ثمة
قدر معقول من الحيوية في المشهد الثقافي السعودي ، لكن الطريق الى حياة ثقافية
ناضجة لا زال طويلا. كي نصل الى هذه
الغاية فاننا بحاجة الى طرح قضايا جديدة او قضايا محورية تساعد على شق الطريق امام
مناقشات جديدة. خلال السنوات الثلاث التي مضت دار جدل كثير حول القيم والاعراف
السائدة في المجتمع السعودي وحول مراكز النفوذ الثقافي وعوائق النشاط الثقافي .
وقد اثمرت هذه النقاشات عن فهم مختلف نوعا ما لقواعد التنظيم الاجتماعي والمعايير
الثقافية. لكننا لم نصل بعد الى اقرار نهائي بهذه المعايير. نحن لا نزال في اول
الطريق .
في الاسبوع المنصرم نشر ملحق الرسالة بجريدة
المدينة مناقشة حول حرية التعبير ، لاحظت ان طابعه العام اعتذاري او تبريري.
الحديث عن حرية التفكير وحرية التعبير ينبغي ان يكون تقريريا او تفسيريا. الاتجاه
الاعتذاري او التبريري ينبيء عادة عن قلق من الحرية اكثر مما يشير الى ايمان بها.
ملحق الرسالة يعبر في العادة عن اتجاه ديني معتدل . واظن ان الموقف العام للتيار
الديني من مسألة الحرية موقف مرتبك. التقليديون في هذا التيار يخشون من انهيار
القيم والاعراف اذا قبلوا بالحرية كمبدأ وقيمة عليا ، والمعتدلون يشعرون في داخلهم
بان حرية التفكير والتعبير هي المقدمة الضرورية لتجديد الفكر الديني. وهم يعبرون
عن هذا صراحة احيانا وبين السطور في معظم الاحيان. لكن هذه القناعة لا تزال فيما
يبدو بكرا لم تنضج ولم تصارع الاشكالات. مسألة الحرية ولا سيما حرية التفكير
والتعبير هي مثال على القضايا التي طرقنا سطحها ولم نذهب في النقاش حولها الى
العمق.
اضافة
الى مسالة الحرية ، هناك الكثير من المسائل الحرجة التي يمثل البحث فيها مفتاحا
لتطوير الثقافة العامة. من ذلك مثلا مسألة القانون ، سيادة القانون ، عدالة
القانون ، والمساواة امام القانون. هذه المسالة قد تبدو بعيدة عن هموم معظم
المشتغلين بالثقافة في بلادنا ، رغم انها جوهرية مثل حرية التفكير والتعبير. نحن
نتحدث عن الثقافة العامة في معناها الواسع الذي يتضمن فهم الفرد لنفسه ودوره
وعلاقته بالسلطة والنظام الاجتماعي واعضاء المجتمع ومؤسساته. هي مهمة بصورة خاصة
في مجتمعنا بسبب هيمنة الجانب الشخصي والعلاقات الشخصية على الاعمال والعلاقات.
الشكوى من شيوع الواسطة والمطالبة بتدخل الكبار ونزوع الافراد الى الاستنجاد
بروابطهم القبلية والمناطقية والعائلية ، وتصنيف الناس الى اعداء واصدقاء بحسب
دوائر انتمائهم ومتبنياتهم ، تشير كلها الى غياب فكرة القانون عن اذهان الناس.
القانون ليس سوى المعايير الموحدة لتبادل الحقوق والواجبات بين الافراد والمؤسسات
الاجتماعية ، سواء تلك التي تتمتع بسلطة الامر والنهي او تلك المكرسة للخدمة
العامة . النقاش في القانون لا ينبغي ان يقتصر على الجانب الدعوي المعتاد ، أي
مطالبة الناس بطاعة القانون ، فهذا الامر من البديهيات وهو لا يضيف جديدا. نحتاج
الى مناقشة القانون باعتباره اطارا للحرية الفردية والمساواة في الفرص والواجبات وتنظيم
التعارض بين المصالح.
اتمنى
من كل قلبي ان يبادر الناشطون في التيار الديني الى طرح مثل هذه القضايا على مائدة
النقاش ، طرحا يستهدف تطوير الفكرة واستبيان ما تنطوي عليه من امكانات ومن تحديات
، وليس فقط مجادلتها كعدو او كجسر للعدوان. يهمني جدا ان يبادر هؤلاء ، لانها سوف
تطرح للنقاش اليوم او غدا ، وحين يطرحها غيرهم فقد يجدون انفسهم – بحسب منطق
الصراع – في الطرف المعارض للفكرة . وحينئذ سوف تفوتهم فرصة التامل الواقعي في ما
تنطوي عليه من فرص هائلة. اقول هذا بعدما لاحظت انهم قد وقفوا دهرا ضد فكرة
التحديث والتجديد والعصرنة ، ثم عادوا لتبني بعض جوانبها على خجل.
ليس كل التحديات الثقافية نذر عدوان ، وليس كل
ما يطالب به الاخرون اجندة غزو. للتيار الديني مصلحة اكيدة في ركوب قطار التجديد
لان التجديد هو منطق الزمن. لسنا مخيرين بين التجديد وعدمه ، لكننا مخيرون بين
تجديد سطحي استهلاكي وبين تجديد حقيقي ينال العمق. المسار الثاني يتطلب طرح
القضايا الاساسية ومناقشتها بتعمق ومن دون قلق. حين تنضج حياتنا الثقافية فسوف نجد
كثيرا من الامور ممكنة حتى لو بدت عسيرة او مخيفة في اول الامر.