معظم الذين يرفضون الحرية ، يبالغون في تضخيم الاستثناءات ، حتى تنكمش القاعدة او تتلاشى. وعلى العكس من ذلك ، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة ، وأن أي تقييد ينبغي ان يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة ، فلا يتضخم الى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر ، او يجعل الأصل أضعف أثرا من الفرع.
لا بد – على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية ، مثل دعاتها ، ينطلقون من موقف فكري او اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم ، وان لم يقبلها الفريق المقابل.
مهسا اميني (2000-2022) |
وقد أشرت في مقال سابق الى أن الشرائح
المحافظة في مختلف المجتمعات ، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني ، لا
انها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلا ان الماركسية الكلاسيكية اعتبرت
الحرية لعبة بورجوازية ، وأن حاجة
المجتمع الحقيقية ، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم ، حتى تحقيق المساواة
بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعتبر الحرية أداة سخرها أنصار الشيطان
للتغرير بالأجيال الجديدة ، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. واحدث
الأمثلة على هذا ، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد "دوريات الاخلاق" في العاصمة
الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة اجنبية ، بينما كان
المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.
كتبت سابقا انك لن تجد بين السياسيين
والمثقفين او الزعماء الدينيين من يعلن صراحة انه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة ،
هو التركيز على الاستثناءات والحواشي واكثار الكلام فيها ، حتى تتضاءل القاعدة
الاصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية او فوائدها ، ستأتيك عشرات الردود ،
من كل طرف ، حتى ليخيل اليك انها دفاع منسق. الواقع انها ليست منسقة ، لكن
المجتمعات المحافظة جاهزة دائما للتعبير عن رفضها للتغيير وكافة مداخله ومؤدياته ،
بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلا:
أ-
ردود تقول
ان الحرية طيبة ، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة
الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.
ب-
ردود تقول
ان الحرية طيبة ، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع او الدين.
فحوى هذا الموقف اننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة او تدعو لعلاقات اجتماعية
جديدة.
ت-
ردود تركز
على مخاطر الحرية المطلقة ، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام.
فحوى هذا الموقف ان الانسان بطبعه فاسد ، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب ،
وان الحرية تحرره من هذا الخوف.
ث-
ردود تركز
على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية. لا سيما السلوكيات التي يعتبرها عامة الناس نموذجا
لسقوط الأخلاق ، مثل اللباس غير المحتشم ، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد
التي نعرفها ، وتمرد الأبناء على الآباء.. الخ. فحوى هذا الموقف ان الانسان سيخسر
ابناءه لو قبل بمبدأ الحرية.
كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن
نريد الحرية ، لكن الحرية لا تريدنا ، فهي لا تأتي دون ان ترافقها الشرور. الأفضل
إذن التخلي عن هذه المغامرة المجهولة العواقب. هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها
العقل التقليدي ، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة ، ويستولي الشرح على المتن ،
"الاستحواذ على النص الأصلي المشع
، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة" حسب تعبير اخي د. معجب الزهراني.
الشرق الأوسط - الأربعاء - 10 شهر ربيع الأول
1444 هـ - 05 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد
[16017]
https://aawsat.com/node/3912301
مقالات ذات
صلة
تحكيم القانون
وليس التعويل على الاخلاق
جدل الدولة
المدنية ، ام جدل الحرية
الحريات العامة
كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب
الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة
موسعة
الحرية التي
يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون
الحرية المنضبطة
والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...
حقوق الانسان :
قراءة معاصرة لتراث قديم
الخبز الحافي
والحرية المستحيلة
السعادة الجبرية:
البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا
العلاقة الجدلية
بين الحرية ورضا العامة
عن الليبرالية
وتوق الانسان للتحرر: اجابات
كيف يضمن القانون
حرية المواطن ؟
معنى ان تكون حرا
، اراء قديمة وجديدة
من يتحدث حول
الحرية.. وماذا يقول ؟