو ـ في أغلب الحالات ـ لا يركز على مجال معين ،
حتى يصبح صاحب اختصاص فيه ، كما لا يقبل ـ حسب العرف الجاري ـ رأي أصحاب الاختصاص
في الموضوعات التي هي مجال اختصاصهم ، ماداموا لا ينتمون إلى سلك طلبة العلم
الشرعي ، بل ان التقليد السائد في مدارس العلم الشرعي ، يذهب إلى اعتبار المجتهد
في الفقه ، قادرا على استنباط الاحكام في كل موضوع ، في أي جانب من جوانب الحياة ،
دون تقدير لحدود الاختصاص العلمي في مجالات الحياة المتنوعة .
ومع الاخذ بعين الاعتبار ان
الفقه الاسلامي يعالج مختلف جوانب الحياة ، وان العلم التفصيلي بكل جانب ، يتطلب
جهدا علميا كبيرا ، قد لا يتسع له العمر الطبيعي للانسان ، فقد نحتاج إلى الاقرار
بالحاجة إلى التخصص ، أي ان يتخصص كل فقيه في جانب من جوانب الحياة ، فيتقن العلوم
المتصلة بموضوعاته ، حتى يتأهل للفتوى فيها على وجه الخصوص ، ويترك غيرها من
الموضوعات لغيره ممن هو مختص بها .
عكاظ 22-12-1998