‏إظهار الرسائل ذات التسميات السياسي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السياسي. إظهار كافة الرسائل

19/02/2009

على الدولة ابقاء الامل في التغيير


 لا يتوجب على الدولة ان تعطي كل فرد ما يريد ، ولا يتوجب عليها ان تضمن الرضى الشخصي لكل مواطن عن اعمالها . لكن يتوجب عليها بالتاكيد ان تبذل الغالي والنفيس كي تحافظ على الامل في التغيير . الامل في التغيير هو الذي يجعل عامة الناس مستعدين للتعاون مع الدولة وراغبين في تحمل مسؤولياتهم كمواطنين مهما كانت ثقيلة او بغيضة. حين يتلاشى الامل ويحل اليأس في نفوس الناس تخرج الدولة من قلوبهم ، وتصبح القلوب جاهزة لتلقي بدائل اخرى ، لان الانسان لا يستطيع العيش من دون انتماء او من دون امل في شيء ولو كان خرافة.
في بعض الحالات يتولد اليأس لان مواطنا فشل في استعادة حقه من خلال الاطارات القانونية. وينتج عن ذلك تلاشي هيبة القانون والدولة ، وتنامي الشعور بان البلاد قد تحولت الى غابة لا يستطيع العيش فيها الا من يأخذ حقه بيديه . حين يشعر الناس بان الامر على هذا النحو سيبحثون عن مصادر قوة خاصة ، فمنهم من يلجأ الى قوة المال ، كأن يدفع رشوة للوصول الى حقه . واذا نجح في ذلك فسوف يدفع رشوة ثانية لاستلاب حق الاخرين.

في حالات اخرى يتولد اليأس لان الدولة لم تف بوعود سابقة للاصلاح . ومع تكرار ذلك او تطاول الفارق الزمني بين اصدار الوعد وبين الوقت المتوقع للوفاء به ، سوف يتبلور شعور بان الدولة تعاني من خلل بنيوي يمنعها من الوفاء بوعودها وان هذا الخلل ليس قابلا للعلاج . وبالتالي فان كل امر آخر يعتمد عليه سيبقى وعدا فارغا او مستحيل التنفيذ.  حين يشعر الناس بان الامر على هذا النحو فسوف يبحثون عن كبش فداء يلقون عليه بالمسؤولية عن العجز او الخلل . بعض الناس يركزون انظارهم على اصحاب القرار وسينظرون اليهم باعتبارهم غير متعاطفين مع مطالب المواطنين وحاجاتهم . او ربما سينظرون اليهم كاشخاص ضعفاء وجدوا انفسهم في مكان لا يستحقه غير الاقوياء.

في حالة ثالثة يتولد اليأس لان الدولة او بعض اجهزتها تمارس تمييزا واضحا وقابلا للملاحظة والاثبات بين الشرائح او الطبقات المختلفة . او حين تتباطأ الدولة في تصحيح الفوارق بين تلك المجموعات ، او تتهاون في منع التمييز الذي ربما تمارسه فئة قوية ضد الفئات الضعيفة .. الخ . ويحدث هذا عادة في الاقطار التي يتألف شعبها من مجتمعات متعددة ذات انتماءات عرقية او ثقافية او طبقية متفاوتة ، او حين يكون في البلاد اقليات لا تستطيع التمثل بصورة مناسبة في جهاز الدولة الاداري والسياسي ، بسبب الحواجز اللغوية او الدينية او المعيشية او العرقية التي تميزها عن الاكثرية.

 في كل هذه الحالات يتبلور الشعور الاقلاوي لدى تلك الشريحة من المواطنين التي تعاني من التمييز . الشعور الاقلاوي – نسبة الى الاقلية – ليس بالضرورة دليلا على ان هذه المجموعة او تلك تقل عن غيرها من حيث العدد ، بل هو حالة ذهنية مصدرها الاساس هو الانفعال بالمحيط ، لكنها تتطور الى حالة ثقافية وسلوكية متعددة الاوجه والمبررات ، قابلة للتمظهر في سلوكيات فردية او جمعية ذات طابع انعزالي او عدواني في العموم.

ربما تكون هذه الحالة هي اخطر الحالات الاجتماعية في الوقت الحاضر ، بالنظر الى الاتجاه السائد في العالم اليوم ، والذي يطلق عليه الباحثون الاجتماعية "انفجار الهوية". وهو تعبير عن اتجاه متعاظم لدى المجموعات البشرية المتمايزة عن غيرها بعرق او ثقافة او انتماء خاص ، الى التعبير المركز ، بل والمتشدد احيانا ، عن ذاتها وخصوصياتها ، والتركيز على الفوارق التي تفصلها عن غيرها . هذه الحالة خطرة جدا لانها قد تغذي يأسا من الوحدة الوطنية ينقلب الى رغبة في الانفصال الاجتماعي وتاكيد على التمثيل الخاص مقابل التعبيرات الوطنية او التمثيل ذي الطابع الوطني .

لكل من الحالات الثلاث مخرجات متفاوتة الخطورة ، لكن ابرز مخرجات الحالة الاولى هو شيوع الفساد المالي والاداري وتطبيعه . وابرز مخرجات الحالة الثانية هو تبلور الاتجاهات العنفية والانشقاقية المتطرفة ، كما ان الحالة الثالثة تنتهي عادة الى تطلع الى الخارج باعتباره مصدرا محتملا للتعاطف والتاييد.

كل هذه المخرجات خطيرة ومخربة ، لكنها جميعا قابلة للعلاج ، ليس بالوعظ والارشاد وليس بالشجب والتنديد ، بل باعادة الامل الى نفوس الناس . ربما يتوقف الامر على مبادرات فعالة او ربما يتوقف على اجراءات ذات قيمة رمزية ، تعيد للناس الامل بان حكومتهم لم تنسهم وانها ليست عاجزة ولا فاشلة.

28/10/2008

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب


حدود الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش 
تأليف: توفيق السيف
الناشر: دار الساقي، بيروت، 2008

أضحت العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية، نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية. ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004، بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في الاقتصاد.

ويقدم الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية- الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً، وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ويعرض الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر. كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ، وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية، والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى فاعليتها في المحافظة على زخمه.

ويهتم المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.

ويرى المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية، تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.

 وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية، ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة في الفكر الديني.

ويعتبر المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد الروحانيين لنصف قرن على الأقل.

وتنطوي هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.

وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية، وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر دينية من أي نظام استبدادي.

جريدة العرب القطرية 2008-10-26

مقالات ذات صلة:

15/05/2004

بعض التمثيل .. قد ينفع

 

عندما اقيم مجلس الشورى السعودي جادل قانونيون بان القاعدة الدستورية التي قام في اطارها لا تعطيه صفة تمثيل الارادة العامة. وجرت العادة بين اعضاء المجلس وسواهم على لفت الانظار الى الكفاءة العلمية التي يتمتع بها الاعضاء. والحق ان الجدل حول هذه الثنائية قديم وقد ورد في نقاشات قدامى الاسلاميين حول صفات اهل الحل والعقد.

تصوير كاريكاتوري لنموذج النظام السياسي الذي اقترحه ديفيد ايستون واطلق عليه اسم موديل المدخلات-المخرجات

يتعلق النقاش بمسألة تندر الاشارة اليها  ، رغم اهميتها ، سيما في ابحاث الفقه الاوربي. تفترض هذه المسألة ان هناك دائما هوة واسعة بين مطالب الجمهور اللا متناهية ، والموارد المتاحة لدى الدولة ، وهي – مهما عظمت - محدودة من حيث الحجم والزمن. ولهذا قال بعض المفكرين – ديفيد ايستون مثلا – بان عمل الحكومة في جوهره ، هو اختيار وجدولة المطالب الشعبية the authoritative allocation of values for a society. وتفترض هذه الفكرة ان مهمة جهاز الدولة ، هي وضع اولويات بالمطالب العامة التي سيجرى تخصيص الموارد اللازمة لتنفيذها ، وتلك التي ستؤجل او تترك.

السؤال اذن: ما هو المعيار المتبع في تقرير هذه الاولويات؟.

- ما نقل الينا من التراث يربط هذا الحق بالعلم ، فالعالم هو صاحب الحق في اختيار المطالب العامة القابلة للتنفيذ او التأجيل. خلافا لهذا فان علم السياسة المعاصر ، يحيل هذا الحق الى الارادة العامة ، فالمطالب التي تحظى بالاولوية ، هي تلك التي تعبر عن رغبة عامة عند اكثرية المواطنين.

في هذا الزمن فان الحاجة الى اعتبار رغبة العامة ، لا تستند فقط الى الاساس النظري – وهو قابل للمجادلة على اي حال - ، بل الى الضرورة الملحة لتحقيق "رضا العامة" التي يوردها قدامى الاسلاميين كواحد من الادلة الكبرى على وجوب الشورى. رضا العامة هو الضمان الاكبر للسلام الاجتماعي وهو الوسيلة التي لا غنى عنها لتمكين الدولة من العمل بصورة سلسة وفعالة في ظل تعاون الجميع وتعاطفهم. ويقدم نموذج التكافؤ بين المطالب والاستجابة ، او الادخال - الاخراج الذي اقترحه ايستون ، تصويرا ذكيا للكيفية التي يمكن للدولة من خلالها تعزيز مشروعيتها حتى في ظروف الازمة. وهو يميل – كما يبدو – الى اعتبار المشروعية المتحققة من خلال هذا التفاعل اكثر فائدة وعلاقة بالسياسة اليومية من تلك المستمدة من القواعد الدستورية المؤسسة للنظام السياسي.

يبدو – حسب التصوير الرسمي على الاقل – ان تاسيس مجلس الشورى على القاعدة الاولى ، اي العلم ، يستهدف التشديد على اعتبار المعيار العلمي اساسا للحق في اختيار المطالب العامة القابلة للتنفيذ. ترى هل يمكن لهذا النوع من الترتيب ان يؤمن رضا العامة ؟. او لنقل : هل ثمة وسيلة لجعل هذا الغرض ، اي رضا العامة ،  قابلا للتحقيق في ظل الترتيبات الحالية للمجلس ؟.

في ظني ان التحرك خطوات نحو فكرة " تمثيل الارادة العامة " قد يكون مفيدا في هذا الجانب. والاقتراح المحدد هنا هو التخلي عن الفكرة القديمة التي تعتبر عضوية المجلس شأن مستقلا عن الانتماء الاجتماعي للعضو. واستبدالها باعتبار كل عضو ممثلا للمكان الجغرافي-الاجتماعي (القرية ، المدينة.. الخ ) الذي ينتمي اليه في الاصل. هذا التمثيل يمكن ان يتحقق عن طريق فتح قنوات تواصل منظمة بين العضو وبين تلك الشريحة من المواطنين لكي يستقبل مطالبهم وشكاواهم ، ويقوم – نيابة عنهم - بايصالها الى الجهات الرسمية او يعرضها في المجلس ، كما يفعل البرلمانيون في دول العالم الاخرى. في هذه الحالة سيكون المجلس بمثابة محامي الشعب اذا صح التعبير. واظن ان مثل هذا الدور سيسهم بدرجة كبيرة في توفير الغرض المشار اليه ، اي تحقيق رضا العامة. وهو الى ذلك خطوة في طريق بلورة الارادة العامة وتجسيدها.

15 مايو 2004

مقالات ذات صلة

 الاساس النظري لدور الامة في الدولة

السلطة باعتبارها وكالة عن المجتمع
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

بعض التمثيل .. قد ينفع

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

مفهوم الحق ومصادره

مكانة العامة في التفكير السياسي الديني: نقد الرؤية الفقهية التقليدية للسلطة والاجتماع السياسي

دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة

الايديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

الايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

نظرية السلطة في الفقه الشيعي: ما بعد ولاية الفقيه (كتاب)

الديمقراطية في بلد مسلم (كتاب)

تنبيه الامة وتنزيه الملة : رسالة فقهية في الحكم الدستوري (كتاب)

 

10/04/2004

تعـزيــز الامــل


يعتذر بعض قومنا عن تباطؤ الحراك السياسي بتجارب الامم الاخرى التي احتاجت عشرات من السنين كي تنزع عنها رداء التقاليد. والفكرة ليست غريبة على اي حال فقانون اصلاح التعليم الذي غير وجه المجتمع البريطاني صدر في اواخر القرن التاسع عشر ، اما الجدل حول البدائل السياسية للنظام التقليدي فيرجع الى القرن السابق. هذا الكلام الذي يبدو متماسكا ، باطل في الجملة والتفصيل.  نتفهم طبعا ان الحال لا يتغير في يومين او ثلاثة ، لكن هذا لا يعني بالضرورة ان الامر يحتاج الى عشرات من السنين .


الكلام السابق باطل في الجملة لانه يطابق بين وضعيتين مختلفتين تماما . فالتغيير في اوربا بدأ فعليا باقرار مباديء للحراك السياسي تحولت الى قاعدة تفاهم بين القوى الاجتماعية والسياسية ، وشكلت من ثم فلسفة عمل مرجعية يستند اليها الجدل حول موضوعات الاصلاح . وبالمقارنة مع الوضع القائم في البلاد العربية ، فالواضح ان مثل هذه المرجعية مفقودة . معظم الناس في السلطة وفي المجتمع يتحدثون عن الاصلاح باعتباره من المسلمات ، لكن طرف السلطة وطرف المجتمع ليسا متفقين على المراد بالاصلاح وحدوده.

ذلك الكلام باطل في التفصيل ايضا ، لان المسار الاصلاحي الذي اتبعته الامم الاوربية كان غير مسبوق ، ولهذا اتسم بالنزعة التجريبية والتعلم من الاخطاء . لكن الاقطار التي اخذت بهذا النهج في وقت لاحق لم تحتج ابدا الى اعادة التجربة ، فقد استفادت من تجارب من سبقها ، وتلك هي الحكمة في النظر الى تجارب البشر باعتبارها مصدرا للحكمة المتجددة. اسبانيا والبرتغال مثلا تحولت من انظمة عسكرية الى ديمقراطيات برلمانية في ظرف ثلاث سنوات فحسب. اما اليابان فقد انتقلت السلطة من الامبراطور الذي كان يعد في تقاليدهم ابنا للالهة ومالكا للارض والرقاب الى برلمان منتخب في ظرف اشهر معدودة . ولم يكن هناك اي تمهيدات ذات شان ، بل جرى التحول بقرار اتخذه الجنرال ماك ارثر قائد القوات الامريكية التي احتلت البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية.

خلاصة القول ان التحول السياسي يتطلب وقتا ، لكنه بالتاكيد ليس عشرات السنين . عناوين التحول ، فلسفته ، اهدافه ، ادواته والقيم الناظمة له ، لم تعد اسرارا ولا الغازا تحتاج الى عباقرة لحلها ، فتجارب العالم مكتوبة بالتفصيل وجرت حولها دراسات وابحاث ، وكشفت نقاط قوتها وضعفها ، ونوقشت نقاط التلاقي والاختلاف بين مختلف التجارب . وهذه كلها اصبحت علما قائما بذاته عنوانه التنمية السياسية او التنمية الشاملة اذا اريد تعميمها على الجوانب غير السياسية ايضا . وبهذا فلم نعد بحاجة الى اعادة اختراع العجلة او تعريف الماء .

يبدو مثل هذا الكلام تحصيل حاصل ، فما الداعي الى قوله اذن ؟

خلال الاشهر القليلة الماضية كانت هناك مبادرات جيدة جدا وكانت هناك اخفاقات للحراك الاصلاحي. وليس من العسير اكتشاف اهمية بعض المبادرات الجديدة على الحياة السياسية في البلاد ، مثل نشر نتائج التحقيق في حريق سجن الحائر وما ترتب عليه من اقالة المسؤولين عنه ، وتشكيل جمعية حقوق الانسان وجمعية الصحفيين . وكانت بموازاة هذا بعض الاخفاقات التي ليس متاحا لنا الحديث عنها وان كانت معروفة للجميع .

الامر الذي يستحق الاهتمام هنا ، هو ان الحراك الاصلاحي الذي تتفق الغالبية على عنوانه العريض ، جسد خلال السنوات الاخيرة املا لشرائح واسعة جدا من المجتمع ، او نقطة ضوء اعادت اليهم الثقة بوجود مستقبل افضل يمكن صناعته من الداخل وبادوات داخلية . هذا الامل بحاجة الى تعزيز وتركيز ، فوق انه بحاجة الى شحن بالمصداقية ، كي لا يقتله توالي الاخفاقات.

من اجل تعزيز الامل ، فاننا بحاجة الى التخلي عن الخطابات الجوفاء حول تجارب الامم التي استغرقت عشرات السنين . لكننا بحاجة في المقام الاول الى تطوير الحراك الاصلاحي من تصريحات صحافية الى جدول زمني محدد لتطبيق الاصلاحات المنشودة. مثل هذا الجدول سوف ينهي الشكوك في جدية التحرك نحو الاصلاح ويحول الامل من عاطفة او رغبة الى هدف عملي مرسوم.

www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/10/Art_92891.XML

20/03/2004

بيدي أم بيد عمرو: تلك هي المسألة



كثير من قومنا منشغل اليوم بالتفكير في "اهلية" الولايات المتحدة الامريكية لفرض مشروعها الخاص بالاصلاح السياسي في الشرق الاوسط. مشروع "الشرق الاوسط الكبير" الامريكي يستهدف اعادة صياغة هذا النظام الاقليمي على نسق متوائم مع منظومة العلاقات الدولية للقرن الواحد والعشرين. والفكرة ليست جديدة تماما ، فقد طرحت في اوائل التسعينات تحت مسمى النظام العالمي الجديد. لكن  اولويات واشنطن مالت منذ عهد الرئيس بوش الاب الى التركيز على المناطق التي اعتبرت اكثر نضجا للتغيير ، ولا سيما في افريقيا  وجنوب شرق اسيا.
الاداة الرئيسية لهذا المشروع هي الادماج الاقتصادي والمواءمة الثقافية والسياسية ، وهي الفكرة التي تمثل جوهر مفهوم العولمة.

والحق ان المشروع الامريكي قد حقق نجاحا يعتد به في المناطق التي جرى التركيز عليها ، وهو ما يكشف عن الامكانية الكبيرة التي ينطوي عليها اذا ما طرح في مناطق اخرى. بالنسبة للشرق الاوسط (في المفهوم الجديد الذي يمتد من افغانستان الى المغرب) فقد  كان الاعتقاد السائد في واشنطن ان حل المسالة الفلسطينية سوف يؤدي الى تسهيل اطلاق المشروع ، لكن فشل الرئيس السابق كلينتون في استنباط الحل المقترح في اللحظة الاخيرة قد ازاح هذه القضية من دائرة الاولويات ، وجاءت احداث الحادي عشر من سبتمبر لتضع اولوية جديدة ، وهي تفكيك البيئة الاجتماعية المنتجة للتطرف الديني.

طبيعة الدور الذي سيلعبه المجتمع الدولي – الولايات المتحدة واوربا خصوصا – في صناعة التغيير كان دائما محل خلاف مع عواصم المنطقة ، وقبل تلك الاحداث كان بين صناع القرار في الولايات المتحدة من يتعاطف مع الفكرة القائلة بعدم فرض تغييرات دراماتيكية ، خشية انكسار النظام السائد في المنطقة وصعود المتطرفين الى السلطة . ويبدو ان واشنطن كانت مقتنعة بالحجة التي سوقها سياسيون من الشرق الاوسط وفحواها ان ضعف هؤلاء سيفتح على العالم ابواب الجحيم .

لكن منذ الحادي عشر من سبتمبر فان الصورة اختلفت دراماتيكيا في العاصمة الامريكية والكثير من عواصم اوربا الغربية ، وساد اعتقاد بان التباطؤ في ادماج الشرق الاوسط في التحرك العالمي المتوائم نحو الديمقراطية واقتصاد السوق ، هو الذي وفر الارضية الملائمة لتبلورالارهاب والتطرف . هذا التغيير في النظرية الامريكية للعلاقات الدولية هو الذي قادها الى تغيير النظام السياسي في كل من افغانستان والعراق بالقوة المسلحة. ومن المرجح ان هذا النجاح سيغري الولايات المتحدة بتكرار تجربة العمليات الجراحية الرامية لفرض تصورها الخاص للمستقبل في اقطار اخرى . ومن هذه الزاوية خصوصا ينظر باحثون غربيون الى مشروع الشرق الاوسط الكبير باعتباره الاعلان غير الرسمي عن السياسة الجديدة التي سوف تتبعها واشنطن في المنطقة خلال السنوات القادمة . الفكرة البسيطة وراء هذه السياسة : هي ان النظام الاجتماعي في هذه المنطقة جزء متكامل مع منظومة الامن الدولي ، ولهذا فان العالم معني بكل قطر من اقطارها ، بشؤونه الداخلية مثل سياساته الخارجية ، وان على المجتمعات المحلية وحكوماتها ان تغير نفسها والا فرض عليها التغيير من الخارج .

بيت القصيد اذن ليس كون الولايات المتحدة مؤهلة ام غير مؤهلة لفرض التغيير. المسألة التي تستحق النظر هي ان هناك مشروعا فعليا للتغيير ، جوهره اعادة تركيب النظام الاجتماعي في كل قطر باتجاه الانسجام مع التحرك العالمي  نحو الليبرالية في الاقتصاد والسياسة ، وهذا المشروع سيظهر للوجود خلال سنوات قليلة ، على ايدي اهل المنطقة او رغما عنهم . ولهذا فان السؤال الذي يستحق التوقف هو : هل سنصلح حالنا بايدينا ، كي ياتي الاصلاح منسجما مع ما نحسبه ثوابت عندنا ، او نتباطأ حتى نجد انفسنا مرغمين على قبول النموذج الذي يتبناه الامريكيون ولا يقيم كبير اعتبار لسلم اولوياتنا ؟. هل نقبل باصلاح سريع لكنه مخطط ومسيطر عليه ام ننتظر حتى يفرض علينا تغيير فوري لا يقيم وزنا لتبعات المغامرة؟.

Okaz ( Saturday 20 March 2004 ) - ISSUE NO 1007

14/02/2004

انهيار الاجماع القديم


يمكن تلخيص مضمون التغيير التي طرا على المجتمع تحت عنوان "ظهور الفرد" . لو تاملنا في المنظومة الثقافية التي سادت مجتمعنا في الماضي ، لوجدنا انها تدور في المجمل حول تكريس مكانة الجماعة وسلطتها ، وتلغي تماما دور الفرد ، وفي المقابل فان الثقافة التي جاءتنا مع الانفتاح على العالم تنظر للامر من الزاوية المعاكسة تماما ، الفرد فيها هو الاساس ، وهو عندها مستقل ومسيطر على مصيره وحر في اختيار انتمائه ومصالحه واسلوب عيشه وعلاقاته.
 شكا الاستاذ عبد العزيز الخضر مما يصفه باختلاط الرؤية تجاه مسألة التجديد ، وهو يرجع جانبا من المشكلة الى الانفصام بين الثقافة والواقع ، والى تزاحم الفقهي والفلسفي في الخطاب الديني . هذه القضية – رغم قلة المنشغلين بها بين الناس – هي لب المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا ، بل والمجتمعات العربية  عامة . ومنذ ستينات القرن الماضي كانت موضوعا للكثير من النظريات و الابحاث التي اهتمت بقضية النمو في العالم الثالث. يمكن اختصار المسألة كلها في ثلاث كلمات : التغيير، الاجماع ، والاستقرار.
الفرضية الاساسية هي ان النشاط الاقتصادي وانتشار التعليم والاعلام والانفتاح على العالم يؤدي الى تغييرات عميقة في النظام الاجتماعي، في القيم الناظمة لسلوك الافراد وفي هيكل العلاقات الاجتماعية وفي المفاهيم المعيارية التي تتحكم في رؤية الفرد لنفسه ومحيطه. ومن بين ابرز ما يتغير هو تصور الفرد لمنظومة السلطة ، سواء سلطة العائلة او سلطة الدين او سلطة الدولة او سلطة المدرسة ، او غيرها من السلطات التي ينظر اليها عادة باعتبارها ذات حق في فرض ارادتها على الجميع.
يؤدي التغيير الى  نوع من توحيد الافكار بين الداخل والخارج ، ونجد ابسط تمثلات هذا الامر في انتشار اللغات الاجنبية - الانكليزية مثلا - في البلاد ، وتماثل اساليب المعيشة والاستهلاك ، والرغبة في السفر والاهتمام بقضايا العالم البعيد .. الخ . هذا التوحيد – وهو ابسط اشكال العولمة – يؤدي في احد وجوهه الى انحسار منظومات القيم ومعايير السلوك المحلية لصالح تلك التي سادت في العالم واصبحت معيارية على المستوى الكوني.

فلنأخذ مثلا فكرة الحرية ، حرية التعبير وحرية السلوك الاجتماعي وحرية الانتماء ..الخ . مفهوم الحرية لم يكن على  الاطلاق جزءا من ثقافتنا القديمة ، ولعل كثيرا من الاباء شعر بالقلق حين تكاثر الكلام حولها ، وقفزت الى اذهانهم مظاهر العجز عن ضبط الاجيال الجديدة التي تريد العيش بحرية غير معتادة . ومثل ذلك يقال عن فكرة المشاركة وتقرير المصير الخ .

بعد اربعين عاما من الانفتاح الواسع على العالم ، فان الفرد المذكور لم يعد واحدا او عشرة او مئة الف خريج جامعي ، بل جيلا باكمله يسيطر اليوم على مفاتيح الحياة على  امتداد المجتمع . سيادة الجيل الجديد ، تعني بالضرورة ان المنظومة الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع لم تعد كذلك اليوم . لكن المشكلة ان هذا التغيير لم يجر على وفق نظام محدد ومخطط سلفا ، لاننا في الاساس لم نعتبره قضية كبرى . والعادة في العالم العربي انهم يخططون لخمس سنوات او عشرا ، لكنهم لا يفكرون في صورة البلاد بعد ثلاثين عاما ولا يدرسون انعكاسات التغيير المقصود وما يتبعه من هزات ارتدادية على المدى الطويل ، ولهذا فان ما نحن بصدده اليوم يبدو للكثير من الناس مفاجأة غير سارة .
اذا اردنا وضع التغيير المذكور تحت عنوان اوسع ، فان افضل وصف له هو "انتهاء الاجماع القديم" . الاجماع الوطني هو الاساس في التوافق بين اطراف المجتمع وهو الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار . على المستوى السياسي ، فان اعادة تكوين الاجماع الوطني هو المهمة الاكثر الحاحا ، ذلك ان الاجماع هو القاعدة التي تقوم عليها مشروعية النظام . اعادة تكوين الاجماع لا تتحقق بالدعوة الى الوحدة والحث على ترك الاختلاف كما يفعل بعض الدعاة والكتاب ، بل بالنظر في الهموم التي ينشغل بها الجيل الجديد من المواطنين والتطلعات التي يسعون الى تحقيقها .
 في ظرف مجتمعنا الحاضر ، فان اعادة انتاج الاجماع القديم في اي صورة ، لن يولد اجماعا جديدا ، بل مزيدا من الانقطاع بين الشرائح الاجتماعية . ويبدو لي ان الخطوة الاولى لتكوين اجماع جديد ، هي الاعتراف بالمجتمع كما هو ، اي بما يتمثل فيه من تيارات ومصالح وتوجهات ، سواء رضينا عنها او أساءتنا . هذه الخطوة ستمهد لاجماع لا يتناقض مع التعدد والتنوع ، اجماع يتيح الفرصة للجميع كي يشعروا بمعنى المواطنة الحقة والشراكة المتساوية في تراب الوطن.


Okaz ( Saturday 14 Feb 2004 ) - ISSUE NO 972

17/01/2001

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات




يمكن لاقطار الخليج العربي ان تكون رائدة للتجديد السياسي على المستوى العربي إذا توافرت الشروط اللازمة لتجديد مجتمعاتها ، وهذا قول ينطوي على كثير من المفارقات ، ومن اهمها ان مجتمعات الخليج ، تعتبر واحدة من اكثر المجتمعات العربية انشدادا إلى التقاليد ، التي تعبر بصورة من الصور عن النظام السياسي القديم  .

لكن على الجانب الآخر فان مجتمعات الخليج تتميز بصفات لا تتوفر في غيرها ، ومن بينها على سبيل المثال الاستقرار الاقتصادي النسبي ، الذي يعتبر حافزا مهما للتجديد السياسي ، بالنظر لما ينتج عن عامل الوفرة الاقتصادية من تبريد لبؤر التوتر وتحفيز لاخلاقيات المساومة والشراكة .
ومن بينها ايضا الارتخاء السياسي العام في المنطقة ، فالخليج لم يشهد توترات شديدة داخلية المصدر خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، وما حصل من مشكلات امنية في اكثر من دولة ، لم يكن من النوع المستعصي على السيطرة أو الطويل الامد ، لقد تركت حرب الخليج الاولى والغزو العراقي للكويت جروحا بليغة ، ومثلتا تهديدا حقيقيا للسلام الاجتماعي والاستقرار ، لكن من الواضح الان ان مجتمعات المنطقة تتعافى من اثارهما ، كما ان الحكومات لم تحول ما جرى إلى فزاعة سياسية ، كما هو معتاد في أقطار عربية أخرى .

وثمة دواع أخرى تؤكد الحاجة إلى التجديد السياسي ، منها مثلا الترابط الوثيق بين اقتصاديات الخليج والسوق الدولية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على طبيعة واساليب التجارة الدولية خلال العقدين الاخيرين ، ولا سيما تفاقم دور قطاع الاعمال الدولي في صناعة السياسة الخارجية ، وانكماش الهوة الفاصلة بين الداخلي والخارجي ، بسبب الاتجاه المتصاعد إلى عولمة الاقتصاد ، فان الانعكاس الطبيعي لهذه التطورات سيكون انكماش دور الدولة كصانع وحيد للسياسة وموجه للاقتصاد المحلي ، ولهذا العامل اهمية خاصة في الخليج ، من زاوية ان حركة راس المال تعتبر إلى حد ما بوصلة الحياة - وتاليا السياسة - في المنطقة .

لكن المشهد ليس بالجمال الذي ربما توحي به السطور السابقة ، فعدا عن الكويت التي قطعت شوطا بعيدا في اتجاه التجديد السياسي ، فان بقية الاقطار الخمس الاعضاء في مجلس التعاون ، لا تزال بحاجة إلى الكثير من الوقت والكثير من الجهد ، وهي بحاجة - خصوصا - إلى قرارات كبرى ، للاقلاع من حالة الجمود السياسي وقطع الخطوات الاولى في الطريق إلى التجديد .

ثمة رأي يتبناه كثير من الناس فحواه ان حكومات المنطقة ، مثل جمهورها - ولا سيما القوى ذات التاثير اليومي - لا تشعر بحاجة شديدة إلى التجديد ، أو انها لا ترى في ما يدعى من جمود سياسي ، مصدرا لخطر داهم ، بل ربما وجد الطرفان في تفصيلات التجديد السياسي ، ومنها اقرار الحريات العامة مثلا ، ربما وجدا فيه حافزا لانواع من السلوكيات غير المتوافقة مع التقاليد الدارجة والمتسالم عليها ، وربما تتحول إلى سبب جديد للمماحكة السياسية ، التي لا تجد النخبة الحاكمة في نفسها قدرة أو رغبة على مواجهتها أو المشاركة فيها ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان التجديد لا ياتي إلا إذا اصبح حاجة ماسة للاكثرية ، فان علينا الانتظار طويلا قبل ان نرى ما ندعو اليه حيا يمشي على قدمين .

وثمة رأي يتبناه بعض السياسيين - وان كانوا قد توقـفوا عن التعبـير العلني عنه منذ بعض الوقت - خلاصته ان مجتمعات الخليج ليست جاهزة للتجديد الذي يعني حاكمية القانون ، اقرار الحريات العامة ، والمشاركة السياسية ، بالنظر لما يدعى من الافتقار إلى الانسجام الاجتماعي ، الناتج عن التجنيس أو الاصول القبلية لبعض السكان ، أو لان الثقافة العامة لا تزال قاصرة عن توليد روحية المداهنة والمساومة ، التي تؤسس للشراكة في المصالح والاتفاق على قواسم الالتقاء ، بدل الانشغال بالتمايز وعناصر الافتراق .

وثمة رأي سمعته شخصيا من عدد من السياسيين البارزين ، خلاصته ان الفائدة الكبرى للديمقراطية هي تقاسم المصالح العامة بالعدل والانصاف ، وهذه مشكلة غير قائمة في الخليج الذي توفرت فيه امكانات للعيش الرفيع ، انتفت معها الحاجة إلى البحث عن آلية للتقاسم المنصف للمصالح ، فالكل يحصل على ما يكفيه .

ولا اجدني بحاجة إلى مناقشة الآراء السابقة ، فهي ليست مطلقة ، وبالتالي فانها قد تكون الاستثناء على القاعدة ، وان تراءى لمن يتبناها انها هي الاصل وغيرها الاستثناء ، كما ان الديمقراطية - التي نراها الوليد الاهم للتجديد - ليست حاجة اقتصادية ، وليست اداة لمعالجة مشكلة الندرة ، ولا منبرا للتعبير عن الذات ، فهذه كلها من ثمراتها الطيبة .

 التجديد والديمقراطية ليسا حلقة من حلقات التقدم ، بل هي الشرط اللازم للتقدم ، وبدونها فان المدنية المنشودة ، لا تكون غير قشرتها الخارجية ، المتمثلة في البنايات والشوارع والسيارات والملابس النظيفة ، والديمقراطية شرط للاستقرار الاجتماعي ، وبدونها فان الدولة مضطرة لانفاق جانب كبير من مواردها في تعزيز اجهزة السيطرة المادية وما يسمى - تجاوزا - الامن ، ومع ذلك فان مسببات الاضطراب الاجتماعي والتمرد تبقى قائمة ومتفاقمة ، وان لم يلحظها الناظر للامور من الخارج ، والديمقراطية اخيرا هي الاداة الوحيدة المتوفرة في عالم اليوم ، لضمان كرامة الانسان وتحقيق انسانيته ، وتحريره من العبودية للاشخاص والاجهزة والمؤسسات السرية والعلنية .

اظهرت التجربة الفعلية في عدد من اقطار العالم ، ان التجديد وفتح المجتمع المغلق ، كان عسيرا ومكلفا ، رغم انه حدث في نهاية المطاف ، باختيار النخبة أو غصبا عنها ، وما نخشاه جميعا ان تتكرر هذه التجارب في الخليج ، ولهذا فانه من الضروري استعراض الفرص المتاحة لانتقال تدريجي وهاديء ، انتقال من حالة الانغلاق الاجتماعي والجمود السياسي ، إلى الانفتاح والحركة وتجديد الذات ، باستعمال آليات النظام الاجتماعي نفسها ، وبمرافقة ادوات النظام السياسي نفسه ، تغيير من داخل النظام لا بالالزام الخارجي ، كي نتدرج في سيرورة لينة تحقق الغرض ، دون الاضطرار إلى دفع الثمن المؤلم الذي اضطرت اليه اقطار أخرى .

ترى هل هناك فرص جدية لانتقال من هذا النوع في الخليج ؟
وهل يمكن للخليج ان يقدم مثالا على امكانية التقدم دون اللجوء إلى حلول موجعة ؟ .

ازعم ان هذا ممكن ، لكننا بحاجة اولا إلى وضع اليـد على مكامن الداء السياسي وتشخيص العلل .

يناير 2001

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...