||
الايمان بفردانية الفرد وحريته وتساويه مع غيره في القيمة والعقل ، هو الذي مكن
عقل الانسان الغربي من التفكير الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات ، فحوله الى
مبدع ||
قبيل منتصف القرن العشرين ، قيل للامام يحيى
حميد الدين امام اليمن السابق ،
ان فلانا وفلانا من ضباط جيشه يميلون للشيوعية ويدعون اليها، فطلب ارسالهم الى
موسكو في دورات تدريبية. وفرح الضباط الشباب بهذه النعمة غير المتوقعة. وضحك
الامام في سره لما عرف انه سيأتي في قادم الايام.
وانتهت القصة بسفر الشباب مدفوعين
بالامال العريضة والفرح، ثم عودتهم محملين بخيبة الامل مما رأوه على ارض الواقع.
قصة الشيخ عايض القرني في باريس
تحمل نفس الروح، وان جاءت على عكس ما حصل لضباط الامام يحيى.
الشيخ عايض القرني |
في احاديثه السابقة تحدث الشيخ عن
حياة تشبه حياة البهائم يعيشها انسان الغرب، مقارنة بالحياة الفاضلة التي يعيشها
قومنا في ديار الاسلام.
وفي مقالته الاخيرة عن رحلته الى باريس تحدث
بعكس ذلك تماما: حياة فاضلة يعيشها انسان الغرب مقابل حياة تشبه حياة البهائم
يعيشها العرب. والحق ان كلام الشيخ اليوم مثل كلامه بالامس، ثمرة انفعال باللحظة،
بعيدا كل البعد عما ينبغي لصاحب الفكر من التأمل في الاشياء والسعي للكشف عما وراء
قشرتها الخارجية.
ويظهر ذلك جليا في استنتاجه بان
"المجتمع عندنا يحتاج إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة لنخرج من القسوة والجفاء
الذي ظهر على وجوهنا وتعاملنا". ولو اعاد قراءة مقاله قبل نشره، فلربما اعاد
النظر في هذا الاستنتاج.
فالذين امتدح اخلاقهم في باريس لم
يصبحوا بالجمال الذي وصفه بعد تطبيقهم للشريعة، بل لأن "الحضارة ترقق
الطباع" كما قال اولاً.
والحضارة التي رآها هناك ليست
الشوارع الواسعة ولا البنايات الضخمة ولا السيارات الفخمة، ولا الفترينات الانيقة،
فعندنا من هذه خير وزيادة. اول الحضارة هي تنوع الافكار والثقافات وحرية النقد
والفصل الحازم بين المعرفة والسلطة الاجتماعية.
وثانيها هو المبالغة في قيمة الانسان
الفرد، واعتباره كفؤا مستقلا متمايزا بعقله.. وثالثها هو الحماية القانونية للحريم
الشخصي للفرد، اي المجال الذي يتمتع فيه بحرياته الخاصة التي هي جوهر وجوده
كانسان، مثل حرية التفكير والتعبير، وحرية التملك والتنقل والعمل. هذا الحريم هو
المجال الذي يسمح للفرد بتحقيق ذاته والاستمتاع بوجوده ككائن أعلى من بقية ما في
الكون. وهو حريم ينبغي حمايته ضد اي تدخل او خرق لأي مبرر ديني أو أخلاقي أو سياسي
أو سواه.
الايمان بفردانية الفرد وحريته
وتساويه مع غيره في القيمة والعقل، هو الذي مكن عقل الانسان الغربي من التفكير
الحر والتخيل والتأمل وتحدي المجهولات، فحوله الى مبدع. كما ان الضمان القانوني
لحريمه الشخصي وحريته المطلقة ضمن هذا الحريم، هو الذي مكن انسان الغرب من تحقيق
ذاته والاعتزاز بكفاءته، واغناه عن الاعتزاز بالقبيلة والجماعة والجنسية والبطولات
المتوهمة، فاصبح من بعدها انسانا مكتملا بقطع النظر عن أصله.
الفرد الذي يؤمن بكماله الذاتي وكونه
كفؤاً، يعرف ان هذه الاوصاف ثابتة له اذا اثبتها لغيره، فتساويه مع الغير مشروط
بتساوي اولئك معه، وحقوقه الفردية جميعا مشروطة بتمتع جميع الناس غيره بنفس
الشريحة من الحقوق.
لا يجادل أحد حول فائدة تطبيق
الشريعة، لكننا جميعا نجادل في تفاصيل التطبيق وكيفيته وشروطه والقائمين عليه،
والحق ان بلادنا وكثيرا من بلاد المسلمين لم تتخل عن تطبيق الشريعة في اي وقت،
لكنها مع ذلك لم تصل الى ما وصل اليه اهل باريس وغير باريس ممن رآهم الشيخ القرني
وممن لم يرهم.
تبدأ الحضارة بالانسان، وتتواصل مع
الفكر، وتتعمق مع العلم، فتصل أخيرا الى الانسان اللين المتسامح الحريص على اداء
الواجب، الذي يشعر بقيمته وقيمة الاخرين المساوية له، قيمته كانسان وقيمتهم كاعضاء
في المجتمع الانساني، قبل ان يكونوا مسلمين او عربا او حملة جنسية محددة او ابناء
قبيلة او مذهب محدد.
فيما مضى ذهب الشيخ القرني الى
امريكا وبريطانيا داعيا، متحدثا من فوق، ناظرا الى من دونه كمساكين يفتقرون لما
يملكه، وذهب اليوم الى باريس محتاجا فنظر اليهم كأناس يملكون ما يفتقر اليه، فوجد
فيهم ما لم يجده في زياراته السابقة.
تمنيت لو ان الشيخ وربما بقية
المشايخ ذهبوا الى بلاد العالم سياحا لا دعاة، والتقوا بأهل تلك البلاد لا بمن هم
على شاكلتهم، عندها سيرون في العالم غير ما عرفوه وسيكشفون حقائق ما خطرت على
بالهم، ولعلهم من ثم يجدون ان ما يقوله معارضوهم هنا ليس ثمرة انبهار بحضارة
الغالب، ولا هو توهم او خيال، ولا هو تنفيس عن عقد نقص، بل هو معرفة جديدة توصل
اليها هؤلاء وتأخر عنها أولئك .